إلى المتثاقلين عن الجهاد

سيد قطب رحمه الله

 قال الله تعالى: (يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ* إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التوبة (38-39).

 إنها ثِقلة الأرض، ومطامعُ الأرض، وتصوراتُ الأرض، ثقلة الخوف على الحياة والخوف على المال والخوف على اللذائذ والمَتاع، ثقلة الدَّعةِ والراحة والاستقرار، ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب، ثِقلة اللحم والدم والتراب. إن النفرة للجهاد في سبيل الله انطلاقٌ من قيدِ الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم، وتحقيقٌ للمعنى العلوي في الإنسان، وتغليبٌ لعنصرِ الشوق المُجَنَّح في كيانه على عنصر القيد والضرورة، وتطلعٌ إلى الخلود الممتد، وخلاصٌ من الفناء المحدود. وما يُحْجِمُ ذو عقيدةٍ في الله عن النُّفرة للجهاد في سبيله إلا وفي العقيدةِ دَخَل، وفي إيمان صاحبه بها وَهَن، لذلك يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاق». فالنفاق هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدةٍ من الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجالُ بيد الله والرزق من عند الله، وما متاع الحياة الدنيا من الآخرة إلا قليل.

 والعذاب الذي يتهدد المتثاقلين عن الجهاد ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعافَ ما يخسرون في الكفاح والجهاد، ويُقدِّمون على مذبح الذلِّ أضعافَ ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدَّموا لها الفداء، وما من أمةٍ تركت الجهادَ إلا ضَرَبَ الله عليها الذلّ، فدَفَعَتْ مُرغَمةً صاغرةً لأعدائها أضعافَ ما كان يتطلبه منها كفاحُ الأعداء.

 قال تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) التوبة (42). لو كان الأمرُ أمرَ عرض قريبٍ من أعراض هذه الأرض، وأمرَ سَفرٍ قصيرِ الأمد مأمونِ العاقبة لاتبعوك، ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهِمَمُ الساقطة والعزائمُ الضعيفة، ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواحُ الهزيلة والقلوبُ المنخوبة، ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوسُ الصغيرة والبنية المهزولة.

 كثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى الآفاق الكريمة، كثيرون أولئك الذين يُجْهَدُون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عَرَضٍ تافهٍ أو مَطلبٍ رخيص، كثيرون تعرفهم البشرية في كلِّ زمان ومكان، فما هي قلة عارضة، إنما هو النموذج المكرور، وإنهم يعيشون على حاشية الحياة وإن خُيِّلَ إليهم أنهم بلغوا منافعَ ونالوا مَطالب، واجتنبوا أداءَ الثمن الغالي، فالثمن القليل لا يَشْتَري سوى التافهِ الرخيص.

 ولقد كان بعضُ المعتذرين المتخلفين عن الجهاد قد عرض لِيُمْسِكَ العَصَا من الوسط، على طريقة المنافقين في كلِّ زمان ومكان، فرَدَّ الله عليهم مناورتهم وكلَّف رسوله أن يُعلِن أن إنفاقهم غيرُ مقبول عند الله، لأنهم إنما ينفقون عن رياءٍ وخوف لا عن إيمان وثقة، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يَخدَعون بها المسلمين، أو عن كرهٍ خوفاً من انكشافِ أمرهم، فهو في الحالتين مَردودٌ لا ثوابَ له، ولا يُحْسَبُ لهم عند الله.

 وقال الله على لسان المنافقين المتثاقلين عن الجهاد: (وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ...) وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال. إن هؤلاء لهم نموذج لضعفِ الهمة وطراوة الإرادة، وكثيرون هم الذين يُشفِقون من المتاعب ويَنفِرُون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويُفضِّلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز، وهم يتساقطون إعياءً خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات. ولكن هذه الصفوف تظلُّ في طريقها المملوءِ بالعقبات والأشواك، لأنها تدرك بفطرتها أن كِفاحَ العقبات والأشواك فطرة في الإنسان، وأنه ألذ وأجملُ من القعود والتخلفِ والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال.

 والله تعالى يردُّ عليهم بالتهكم المنطوي على الحقيقة: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) التوبة (81). فإن كانوا يُشفِقون من حَرِّ الأرض ويؤثرون الراحة المسترخية في الظلال، فكيف بهم في حَرِّ جهنم وهي أشد حرّاً وأطولُ أمَداً؟! وإنها لسخرية مريرة، ولكنها كذلك حقيقة. فإما كفاحٌ في سبيل الله فترةً محدودة في حَرِّ الأرض، وإما انطراحٌ في جهنم لا يعلم مَدَاهُ إلا الله: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) التوبة (82).

 إن الدعوات في حاجة إلى طبائعَ صلبةٍ مستقيمة ثابتة مُصَمِّمة، تصمد في الكفاح الطويل الشاق، والصفُّ الذي يتخلله الضِّعافُ المُسْتَرْخُون لا يَصمد، لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة، فَيُشِيعُون فيه الخذلانَ والضعفَ والاضطراب.

 نعم.. إن هناك ضعفاً في البشر، ولا يملك الناس أن يتخلصوا من ضعف البشر ومشاعر البشر، وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري، ولا أن يَخرُجوا من إطار هذا الجنس ويفقدوا خصائصه ومميزاته، فلهذا خلقهم الله ليبقوا بشراً ولا يتحولوا جنساً آخر لا ملائكة ولا شياطين ولا بهيمة ولا حجراً. إن الناس يفزعون ويَضِيقون بالشدة ويُزَلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة، ولكن المؤمنين -مع كل ذلك- مرتبطون بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط، وتجدد فيهم الأملَ وتحرسهم من القنوط. وحين نَرَانا ضعفنا مرةً أو زُلزلنا مرةً أو فَزِعْنا مرةً أو ضِقنا مرةً بالهول والخطر والشدة والضيق، فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا، أو أننا لم نَعُدْ نصلح لشيءٍ عظيم أبداً! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضَعْفِنا لأنه من فطرتنا البشرية! وَنُصِرُّ عليه لأنه يقع لمن هم خيرٌ منا! فهنالك العروة الوثقى.. عروة السماء. وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونستردَّ الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيراً بالنصر، فنثبت ونستقرّ، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق.

 وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذجَ الفريد في صدر الإسلام، النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحُسْنَ بَلائه وجهاده، وثباتِهِ على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه: (مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب (23).