"الفساد" كما ورد في المعجم القرآني... فساد في أمر الدنيا وفساد في أمر الدين

وقد وردت مادة "فسد" ومشتقاتها في الكتاب العزيز، في نحو خمسين موضعا. ووردت مصدرا وفعلا واسم فاعل مفردا، وبصيغة الجمع..

وأوجز الراغب الأصفهاني صاحب مفردات القرآن الكريم القول فيها، فقال: الفساد خروج الشيء، أو الأمر، عن حد الاعتدال، الذي يكون به الصلاح، كثيرا كان هذا الخروج أو قليلا.

وقوله الشيء أو الأمر، يعني أن الفساد يكون في الأشياء كما يكون في المعاني، فنقول فسد الطعام، وفسد الشراب، وفسد الزرع، كما نقول فسدت الأخلاق، وفسدت الذمم، وفسدت المجتمعات، وفسد الحكام.

وأسهب صاحب اللسان/ لسان العرب/ في ذكر وجوه لااستعمالات هذه اللفظة فقال:

 الفسادُ: نقيض الصلاح، وفسد يفسُدُ، ويفسِدُ، وفَسُدَ فسادا.

وقوله تعالى: "(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا)، مفعولا لأجله، أي يسعون في الأرض لإشاعة الفساد."

قال: وقومٌ فسْدَى. أي فاسدون. والمفسدة: خلاف المصلحة. والاستفساد: خلاف الاستصلاح. وأمر مفسدة: فيه فساد، ويسبب الفساد.

وأنشد: إنّ الشبابَ والفراغَ والجِدة – مفسدة للعقل أي مفسدة

وقوله: الجِدة يعني اليسار والغنى. وحفظناها: مفسدة للمرء أي مفسدة، ولا فرق.

وقالوا:

فسد الحالُ، أو الأمرُ، أو الشيءُ، اضطرب، وأصابه الخلل.

وقال في المحيط:

فَسَد: كنصر أي فَسَد يفسُدُ. وعقد أي فَسدَ يفسِدُ، وكرُم أي فَسُدَ يفسُد، فسادا، وفسودا، ضدَّ صلُح، فهو فاسد وفَسيد، من قوم فَسْدَى. قال: ولم يُسمع انفسد. قلت بمعنى لا أمر يفسد من نفسه.

قال: والفسادُ: أخذ المال ظلما، يعني من معاني الفساد.

والفساد: الجدَبُ، قلتُ: ضد الخصب. والمفسدةُ : ضد المصلحة..

وفسّد الأمر تفسيدا: أفسده.

وتفاسدوا: قطّعوا أرحامهم.

ومن أهم سياقات القرآن الكريم في استعمال لفظ الفساد.. ثلاث محطات

الأولى: قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.... الأنبياء/ 22...

ولهذه الآية في دلالتها العامة على التناسق والانسجام في الخلق، والخاصة على الوحدانية في التدبير، ونفي التنازع المؤدي للفساد وللفوضى، أخوات..

منها: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض.. المؤمنون 71

ومنها: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.... الروم 41

فحيثما توجه الإنسان بعلمه وفكره وما أنعم الله به عليه، يجد نظاما وانسجاما، وتكاملا، في منتهى الدقة، ثم لا يزال هذا الإنسان يتدخل بفساده أو بإفساده حتى يظهر الفساد والاختلال، لا تفكر في هذا السياق من فهم الفساد، في السلوكيات الأخلاقية المنحرفة من سفك للدماء وشره للأموال، بل نفكر فقط فيما يسمى السلوكيات "البيئية" ونتأمل بَدأ من ثقب طبقة الأوزون "درع الأرض" والدفيئة الكونية، وتلوث المحيطات بمخلفات حضارة إنسانية، تفسد على الأجيال القادمة ظروف عيشهم.

هذا النوع من الفساد، يلح عليه القرآن الكريم في آيات متعددة، حيث يتم إيراده في الحديث عن الفساد والمفسدين، والذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، بالمعنى الإطلاقي لكلمة الفساد..

والآية الثانية التي نراها عنوانا لمادة الفساد في المعجم القرآني، هي في اعتراض الملائكة عليهم السلام بعلمهم المقدر، عندما اعترضوا اعتراضهم شديد التهذيب، الذي جاء على صيغة الاستفهام، وأراه حقيقيا لا مجازيا، على خلق الإنسان

 (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)

 ومهما يكن مصدر معرفة الملائكة بمستقبل الإنسان، وما سيصدر عنه من فساد وسفك للدماء، تبقى إشارة الملائكة إلى هاتين الحقيقتين قائمةـ دالة على كل أشكال الفساد، وتم التأكيد على سفك الدماء لأنه التعبير الأوضح عن همجية الإنسان وعدوانيته وتجاوزه حين يفسد لكل الحدود...

ثلاثون ألف طفل سوري قدموا قرابين على مسرح الإنسانية في القرن الحادي والعشرين في عشر سنوات..

ليست القضية كما في عذراء النيل التي كانت تقدم رشوة للنيل حتى يفيض كما اعتقد قدماء المصريين منذ ألف وخمس مائة عام!!

ثلاثون ألف طفل، ولو تسامحنا الشبكة السورية لحقوق الإنسان!!

في كل عام ثلاثة آلاف طفل..

في كل يوم عشرة آلاف طفل ، قرابين من أجل مَن؟ وماذا؟ وكيف يحصل هذا؟

وتحت هذا العنوان المشترك للفساد الذي يتضمن تخريب البيئة والعدوان على الحياة وعلى القيم، تجد أيضا آيات أخرى، تقرر هذه الحقائق الانكارية، على أقوام غاية ما وصفهم به خالق الوجود أنه يسعون في الأرض فسادا..

قال: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لفسدت الأرض.... البقرة 251

 ليبقيَ في الناس (أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) عن الفساد بكل ضروبه وأشكاله وعناوينه ومفرداته، فساد الكون، وفساد الحياة، وفساد المجتمعات، وفساد التجمعات..

والعنوان الثالث الذي يمكن أن نختاره عنوانا لسياقات لفظ الفساد والمفسدين في القرآن الكريم هي قوله تعالى في وصف قوم، وما أكثرهم بين ظهرانينا (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ..) ... البقرة - 21

وتحت مثل هذا العنوان من االانهماك في الفساد، مع غياب الإحساس، والانهماك في الغفلة أو فيما يسمونه في هذا العصر الرغبة وطلب إشباع النهمة، نتابع كثيرا من آيات القرآن الكريم، ترد على أصحابها في سياق الانكار..

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) .. محمد – 22

(وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)

ويقول في صفة بعض الأقوام على لسان نبيهم صالح (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ..)...

ثم نجد من أوفى الآيات القرآنية في تقرير الحقيقة الراسخة في وجوب رسوخ الولاء بين أهله، من مؤمنين وغيرهم قوله تعالى: بعد التأكيد على حقيقة الولاء بين المؤمنين، على طبقاتهم، ثم بين الكافرين على ما هم فيه (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) حقيقة إيمانية يتسبب غيابها عن العقول والقلوب، بخلل عام في حياة الناس كالذي يعيشه المسلمون اليوم..

 وفي السياقات القرآنية كافة، تحذير من الفساد، وترهيب للمفسدين، بما سيستحقونه في دنياهم وعقباهم..

(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) مطلقا لا في أمر الدين، ولا في أمر الدنيا.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ)...

ويبقى اللفظ القرآني مفتوحا على كل ما يدخل الخلل والاضطراب والمفاسد على حياة الناس...

ودلالاته المتعانقة حيثما ورد في الكتاب العزير، كلها تستشرف حقيقة واحدة هي أن شريعة الإسلام شريعة صلاح وإصلاح ونظام وانسجام وأن الله لا يحب المفسدين...

في ترجمته لكتاب أرسطو حول "الوجود والعدم" استخدم ابن سينا عنوانا آخر للترجمة لعله أدق تعبيرا حين عنون كتابه "الكون والفساد"

أن نكون أو أن نضمحل..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1007