كنت أحسب أن الموضوع الأول للبرنامج الانتخابي عند جيراننا الأتراك سيكون..

قرأت كتاب "صعود وسقوط القوى العظمى" لمؤلفه بول كينيدي منذ أكثر من عقدين..

في فصله الأول تعثرت بنص عن الحرب العالمية الأولى، ذكر فيه المؤلف، ان العالم دخل تلك الحرب وثمة امبراطورية ضخمة يحسب الجميع لها الحساب، اسمها "الامبراطورية العثمانية" وخرج العالم من تلك الحرب وهذه الامبراطورية الأكبر قد تبخرت عن خرائط العالم!!

كنت أود أن يكون الكتاب في غربتي، تحت يدي فأنقل لكم عبارة المؤلف بنصها. فلم أعرف حينها هل صاغ المؤلف العبارة صياغة شامت أو صياغة محلل، أراد أن يقدم انموذجا عمليا لتبخر قوى عظمى عن الخارطة السياسية..

الذي ما زلت أذكره، أنني يومها طويت الكتاب، وأنا إنسان أسيف، طويت الكتاب ورحت أبكي أو أهذي بما هو أشد من البكاء.

كانت العبارة تنعي إليّ وجودي، الذي ذقت بعده الذل أفانين.

تذكرت في سبحات الفكر تلك كلمات السلطان عبد الحميد رحمه الله تعالى في مذكراته وهو يروي كيف كان يراجع من مقر إقامته الجبرية، الضباط الاتحاديين، الذين قرروا دخول الحرب، أن لا يغامروا، ليست "حربنا" يقول لهم. وأن يقفوا في تلك الحرب على الحياد، بل ويزيد في النصيحة أن يستفيدوا من التناقضات، وأن يوظفوها لمصلحة دولتهم..

بين يدي الانتخابات التركية التي تدور رحاها هذه الأيام، وطروحتها البرامجية، كنت أحسب أن موضوع التنافسية الانتخابية سيكون، حول من سيعيد إلى الدولة التركية هيبتها ومكانتها بين دول العالم، بعد أن طرقت باب الاتحاد الاورربي لعقود .. وبدلت من أجل الانتساب إلى ناديه الكثير من الثياب..

كنت أظن أن الطبقة السياسية التركية يمينها ويسارها، محافظوها ومتقلطوها، سيقدمون للشعب التركي برنامجا انتخابيا يقوم محوره على العمل الجاد، على توسيد الدولة التركية عضوا دائما في مجلس الأمن الدولي بوصف تركية وارثة آخر تمثيل شرعي لسدس سكان العالم..!!

كنت أحسب أن البرنامج الانتخابي للفرقاء من السياسيين المتشاكسين، سيتمحور حول إعادة صياغة للهوية التركية الجامعه في أبعادها الثقافية والفكرية..

كنت أحسب أن البرنامج الانتخابي لكل الأطراف وكذا للشعب التركي، سيتمركز عند تحديد موقف أكثر عملية من حلف الناتو الذي أثبتت الأيام أنه أخذ من الأتراك الكثير ولم يعطهم إلا..

ولأنني أحب تركية والأتراك والتاريخ يعتقل لساني أن أحكي بعض ما أحفظ من حكايات رسو الاسطول السادس الأمريكي على الشواطئ التركية..

وكنت أحسب وأحسب وأحسب ولكن..

كثيرة هي النصوص الحيوية التي تذكر أن عظمة القصد من عظمة القاصد..

قد رشحوك لأمر لو فطنت له..

وكلما كانت الناس كبارا

وتعظم في عين الصغير الصغائر..

وقال ابو العلاء المعري للدجاجة وقد وصفوها له، وأتوه بها على طبق: استضعفوك فوصفوك فلم يصفوا لي الأسد؟؟

وبدلا من جرجرة ثلاثة ملايين إنسان، كان يكفي أن يُكفى هؤلاء الناس شرَ الأسد..

وهكذا غدا التنافس المحموم، بين الفرقاء المتشاكسين: من سيذبح الدجاجة، ومن سيعلقها ومن سينتفها، وهل سلقا أو شويا سيقدمها..؟؟

وأسمعهم بالتفصيل الممل، أو بالتصوير والعرض البطيء يصورون ويوصفون. وصار الناس يتمدحون بالحديث عن الشينة، ويبدعون في عرض تفاصيلها..

من دروس الحكمة التي تلقيتها في حياتي وأنا رجل مودع، لا تجلس مع الصغار فيصغروك!!

وهكذا استجر فريق صغير بطريقته المشهد التركي كله إلى حيث نرى ونسمع..

ومهما قيل عن قضية اللاجئين في تركية فهي مشكلة وقتية عارضة،

عاشت المجتمعات مثلها على مر العصور … ولكن هذه القضية العارضة استفرغت من المنتظم السياسي التركي الكثير، وأخرجت اضغانا مصنعة مزورة زرعها مزيفو التاريخ.

ومشكلة اللاجئين في تركية كمشكلة اللاجئين الأتراك في ألمانيا، ثلاثة ملايين لاجئ ما أخرجهم من ديارهم إلا.. وأستحيي أن أقول فأنا مع أنني لاجئ ومستضعف ما زلت إنسانا وأستحيي أن أقول..

وأسمع أحاديث الساسة ومن كنت أظنهم كبارا، وأتذكر حكاية عندنا حلبية يبكي فيها رجل سقطت من يده زبيبة في البحر فظل ينوح: يا زبيبتي كنتِ شبعتني .. !!

وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1033