وللبزاز مغزله في نسج حرير القوافي البارقات
الكثير منا يحب عمل المكاتب والجلوس على الكرسي ومتابعة العمل من على سطح مكتب وشاشة الحاسوب تقابل وجهه كأنها مرآة أو ظله الذي يلاحقه، وإذا عزف عنها للحظة تابعها بشاشة هاتفه النقال، عمل روتيني يومي دون مفارقات، وأكثر مفاجأة في حياته اليومية أن ينقطع النت عن جهازه لفتره، فيأخذ استراحة أو شطراً من قيلولة، فالكرسي هو عرش مملكته في دائرة عمله، وإذا عاد إلى بيته حشر جسده في كرسيه أو اضطجع أريكته، وفي الليل ارتمى في سريره، فمعظم ساعات نهاره وليله جلوساً او اضطجاعاً أو نوماً، وإذا ما استخدم في النهار سيارته للذهاب والإياب ما بين مقر العمل ومستقر البيت كان موضعه خلف مقود السيارة جلوساً، فإنسان اليوم في بيته جالس وفي سيارته جالس وفي عمله جالس، وإذا استخدم وسائل النقل فهو جالس أيضاً، لا حراك سوى حراك العين يحدق في الجالس أمامه أو يرمي ببصره إلى ما خلف نافذة السيارة يفكر في اللاشيء، وإذا ما قاد سيارته في زحمة الشوارع المكتظة بالسيارات، بخاص في بلدان تخلخلت عندها بوصلة المرور وازدادت فيها العجلات الهوائية والنارية والتك تكات وسير الراجلة والسابلة في الطرقات والشوارع بعد أن احتلت الدكاكين والمحلات الأرصفة وامتدت ببضاعتها وتمادت، أضاف عندها إلى همِّ الجلوس وشد العضلات عند ضغط الدواسات لتفادي الإصطدامات، شد الأعصاب حتى لا يقع في المحذور ويصدم آدمياً أو يضرب مؤخرة سيارة تقف على عجل أو تستدير دون أن تشغل مصباحاً جانبياً!
ولكن ما الحل لتفادي الإختناقات المرورية والنفسية والمزاجية، ولقمة العيش تتطلب الحركة؟
يعود تاريخ تملكي لإجازة السوق إلى عام 1988م عندما استحصلتها وأنا في دار الهجرة في طهران، وحينها كنت بين فترة أخرى أقود سيارة خاصة بمجلة الشهيد الناطقة باللغة العربية التي كانت تصدر في العاصمة الإيرانية طهران والتي عملت فيها محرراً ثم مديراً للتحرير حتى نهاية العام 1989م، أو أقود سيارة تابعة لمنظمة العمل الإسلامي وهي المنظمة السياسية العراقية المعارضة التي عملت في صفوفها للسنوات (1976- 1992م)، هذا إلى جانب دراجة نارية كنت استعملها للحركة ما بين دار السكنى والعمل وللتسوق من أماكن بعيدة عن مركز المدينة طلباً للحاجيات الرخيصة التي تتناسب مع مرتب مهاجر معارض، وعندما حل بنا المقام في لندن نهاية العام 1990م وجدت أن السيارة جزءٌ من الحياة اليومية لصاحب أسرة ليس لها من بد، فاقتنيتها وما زلت.
ولكن بعد سنوات من الإقامة في المهجر الثالث بعد دمشق ولندن، وجدت أن الإستغناء المتقطع عن السيارة أمر قابل للتنفيذ وهو يجيب على سؤالنا السابق كواحدة من الطرق المثلى التي يمكن عبرها تجاوز رتابة الحياة المكتبية وزحمة الشوارع وشد الأعصاب خلف مقود السيارة، فكان خط السير الجسماني رقم (11) هو جزء كبير من الحل حيث صرت أستخدم السيارة في الأسبوع مرة أو مرتين فقط واستعيض عنها في الذهاب والإياب بالمشي واستخدام المواصلات العامة (القطار)، وهكذا ولسنوات طويلة امارس رياضة المشي ذهاباً وايابا في الفصول كافة، تحت أشعة الشمس على قلتها أو زخات المطر على كثرتها أو رشات الثلوج على ندرتها، حيث يستغرق الذهاب مني ساعة بدقائقها الستين ومثلها في الإياب، ومجموع المشي في الساعتين نحو 70 دقيقة وللبقية للمواصلات العامة، وبذلك تجاوزت توتر الأعصاب وزحمة الشوارع، وفضلاً عن الإستئناس بقراءة صحيفة الصباح عند الذهاب وصحيفة المساء عند الإياب، وهما صحيفتان توزعان مجاناً عند بوابات محطات القطارات والحافلات العامة.
القوافي البارقات
التجربة الشخصية للإستعاضة عن السيارة الحديدية الرباعية بالسيارة البدنية الثنائية، مرت أمام عدسة الباصرة وأنا أتنقل بين قصائد ديوان الشاعر العراقي الأديب حسين محسن الموسوي البزاز (حسين البزاز) الصادر حديثا (2024م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 312 صفحة من القطع الوزيري الذي حمل عنوان: (شواهد النبوغ والإبداع الفكري لدى الشيخ الكرباسي)، وفيه تقديم للناشر وآخر للشاعر، وتقريظ من لدن الشاعر الجزائري المقيم في لدن الدكتور عبد العزيز مختار شَبِّين، حيث مررت خلال تنقلاتي التصفحية على قصيدة بعنوان "رياضة الأبدان" من بحر الوافر يقول في أولها:
مزايا المشي للأبدان صَحَّة *** وأكلٌ باعتدالٍ، لا ملحَّهْ
كلوا واشربوا من دون نهمٍ *** واسرافٍ فإن النفسَ وَقْحَهْ
يعتبر الشاعر حسين البزاز، من القلة القليلة من المدرسين التربويين الذين جمعوا بين التدريس الثانوي ونظم الشعر، وربما يظن البعض أن حقل تدريسه هو اللغة العربية مما مكنه من امتطاء صهوة الشعر، ولكن الواقع يحكي خلاف ذلك فاللغة الإنكليزية هي مدار تدريسه لربع قرن في مسقط رأسه كربلاء المقدسة، بيد أن الموهبة هي التي ساقته الى نظم الشعر باللغتين والترجمة بهما.
ألف عنوان وعنوان
ومن نماذج شعره في هذا الباب، تقريظه لكتيب "شريعة الإعلام" يقول في أولها من بحر البسيط تحت عنوان: "خطورة الإعلام":
نعيشُ في عالمٍ إعلامُهُ الكذِبُ *** من حيثُ عِلمُ الملا بالحقِّ مضطربُ
وسُرعةُ النشرِ من أسباب قوَّتِه *** ودقَّة الوصف في ترويجه سَبَبُ
وفي باب "دائرة المعارف الحسينية" في نحو ألف عنوان صدر منها حتى اليوم 125 مجلداً، نقرأ تقريظات المؤلفات التالية: "أطلس السيرة الحسينية .. أطلس الركب الحسيني"، تاريخ المراقد .. الحسين وأهل بيته وأنصاره"، "الحسين في السُّنَّة"، "الحسين في سطور"، "ديوان التخميس"، "ديوان الشعر الإنكليزي"، "الصحيفة الحسينية الكاملة"، "العامل السياسي لنهضة الحسين"، "قالوا في الحسين"، "المدخل إلى الشعر الحسيني"، "معجم الشعراء الناظمين في الحسين"، "معجم أنصار الحسين .. الهاشميون"، "معجم خطباء المنبر الحسيني"، "وثائق النهضة الحسينية"، و"معجم أنصار الحسين .. النساء".
ما منبريٌّ مثلُ أحمدَ ينبري *** يحكي عن الماضي لنا ويحدِّثُ
أعني به الشيخ الجليلَ الوائلي *** خُطباؤنا كُثْرٌ ولكنْ مثله لا يلبثُ
وللمحقق الكرباسي سلسلة "الإسلام في البلدان"، صدر منها حتى اليوم 13 كتاباً، وقد قام الأديب البزاز بتقريظ المؤلفات التالية: "الإسلام في أميركا"، "الإسلام في إيطاليا"، و"الإسلام في الأرجنتين".
ومن نماذج شعره، تقريظه لكتاب "الإسلام في أميركا" من بحر مجزوء الرمل تحت عنوان: "طُفْ بشيكاغو ولاحظ"، يقول في بعضها:
طُفْ بشيكاغو ولاحظ *** حالَ مَن زكّى وصلّى
بل وفي فرانكفورت أيضا *** بل ولاس فيغاسَ أصلا
كما وحطت سفينة قوافي البزاز عند ساحل المؤلفات الكرباسية التالية: "الإعلام الحسيني عبر التاريخ .. الخطابة مثالاً" من إعداد الشاعر العراقي مهدي هلال الطفيلي الكربلائي، "إنه المؤمن حقا .. مالك الأشتر"، "مع الحر العاملي في مسيرته العلمية" وكلاهما من تقديم ومراجعة وتعليق الباحث العراقي المقيم في لندن الدكتور نضير الخزرجي، "الأوزان والمقاييس" من تقديم الباحث السعودي الدكتور عدنان الشخص، "كتاب الحج"، "مع الكليني في رحلته العلمية" من تقديم الأديب العراقي المقيم في لندن الدكتور حسين الطائي، "يوسف من البئر إلى العرش" رواية قدّم لها الأديب المصري الدكتور محمد عبد الباسط زيدان، و"دور المراقد في حياة الشعوب للكرباسي" من إعداد الفقيد الأديب عبد الحسين حسن الصالح (العراق- إيران).
ومن نماذج شعره، تقريظه لرواية "يوسف من البئر إلى العرش" من بحر البسيط تحت عنوان: "يوسف الخيرِ عِبَر" يقوله فيها:
ذا يوسُفُ الخير تاريخٌ ومختبَرُ *** ومِن مضامينه تُستخلصُ العِبرُ
بل في الحقيقة للأجيال مدرسةٌ *** يَستافُ من رحبها ما ينفعُ البشَرُ
وفي باب الأدب والشعر قرّظ البزاز الدواوين التالية: "الإيناس بلآلي الجناس"، "رجز العدالة"، "خمِّس أو لا تخمِّس"، "تربيع الأمثال في مئة مثال" وكلها من تقديم وتعليق الدكتور عبد العزيز شبين، و"ظلال العَروض في ظئاب المطالع والملاحق" مطالع القصائد للكرباسي وملاحقها للدكتور عبد العزيز شبين، وعلق عليه الأديب اليمني الدكتور محمد بن مسعد العودي، و"نشيد الإستنهاض" أنشد أبيات الديوان الحاج باسم الكربلائي.
ومن نماذج شعره، تقريظه لديوان "الإيناس بلآلي الجناس" من بحر الكامل الثاني تحت عنوان "في طبعها الإيناس" قال فيها:
أنْعِمْ بها لغةً بها الإيناسُ *** ما أروعَ المعنى وفيه جناسُ
لغةٌ أحبَّ الله نشرَ علومه *** وبفضلِ ذا يتعاظمُ الإحساسُ
من نتاج الأعلام
ومما قرظه البزاز نتاجات علمية ومعرفية لكتاب آخرين ومدارها مؤلفات المحقق الكرباسي، من ذلك ما كتبه الدكتور وليد سعيد الحلي (العراق- لندن) تحت عنوان: "المنهاج: دراسة في الجزء الأول من كتاب الحسين والتشريع الإسلامي للكرباسي"، وما خطَّه الفقيه اللغوي هادي بن حسن حمودي (العراق- لندن) بعنوان: "العقل والنقل .. حوار مع دائرة المعارف الحسينية للكرباسي"، ، وما حرره الدكتور عبد العزيز شبين في "الخال وأضرابه في قوافي الشعراء على ضوء دائرة المعارف الحسينية للكرباسي".
ومن نماذج شعره قوله تحت عنوان "القرآن منهاج" في تقريظ كتاب "المنهاج ..." من بحر الوافر:
مصادر ثرةٌ في محتواها *** من القرآن تلكمْ مستمدَّهً
أحاديثٌ وإجماعٌ ورأيٌ *** وسنَّةُ أحمدٍ لو صحَّ سردَهْ
ولم يكتف البزاز بتقريظ المؤلفات وإنما تجاوزها إلى قصائد مديح في حق العاملين في دائرة المعارف الحسينية وعموم الموسوعة الحسينية والمؤلفات الكرباسية المتنوعة، كما وضمَّ الديوان قصيدة من بحر الكامل نضَّد مِسْبَحةَ قوافيها الشاعر عبد العزيز شبين واختار لشاهودها عنوان" (سنا حُسين)، قال في أولها تقريظاً للديوان:
هذه البزوزُ كرامةً حاطت به *** حَوْطَ الكساءِ مِنَ البَقا تأبى الفنا
كرباسُ والبزازُ في دوحٍ معاً *** نظما من الدرِّ البديعِ المُقتنى
وحيث نثر شَبِّينَ ورود المديح على قوافي البزاز فإن المحقق الكرباسي رشَّ عند عتبة أبيات البزاز بعض ماء الوفاء قائلاً: (لقد استوفى صاحبي ما لديه من الهِمَم، وأُلْهِمَ مِنْ مُلْهِمِ الهِمَمِ في النظم على مقدار الهِمَم، فأسهم في نظم القريض بما أسهم، ولم يكن في عرضه أبداً مُبْهَم، بل كان صريحاً فيما نَظَمَ شعراً ونَظَّم. إنه حسينٌ من نسلِ حسينيٍّ موسويٍّ في الأثر الأدهم، تسلَّح بالبَزِّ في النظم فكان وقعُهُ على القلوب مَرْهَم).
وسوم: العدد 1103