لغتُنا العربية ... والغزو الثقافي

تعرضت بلادنا خاصة ، وأمتنا عامة لأنواع من الغزو على مرِّ العصور ، ولا زالت تتعرض لغزو عسكري استعماري ، و لغزو ثقافي ، وغيرهما من أنواع الغزو الذميم بكل أشكاله ومنطلقاته وغاياته . ولقد صمدت أمتنا في وجه هذا الغزو ، وردَّته خائبا ، ولعل من أخطر أنواعه ... الغزو الثقافي الذي يحمله المستشرقون والآخر الذي تخطَّى الحدود وكسَّر القيود ، ودخل إلى كل مكان في حياتنا عن طريق وسائل الإعلام المتعددة ، ومنها الفضائيات التي أصبحت كبحر عالي الأثباج متلاطم الأمواج ، إضافة إلى الشبكة العنكبوتية التي فاقت كل تصوُّر في امتدادها وتأثيرها ، مع هذه الأكداس من الكتب والمجلات والنشرات وأشرطة الكاسيت .

ولست هنا بصدد الحديث عن وسائل الإعلام وأخطارها وشدة تأثيرها ، ولكني أحببت أن أشارك الإخوة المنافحين عن لغتنا العربية أمام ماتتعرض له من غزو ثقافي ، ومن همز ولمز من الأعداء وربما من الأقربين ، وصمود اللغة العربية دليل على متانة جذورها ، وقوة فروعها ، وروعة إثمارها في بساتين العلوم والمعارف ، قديمها وحديثها ، ولعل في معاني الغزو الثقافي نجد مقصِد الغزاة ( فغزا ) من معانيها : أراد وطلب وقصد ... وكلها توحي بالقتال والعراك والشدة ، وتومئ إلى السيطرة والنهب والسلب والسيطرة ، وترفع راية الاستكبار والعصبية ، و ( ثقف ) من معانيها : حذق وفطن ، وثاقَفَه : غالبَه في الحذق والفطنة ، ويتعدى المعنى في هذا المطاف إلى الكيد والمكر والخديعة ، وذلك حسب إرادة الغزو وقصده وطلبه ، ولا يخفى تداخل المعاني على العربي الفطن .

ويُراد للغة العربية من قِبلِ أعدائها أن تتلاشى وتزول ، ليزول معها كل ارتباط بالأصل ، وكل صلة بالمجد والقيم والحضارة التي حملت معانيها وأسفارَها لغتُنا العربيةُ المجيدة . تلك اللغة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون وعاءً جليًّا للوحي المقدس الذي نزل على الرسول العربي محمَّد صلى الله عليه وسلم ، باللسان العربي ، فأكسبها الوحيُ قدسيةً ، وخصائصَ إعجازيةً ، استوعبت أنواع العلوم والمعارف الشرعية والكونية ، المشاهَدَة والغيبية ، وضمَّت إلى صدرها الكبير تنوُّع النصوص من حكم وقصص وآداب ومواعظ ومصطلحات ( قديمة ) ، وألمحت إلى مافي الكون من أسرارلعل البشر يستخدمون عقولهم للوقوف عليها والإفادة منها . فاللغة العربية إعجازٌ وتحدٍّ وقوة في العرض وفي الأسلوب وفي الإمتاع ، وفي قدرتها الفائقة على استيعاب المصطلحات ( الجديدة ) ، بسهولة ألفاظها وجودة تراكيبها وروعة أسلوبها ، ووضوحها لقارئها وسامعها ، وإن علومها في النحو والإملاء والبلاغة والتعبير والإعجاز ... لتؤكد قدرة اللسان العربي المبين على التعامل مع كل المستجدات التي لاتخفى على منزل القرآن الكريم سبحانه وتعالى باللغة العربية ، وصدق القائل :

خصائصُ فيها أكسبتْها بلاغةً
فآياتُ ربِّي أُنزلتْ عربيَّةً
ولو أنَّ مافي الأرضِ من شجرٍ أتي
لَمَـا عَجَزَتْ أمُّ اللغاتِ ، ولا ونتْ
هي الأصلُ فيها مجدُنا و فخارُنا

 

تسامتْ وإعجازًا به الخَلقُ أُخطِروا
وفي ذاك تشريفٌ لها ليس يُنكَرُ
بيُمناك أقلامًا لعلمٍ يُسطَّرُ
ولاحتظنتْهُ ، والمعارفُ تكبرُ
وميزانُها : أسمى وأجلى وأشهَرُ

فلغتُنا العربية التي حفظت تراث الأمة ، ونسيج مجدها العظيم ، تمتلك السعة غير المحدودة لاستيعاب مفردات العصور العلمية والثقافية ، وهذا أمر لايلزمه دليل بعد قول الله في كتابه الكريم : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) 109 /الكهف . ومن المعلوم أن البشر لم يُؤتوا من العلم إلا قليلا ، وعلم الله لاينتهي ولا ينفد ، واللغة العربية هي التي استوعبت ماجاء من وحي الله ، وهنا يجب أن يخرس الذين يرمون لغتنا العربية بالجمود والضعف ، وحسبهم جمود عقولهم وضعف عزائمهم في الوصول إلى مراقي لغة الضَّاد ، ولعل ماأزعج الأعداد هو أن هذه اللغة المباركة تحمل ثباتنا وأصالتنا ومجدنا وثراثنا الغالي وعزتنا التي يريدون لها أيضا أن تتلاشى وتذبل وتزول ، اللغة التي افتتح الوحي سِفرَه باجمل وأحلى كلمة منها ( اقرأ ) . ويالها من كلمة تحمل الدلالات العديدة من العلم والتعليم ، والفكر والتفكير ، ومن معانٍ أخرى تنساب على مجرى ( اقرأ ) كالتأمل والتَّعقل والتدبر والنظر والتبصُّر والاستنباط والاستنتاج ... وغيرها من معانٍ تتجاوز حدود عقول أعداء اللغة العربية بكثير !!

أعداء اللغة العربية هم غُفلٌ عن قدرنها وقوتها وبلاغتها ومحاكاتها للنفس والقلب والعقل ، وهم في وادٍ وروادها وعلماؤُها في واد ، أذكر أني قرأتُ لأحد الباحثين في لغتنا الحبيبة العظيمة ، بحثا يتغنى فيه بقدرتها وبجمالها ، ولا أذكر الآن إلا بعض الجوانب ، وأتحدث عن واحد منها . ذكر الباحث قول الله تعالى : ( اذهبوا بقميصي هذا ، فألقوه على وجه أبي ، يأتِ بصيرا ) 93/ يوسف . قصة يوسف عليه السلام معروفة ، وحالة إلقاء البشير القميصَ الذي كان يرتديه يوسف على وجه يعقوب عليه السلام معروفة أيضا ، ولكن الشيء الذي لايريد أعداء اللغة العربية أن يعرفوه ، هو هذا المنطق الأخَّاذ ، والمعنى الجذّأب ، الذي حمل القصة ، ثلاث عبارات في الآية الواردة أمامنا ، لن نأخذ منها إلا كلمة واحدة من عبارة واحدة فقط ، ( يأتِ ) فعل مضارع مجزوم بحذف حرف العلة من آخره لأنه جواب الطلب ( اذهبوا ) ، وهنا ربط بين يوسف وهو يأمر أخاه بحمل القميص ، وبين هذا الأخ وهو بين يدي أبيه يعقوب ، يبشره ويمسح على وجهه وعينيه بالقميص المبارك ، فإذا به يبصر بعد أن ابيضت عيناه من الحزن على فراق فلذة كبده يوسف عليه وعلى أبيه السلام ... يأتِ : يصيرُ بصيرا بعد العمى ، أو ينقلب من حالة العمى إلى حالة الإبصار ، أو يصبح بصيرا بعد أن أمسى أعمى ، أو يعود مبصرا ... وهكذا تتوارد المترادفات ، وتتنوع المعاني ، وتنساب النفس مسرورة مع تقلب نفحات الأنس والإعجاب بحالة الإبصار والكلمات التي تحملها في سياق مسيرة اللهفة الطويلة التي امتدت لأكثر من أربعين سنة في بعض الروابات .

حقا إنها لغة عجيبة فريدة متألقة متفوقة ... مداراتها في النحو ، محاورها في الإملاء ، مآثرها في الإبداع ، إنجازاتها في المآثر ، بلاغتها ، بيانها ، صرفها ... فنونها المتنوعة ، لغة عربية لها رصيد لايحدُّ من القدرة والجمال ، يتحدث نفس الباحث الذي أورد عمَّافي كلمة ( يأتِ ) من قوة وإعجاز وتأثير ، عن حالة أخرى تخاطب الذوق السليم والرأي القويم ففي قول الله عز َّ وجلَّ : ( أولم يرَ الذين كفروا أنَّ السماواتِ والأرضَ كانتا رتقا ففتقناهما ) 30 الأنبياء : فكلمة السماوات جمع ، وكلمة الأرض مفردة ، ولكنهما عوملتا معاملة الاسم المثنى ، ( كانتا ... ففتقناهما ) إنها البلاغة العربية ، وإنها القوة في الصياغة ، والشجاعة في الأداء الذي لايتطرق إليه الضعف أو الارتباك أو تغلفه الطلسمة المقيتة . ولا يخفى ما للحروف من معانٍ دقيقةٍ في استعمالها ، وعلى سبيل المثال أنقل ــ لأخي القارئ ــ من كتب التراث الكثيرة عن حرف ( اللام) فله أنواع هي : لام الجر ، ولام كي ، ولام الأمر ، ولام التأكيد في القسم وهي المفتوحة ، ثم إن لام الجر لها ثلاثة معانٍ هي : الملك ، والاستحقاق ، والتعليل ، وقد تأتي للتعدي إذا ضُعِّف العامل ، وقد تأتي بمعنى عند ، مثل : أقم الصلاة لدلوك الشمس . ولام كي معناها التشبيه والتعليل ، وقد تأتي بمعنى الصيرورة والعاقبة ، مثل : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا ، وقد تأتي بمعنى أن المصدرية كما في قوله تعالى : يريد الله ليبيِّنَ لكم ...

أخي أيها العربي ... حافظ على لغتك العربية الفصحى ، واشمخ بمكانتها في العالمين ، إنها لغة أهل الجنة يوم تنتهي كل اللغات والعبارات ، وإنها لغة مجدك وتاريخك وحاضرك ومستقبلك المشرق . يكفيك شرفا ، ويكفيها مكانة ورفعة ، أن الله خاطب عقلك من خلالها فقال : ( إنا ــ أنزلناه ــ قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) 2 / يوسف

وفي آية أخرى : ( إنا ــ جعلناه ــ قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) 3 / الزخرف

وعليك أخي القارئ ، وأنت يامن تحارب اللغة العربية ... أن تقف على الفرق بين أنزلناه وبين جعلناه ، وضميرا الفعلين المتصلان بهما يعودان على القرآن العربي ، ولن أنقلك إلى آيات أخرى في هذا السياق فذوقك وأصالتك وهُويتك تدلك عليها في خطوط الدفاع عن لغة الضاد أمام الغزو الفكري الذي يأتيك من خلالها .

وسوم: العدد 1033