كلمات منهجية غاية في التجرد العلمي تُفيد طالب العِلمِ أيَّما فائدة

قال سيدي الشيخ العلامة مُحمّد حسَن هيتو حفظه الله تبارك وتعالى: 

إننا نحن المسلمين من علماء ودعاة ومفكرين عندما نثني على إنسان ما في موضوع ما ، لا نعني أن هذا الإنسان معصوم عن الخطإ ومصيب في كل ما أتاه من عمل ، وإنما نريد الثناء عليه ، فيما عرضنا له من موضوعٍ الساعةَ ،أو على مجمل خلقه وسيرته . 

وعندما ننتقد إنسانا ما ، في موضوع ما ، لا نعني أننا نريد انتقاص هذا الإنسان ونفي صفة العلم عنه إذا كان عالما ، أو صفة الدعوة إذا كان داعية ، ولا نريد الحط من منزلته ، وإنما نريد أن نبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية ، مع المحافظة على ما له من مكانة في العلم ، وتضحية في الدعوة ، وأثر في الفكر ، إذ النقاش، والنقد حول فكرة معينة ، لا حول الرجل وفكره ودعوته . 

ونحن المسلمين لا يوجد عندنا إنسان معصوم عن الخطأ ، أيا كان هذا الإنسان ، صحابيا أم تابعيا ، أم إماما مجتهدا . أم من عامة الناس ، سوى من عصمه الله تعالى من نبي أورسول ، ومن سواهم ، يؤخذ منه ويرد عليه . كما قال الإمام مالك رضي الله عنه - : (( كل رجل يؤخذ منه ويرد عليه ، إلا صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبره صلى الله عليه وآله وسلم)). يستوي في ذلك عندنا كل إنسان من المسلمين كبر شأنه أو صغر ، علت منزلته أو نزلت ، لأننا جميعا خاضعون لشرع الله ، وهو الحاكم علينا ، إذ الشرع حاكم ، وليس محكوما عليه ، ونحن نعرف الرجال بالحق ، ولا نعرف الحق بالرجال ونزن الإنسان بميزان الشرع ، ولا نزن الشرع بميزان الناس.

والدين عندنا غير منوط برجل ، لا يؤخذ إلا منه ، ولا يروى إلا عنه ، ولا يعرف إلا به ، لأن ديننا جاء ليوجه الناس ، لا ليوجَّه من قبل الناس . 

فما قاله أي إنسان في الدنيا نعرضه على مصادر التشريع فما وافقها : أخذنا به ، وما خالفها : أعرضنا عنه . ولا يغير هذه القاعدة مكانة الرجل ولا منزلته . 

وإنما يعرف الحق بالرجال عند غيرنا من الوثنيين ، الذين اتخذوا من الرجال أربابا لهم من دون الله ، فما رضوا عنه : فهو الحق ، وما سخطوا عليه ؟ فهو الباطل ، وما قالوه لا يعدو الصواب وإن كان في الواقع خطأ ، فأنزلوا الناس منزلة الله ، ولا كذلك نحن المسلمين ، وليس عندنا من يقال فيه : لا يسأل عما يفعل إلا الله ، أو من أوجب الله على الناس طاعته من نبي أو رسول . 

وإن مما يخل بمكانة الرجل ، وينزل بمرتبته ، أن يوضع في منزلة غير منزلته ، فمن زعم أن زيدا من الناس معصوم لا يخطئ ، فقد وضعه في منزلة غير منزلته، ألا وهي منزلة الله ، أو الرسول ، وهذا هبوط بالإنسان، إذ الهبوط بالمرء عند العقلاء أن يوضع في غير موضعه، علا الموضع أو نزل، لقد جاء الإسلام ليخرج بالناس من عصبية الجاهلية المنتنة ، إلى سماحة الدين الغضة ، ومن التحيز لقبيلة أو جنس أو لون إلى العدالة والمساواة بين جميع الخلق. 

ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينقد بعضنا بعضا من أجل الإصلاح ، فجعَل المرء مرآةً لأخيه ، وأمرنا أن نقبل النقد ، لأن كل بني آدم خطاء.

ولقد علمنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى رأسهم - الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم- بسلوكهم العملي ، كيف يرضى الإنسان المسلم بما يوجه إليه من نقد ، ويستغفر الله مما كان قد وقع به من خطأ. 

لقد رد عبد الله بن عباس ، وهو من أصغر الصحابة سنا ، على أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في كثير من مسائل العلم ، ولم يقل أحد من الناس إن ابن عباس أخطأ ، لأنه رد على عمر ولم يفهم أحد من الناس أن ابن عباس كان ينتقص عمر أو يحط من شأنه رضي الله عنهما. 

بل ردت عليه امرأة ، وأبانت عن وجه خطئه وقبِل، واستدركت عائشة رضي الله عنها على العشرات من كبار أصحاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يفهم أحد منهم أنها أساءت ، لأنها بينت خطأ أو وهم من أخطأ أو وهم ، ولم يفهم أحد من الناس أنها كانت تنتقصهم ، أو تحط من شأنهم.

وردَّ الشافعي على مالك رحمهما الله تعالى، في كتاب كامل (( كتاب الوضع على مالك )) ولم يقل أحد أن الشافعي أساء ، أو انتقص مالكا ، كيف؟ وهو القائل فيه : إذا ذُكر العلماء فمالك النجم ، وكان تلميذا له ، تفقه عليه ، وروى عنه، لأن الأمر ليس أمر شخص ، وذات ، وهوى ، وإنما هو أمر دين يستوي فيه قدم الجميع ، والحق أحق أن يتبع .

لقد كان القاضي عبد الجبار من أشد الناس تمسكا بأصول الشافعي ، شديد الدفاع عنها ، ولما وصل إلى مسألة نسخ الكتاب بالسنة ، ونسخ 

السنة بالكتاب - والشافعي يقول : لا ينسخ الكتاب بالسنة ، ولا السنة بالكتاب ، في مذهب خاص له، انفرد به عن جمهور الأصوليين ، وعلى تفصيل فيه ، ليس هذا مكانه - عندما وصل - القاضي إلى هذه المسألة قال : الشافعي كبير ، والحق أكبر منه ، إلا أن القرآن ينسخ السنة ، والسنة تنسخ القرآن ، ولم يقل أحد من الناس إنه أساء ، وإنما قالوا ، 

ولازالوا يقولون ، إن القاضي من أشد الناس تمسكا بأصول الشافعي ، إلا أن القاضي أنزل الشافعي منزلته البشرية ، ورد عليه فيما يعتقد أنه خطأ . 

ومن قرأ كتب فقهاء هذه الأمة وجد أمرا عجبا ، من حرية الرأي - ضمن الضوابط والقواعد العلمية وحرية النقد والاختيار ، مالم يكن هوى . وكان هذا دأب سلف هذه الأمة ، وخلفها من العلماء ، والدعاة ، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن من عصبية ، كادت وللأسف تذهب برواء كثير ممن يتكلمون في هذا الدين ، ويدعون إليه . 

فوصل بعض الشباب إلى مرحلة ، إذا تقلد فيها رأيا عمى عما سواه ، وصمَّ أذنه عند سماعه ، وكأنه أوحي إليه أن الله قد جمع الحق في هذا الذي أشرب قلبه بمحبته ، فهو ليس بمستعد لسماع أي نقد ، أو أي نصح ، أو أي إعتراض ، ومن ثم فهو ليس على إستعداد لأن يعتقد أن هذا الذي أعتقد رأيه قابل للخطأ .. ؟

بعض الشباب قرأ لسيد قطب - رحمه الله، وأسكنه فسيح جنته - وتعشق كتبه وأفكاره، وإلى هنا نعتبر هذه فضيلة، ونقبلها، إلا أنه وصل الأمر ببعضهم إلى ما ذكرت، مما وصفت من العصبية المفرطة لكل ما قال، وهذا لا نقبله . 

وبعضهم قرأ لأبي الأعلى المودودي - رحمه الله ، وأسكنه فسيح جنته - وصار أيضا أمره لما ذكرت . 

نحن لا ننكر أن سيدا، وأبا الأعلى، وغيرهما، قد أثْروا المكتبة الإسلامية بتراث فكري كان ينقصها ، وسدوا ثغرة من ثغر العلم ، وجهروا بمبادئ الحق ، وزيفوا أباطيل الخصوم، وجزاهم الله عن كل ما قرأ لهم واستفاد منهم خيرا . 

إلا أن هذا لا يعني أنهم معصومون، بل هم من بني آدم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" كل بني آدم خطاء ".

وربما جاء من بعدهم من يساويهم، بل يفوقهم، وفضل الله واسع ، يؤتيه من يشاء، ولكل مجتهد نصيب، ولا يُخِلُّ ذلك بمرتبتهم ومقامهم. 

فإذا ما سمعنا اعتراضا على أحدهم، ممن ألفنا وأحببنا، لا يجوز أن نرد الدعوى والاعتراض ، لأن قائل الكلام فلان ، فلا اعتراض عليه، ولا يخطئ، بل نسمع الاعتراض، ونناقشه، فإما أن نقتنع، وإما أن نقنع. 

والجدال يجب أن يدور حول الفكرة المعتَرض عليها، لا حول قائلها، لأن قائلها لم يقل هذه الكلمة فقط حتى يصبح رهينا لها، ولن ينقصه أن يثار حول بعض آرائه الجدل ، لما ذكرت من سلوك سلف هذه الأمة وخلفها ، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه . 

وعلى العكس من ذلك نجد إنسانا آخر، يغالي في النقد ، ويفرط فيه ، فيأتي إلى كلمة جرت على لسان أحد الأشخاص ويجعل منها شخصية 

الرجل الكامل ، ومن ثم يفجرها فيه ، ليذهب بكل فضل له من أجلها .

ومن هذا القبيل ما يكون من بعض الدعاة الذين يتخذون الدعوة وسيلة لتثبيت مواقفهم ، وتدعيم آرائهم ، وإن كانت مواقفهم وأراؤهم خاطئة . 

يختصم اثنان حول فكرة ما ، أو حول أمر معين ، فما يكون من أحدهما إلا أن يذهب إلى أصحابه ، الذين يؤمنون بفكره ، ويقول لهم : إن فلانا اعترض علي ، أو علينا ، وما يكون منهم إلا أن يقاطعوه ، بل يذموه ، دون أن يعرفوا وجه اعتراضه ، ودون أن يناقشوا رأيه ، أو يسمعوا كلامه بل لمجرد سخط فلان عليه ، أو لمجرد . اعتراضه . 

فجعلوا من أنفسهم إمعة يأباها الإسلام ، ويأباهم الخلق الإسلامي الكريم، ولقد حفظوا جميعا أن الله عاتب نبيه داود عليه السلام إذ تسرع بالحكم في مسألة النعاج ، دون أن يسمع من الخصم، وعرفوا جميعا أن هذه عصبية يمقت الإسلام عليها . 

وأدركوا جميعا أننا يجب علينا أن نبني آرائنا في الرجال على قواعد العقل والدين، لا على قواعد العاطفة والهوى . 

وإن هذا الميزان يقول : لا يمكن أن ينقلب الرجل ، وبلحظة واحدة ، من صديق إلى عدو ، دون أن يحدث أي تغير في فكره أو دينه ، بل لمجرد أنه رأى رأيا يخالف رأي من يحب ، أو اعترض عليه . 

وتزداد الشقة ، ويتسع الخلاف ، وينقض العدو فيفتك بالفريقين ، بعد أن تفرقا ، ففشلا ، فذهبت ريحهما .

ولولا أن الظروف لا تسمح لي بالكلام التفصيلي : لسردت من الوقائع والأرقام ما يشيب له رأس الداعية مما يعانيه إخوتنا المسلمون في الدعوة اليوم . 

ولذلك يجب علينا جميعا أن نتحلى بفضائل الإنصاف ، وأن نعلم أن الأشخاص ذاهبون ، وأن الدين باق ، وأن الأشخاص محكومون ، وأن الشرع حاكم ، وأن كل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب الدعوة عليه السلام ولا يجوز بحال من الأحوال أن يكون المرء إمعة ، إن أحسن الناس أحسن ، وإن أساءوا أساء . 

فما جاء الإسلام إلا لينقذنا من العصبية ويبعدنا عن الهوى والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.

(المُتَفيهقُون؛ ص٩٦)

وسوم: العدد 984