عودة حلب إلى بازار السياسة

لاقت تصريحات ياسين آكتاي بشأن اقتراح يخص مدينة حلب اهتماماً واسعاً في وسائل إعلام سورية معارضة. من المحتمل أن هذا هو العنوان الذي توجهت إليه التصريحات المذكورة، فوصلت إلى هدفها. صحيح أن آكتاي ليس شخصاً عادياً بل هو واحد من مستشاري الرئيس أردوغان السياسيين، إضافة إلى موقعه القيادي في حزب العدالة والتنمية. وهو معروف لدى الجمهور العربي من خلال حضوره الإعلامي والثقافي، وبخاصة على شاشة المحطة الحكومية الناطقة بالعربية. صحيح كل ذلك، ولكن يبقى أنه في النهاية ليس ناطقاً رسمياً باسم السلطة في تركيا، ويبقى ما قاله في إطار الرأي الشخصي.

هذا لا يعني، بالمقابل، أن آكتاي يمكن ان يستسلم لإغراء إطلاق رأيه الشخصي بخصوص أمر يدخل في إطار التحول السياسي لأنقرة في الصراع السوري في اتجاه التطبيع مع نظام بشار. ضمن هذه الحدود إذن ينبغي قراءة تصريحات آكتاي. وأول ما يجب التذكير به هو أن فكرة سيطرة «قوة مراقبة تركية ـ دولية مشتركة» على مدينة حلب لتأمين مناخ مناسب لعودة مليوني لاجئ سوري إلى بلادهم، سبق وطرحها الأتراك قبل سنتين، ولم تلق تجاوباً من الجهات الفاعلة. فما الذي تغير حتى يعاد طرح الفكرة، حتى لو كان بشكل غير رسمي؟

لقد تغير الكثير حقاً. ربما أهم ما تغير هو الورطة الروسية في حربها الفاشلة والمكلفة على أوكرانيا، وما أدى إليه ذلك من تأليب الغرب والرأي العام ضد موسكو التي باتت تعيش عزلة خانقة لا آفاق مرئية لانحسارها. هذا الوضع للدولة الوصية ـ عملياً ـ على سوريا سمح للفاعلين الإقليميين بهامش حركة واسعاً في الصراع السوري، وبخاصة بعد موت «العملية السياسية» (اللجنة الدستورية) في جنيف، وهو الهامش الذي تريد تركيا الآن وضع قواعد لعب جديدة فيه أساسها الانفتاح على نظام الأسد، كذلك تلعب دولة الإمارات في هذا الهامش، وقد شاع مؤخراً أنها قد تشكل جزءاً من المسار الجديد في الانفتاح على نظام بشار، برفقة كل من تركيا وروسيا.

ومن أهم التغيرات التي سمحت بإطلاق أفكار جديدة هو التدهور المطرد في حالة «سوريا الأسد» نظاماً وسكاناً محكومين من قبله، أهم مظاهره عجز النظام عن تأمين المتطلبات الأساسية كالوقود والطاقة الكهربائية وغيرها مما لا يمكن أن يقوم اجتماع بشري بغيابها. وقد ارتفعت أصوات محكومي الأسد بالشكوى، ولم يعد إلقاء المسؤولية على أعداء الخارج أو قانون قيصر يقنع أحداً حتى من أشد مواليه حماساً.

من جهة أخرى جاءت إدارة جديدة إلى واشنطن بقيادة جو بايدن، صحيح أنها غير مهتمة بالموضوع السوري، ولكن بقاء قواتها الرمزية في شرق الفرات بات من المسلمات. أضف إلى ذلك أن صراع واشنطن مع موسكو يقتضي منها تعزيز حضورها في سوريا بهدف تعطيل أي خطط سياسية روسية. وهو ما ظهر واضحاً في رفضها للتطبيع التركي مع النظام، كما لرفضها أي تدخل عسكري بري جديد من قبل الجيش التركي.

أخيراً هناك إيران التي يخوض نظامها صراعاً وجودياً ضد ثورة الشعب المستمرة برغم القمع وأحكام الإعدام، ودخلت شهرها الخامس. وهذا أيضاً مما يمنح تركيا هامش حركة واسعاً للعب في الملعب السياسي السوري وطرح أفكار جديدة أو مستعادة.

في هذا الإطار قد لا تبدو فكرة «سيطرة تركية مؤقتة» حسب تعبير آكتاي، في مقالته المنشورة في صحيفة «يني شفق» مغرقة في الخيالية، بصرف النظر عن إمكانات تحقيقها في الواقع. فالدكتاتور السوري الذي طالما اتهمه الغرب بأنه «منفصل عن الواقع» ربما استعاد علاقته بالواقع في ظل مآلات تبعيته لروسيا وإيران، ومصير خياراته الحربية، وما وصلت إليه أحوال البلاد والنظام من اهتراء شامل، فبات ثمرة ناضجة لتجرع سم المصالحة مع أردوغان، بعد عقد من العداء المطلق، بما في ذلك تقديم تنازلات كبيرة، ليس من جيبه طبعاً بل من «السيادة الوطنية» التي أصلاً لم يبق منها شيء، فلن يضيره تقديم المزيد. هذا كله على فرض أن عملية التطبيع جارية في مسارها المرسوم إلى خواتيمها المعلنة بلقاء يجمع رأس النظام مع الرئيس التركي.

سبب التشكيك في جدية هذا المسار، بصرف النظر عن الجزئية المتعلقة بموضوع حلب، هو علاقة الانفتاح التركي على النظام بالانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا. فأردوغان يعوّل على مسار التطبيع مع النظام أن يعيد إليه بعضاً من شعبيته المتراجعة على وقع الأزمة الاقتصادية، لأن الرأي العام التركي يبدي ميلاً لهذه السياسة التي يرى أن من شأنها أن تخلص تركيا من عبء اللاجئين السوريين. بصرف النظر عن صحة هذا الافتراض من عدمها فهي قناعة شائعة ترتبط بأخرى مفادها أن أحد أهم أسباب الأزمة الاقتصادية هو عبء اللاجئين السوريين.

هناك مراقبون مختصون بالسياسة التركية تجاه سوريا يشككون في جدية مسار التطبيع مع النظام، ويعتبرون أنه لن يتجاوز كونه حملة علاقات عامة هدفها صناديق الاقتراع. ذلك أن البون الشاسع بين توقعات كل من أنقرة ودمشق من التطبيع من شأنه أن يوقفه في كل لحظة. ومن وجهة نظر الحكومة التركية إذا لم يحقق المسار أي نتائج عملية، فهو على الأقل يترك في يدها أوراقاً مهمة للتفاوض والابتزاز تجاه واشنطن وموسكو والمعارضة السياسية التركية معاً.

وسوم: العدد 1015