الجيوش تكذب أيضاً: ماذا وقد اقتربت ذكرى الأربعين للبرهان وحميدتي؟!

القادة في الحروب والصراعات بشكل عام يكذبون، ربما لا يفعلون شيئاً غير أنهم يكذبون، لكن حظهم في أرجلهم، لأن الإعلام هو من يتم تحميله المسؤولية كاملة، وأحياناً يكون الإعلام ضحية، حتى وإن لم يكن مطروحاً على جدول أعماله أن يكون بوقاً، وأحياناً يكون متواطئاً بحكم كونه جزءاً من دعاية الحكام، حتى أصبح سؤال الوقت في كل حرب أو صراع هو كيف يحافظ الإعلام على مصداقيته في زمن الحرب؟!

من تابع بيانات طرفي الصراع في السودان، يتبين له حجم الأكاذيب التي تم الترويج لها منذ اليوم الأول، فقد حرص كل طرف على الانتصار من خلال البيانات العسكرية، ما دام هذا قد تعذر على الأرض، وكل طرف غيب زعيم الطرف الآخر، ولو سلمنا بصحة هذه البيانات، لكنا الآن في انتظار الاحتفال بأربعين القائدين الكبيرين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان حميدتي!

بعيداً عن الإعلام الموجه، الذي يعتمد رواية واحدة، ويسوق لها، فإن المتابع حتى للإعلام الموضوعي سوف ينتهي به الأمر الى الإصابة بالصرع، من جراء تكثيف جرعات الأكاذيب في هذه الحرب، ومشاهدو الرواية الواحدة في نعيم، وإن كانت المفاجأة ستكون في استسلامهم لتصديق ما يذاع، وهناك قناة مثل «سكاي نيوز عربية»، تروج لرواية قوات الدعم السريع. ومن الواضح أنها رواية تصنع في خارج السودان، تماماً كما تم الترويج لرواية نجاح الانقلاب العسكري في تركيا، وهو الخبر الذي صنع خارج الحدود التركية، لكن بعد ساعات تم نسف هذه الرواية تماماً، وقامت «العربية» و»سكاي نيوز» عربية بحذف الأخبار المضللة من مواقعهما على الإنترنت!

في هذه الحالة، يكون الإعلام بوقاً، لكن في الأخير فإن الاعلام مفعول به، وأحياناً يكون كذلك، رغم أنه لا ناقة له ولا جمل في الأمر، وهو ليس أكثر من مستهلك لما تنتجه آلة الحرب، وما تنتجه هو قول ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى!

إذاعة «صوت العرب» وحرب 1967

في الغزو الأمريكي للعراق، أمكن لـ «الجزيرة»، أن تنقل الحقيقة على الأرض، وتحبط الرواية الأمريكية بسقوط «أم القصر»، الأمريكان يكذبون أيضاً، فيعلنون سقوط «أم القصر»، وتنسف «الجزيرة» من خلال مراسليها هذه الرواية، والثابت إنها لم تسقط مع الرواية الأمريكية لكنها سقطت بعد ذلك بأيام، لكن لأن الحروب يكتبها المنتصر، فقد تم اعتماد محمد سعيد الصحاف وزير إعلام صدام حسين رمزاً للأكاذيب، وكأن الغزاة لم يكذبوا أبداً!

الغزو الخارجي له طبيعة خاصة، فالغزاة ليسوا هم سادة الموقف، على الأقل في مرحلة ما قبل الغزو، لكن الصراع في السودان مختلف في طبيعته، لأن دور المراسل يختفي تقريباً، فبيانات العسكريين وحدهم هي المصدر الوحيد للخبر، بكل ما فيها من أكاذيب مرتبطة في مجملها بالجانب غير المسؤول لدى الفريقين، فهم يخاطبون جماهيرهم عبر وسائل الإعلام، ولإثبات أنهم مستمرون، وصامدون، وأن الطرف الآخر على وشك الاستسلام الكامل، بدون قيد أو شرط، وفي النهاية يُنتقص من مصداقية الإعلام بسبب نشره لهذه البيانات!

في حرب يونيو/ حزيران 1967 تحملت إذاعة «صوت العرب» مسؤولية الهزيمة، وصارت حنجرة أحمد سعيد هي وحدها المروجة للأكاذيب، ويحدث أن ينشر ناشر عبر منصات التواصل الاجتماعي صوراً لصفحات صحف هذه الأيام، فيكون هذا مثاراً للتندر، والتبشير بأن الجيش المصري على أعتاب تل أبيب، وأن الجيش أسقط طائرات إسرائيلية، بعدد نجوم السماء!

وإزاء الشعور بالخيبة تم تجاهل أن هذه البيانات العسكرية صدرت من قيادة الجيش، وأن أحمد سعيد بكل غوغائيته، كان جزءاً من غوغائية المرحلة، وأنه ليس أكثر من مذيع مسير لا مخير، وأنه يتلو بيانات القيادة العسكرية، دون أن يكون متاحاً له التوصل للحقيقة، وأن حماسه هو حماس أي وطني سعيد بانتصارات جيش بلاده على الأعداء، ليكون من نتاج هذه الحرب هي نهاية تأثير «صوت العرب» كذراع للسلطة، فقد فقدت مفعولها وتأثيرها، إلا من حيث نقل حفلات أم كلثوم للعالم العربي! لكن تم التعامل على أن «صوت العرب» هي من ضللت الناس، وأن أحمد سعيد هو رمز من رموز التضليل على هذا الكوكب، وصار صوته مادة للفكاهة.

ليلة القبض على قائد الأسطول الأمريكي

وكما أن أحمد سعيد بريء من بيانات الانتصار الزائف، فكذلك فإن محمد الغيطي بريء من العملية المظفرة للضفادع التابعة للبحرية المصرية، من حيث أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي، الذي دخل المياه الإقليمية المصرية، مهدداً قيادة الجيش ممثلة في عبد الفتاح السيسي، بعودة الرئيس محمد مرسي للحكم، وإلا فسوف يضربون القاهرة بالنابلم، ونسي هذا الأمريكي المسكين أنه يواجه خير أجناد الأرض، وعليه سبحت الضفادع البشرية، في المياه، لتأتي بقائد الأسطول أسيراً.

ورغم الجنون، الذي يملأ المدينة حينذاك، فلم يصل الرأي العام المنحاز للانقلاب العسكري إلى درجة من الهوس تدفعه لتصديق هذه «الحدوتة»، والتي كانت مثاراً للسخرية داخلياً وخارجياً، لكنها كانت سخرية من مذيع تجاوز حدود المعقول، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان!

لقد تبين أن الغيطي لم يقدح من رأسه، فبعد أن انتشرت الرواية من باب السخرية، أطل علينا الجنرال مهاب مميش، عبر إحدى الشاشات، ليتبنى الرواية نفسها باعتباره مصدرها، وبحسبانه قائد البحرية المصرية الذي تلقى الإنذار الأمريكي شديد اللهجة، واتصل بالفريق أول عبد الفتاح السيسي، فكان قراره بالتعامل مع هذا التجاوز مهما كان صاحبه، وعلى الفور كانت ضفادعنا الباسلة تقوم بأسر قائد الأسطول، وتودعه أحد السجون!

أذهلنا الرجل يومئذ، لكن حسن حظه أن الصدمة الأولى كانت عندما روى الغيطي الحكاية، وربما لم يكن بإمكان الناس أن تستوعب أن يكون هناك مصدر لحكاية ما قبل النوم هذه، وأن هذا المصدر بحجم الرتبة العسكرية للجنرال مميش، أيعقل أن تصل البلاهة بالقوم إلى هذا الحد وعلى نحو جعلهم أضحوكة الكوكب؟!

مؤخراً استضاف أحمد موسى جنرالاً متقاعداً هو اللواء سمير فرج، الذي ظهر ذات محفل في حضور السيسي وتبين أنه كان قائد السيسي العسكري، وتحدث هذا الجنرال عن العملية صقر 204، والتي انتهت بتحرير الجنود المصريين في مطار مروي في السودان، واعتذار قائد الدعم السريع. انظر كيف أن الرواية لم يذعها مصدر مسؤول، ولم ينشرها المتحدث العسكري على صفحته، ولم تذعها أي وسيلة إعلامية أخرى إلا بعد هذا الإعلان من اللواء فرج ونقلاً عنه!

بيد أن أحمد موسى هو أفضل حالاً من محمد الغيطي، لأنه لم يتبن الرواية في غياب مصدرها، كما فعل الغيطي، فصارت الرواية لصاحبها، واللافت أنه لا أحد اهتم بما ذكره اللواء فرج، ولم تتبناه أقلام السلطة أو أذرعها الإعلامية، ويبدو أن الإجماع انعقد على ضرورة التعامل معها على أنها فقرة من البرنامج القديم «ساعة لقلبك»!

شجاعة ضابط

لقد كنت أول، نعم أول، من طالب الناس بعدم السخرية من الجنود المصريين، وهم يتعرضون للإهانة من جانب مليشيات الدعم السريع، وكنت أول، نعم أول، من رأى في ردود الضابط المصري شجاعة، ينبغي التركيز عليها، بدلاً من توجيه السخرية المرفوضة، وتبعني من تبعني، لكني كنت أتوقع أن يتم الاحتفاء التلفزيوني بهذا الضابط، بعد عودته، وهو وإن مثل احتفاء مستحقاً، فإنه يتفق مع سلوك أهل الحكم في باعتبارهم «أهل حظ» ومحيي أفراح، لكن الغريب هو في عدم ظهوره إلى الآن، أو حتى من باب التعريف به، ولاستكمال رواية اللواء سمير فرج، الخاصة بالعملية «صقر 204»، التي أرهبت حميدتي منتحل صفة الفريق!

ويدهشني الآن، عدم استغلال الإدارة الأمريكية تشكيل لجنة العفو الرئاسي، لتقديمها طلباً بالإفراج الصحي عن قائد الأسطول السادس الأمريكي الى الآن، وإذ تم الإعلان رسمياً عن آسره فلم يعلن عن الإفراج عنه، ولم يطلب الأمريكان ولو استرجاع متعلقاته الشخصية مثل زيه العسكري والكاب، باعتبارهما «عُهدة» خاصة بالجيش الأمريكي!

«يعملها الجنرالات، ويتحمل وزرها الإعلام»!

وسوم: العدد 1032