الربيع العربي في عامه الخامس

أبو المعتصم بالله يوسف النتشة

الربيع العربي في عامه الخامس

أبو المعتصم بالله يوسف النتشة

[email protected]

يتفاوت الناس في مواقفهم مما اصطلح على تسميته بالربيع العربي ، وذلك بعد مرور أربع سنوات على ثوراته،فمن مؤيد ومن معارض،ومن متشائم ومن متفائل،ومن محبط أو غير معني بشيء.

 وبادئ ذي بدء فهل كان الربيع العربي حكرا على البلدان التي شهدته وتشهده الآن ، أم أنه حالة خاصة تنسحب على حالة عامة لتشمل الأمة العربية والإسلامية كافة بمشاعرها وتفكيرها؟

 في تقديري ومن خلال استقراء الواقع واستحضار التاريخ واستشراف المستقبل – فإن ثورات الربيع العربي حالة إسلامية عامة ظهرت بوادرها في مواقع محدودة من العالم الإسلامي، لكنها تمثل الوضع العام للأمة، فالوطن الإسلامي بأسره يتماوج على فوهة بركان من الغضب، يتحين الفرصة للانفجار والتعبير عن ذاته في هذه البقعة أو تلك، إذْ أن الظروف والأوضاع واحدة ،من حيث الآلام والآمال، ومن حيث كل مفردات الحياة، وأبرز ما في ذلك القمع والاضطهاد وكبح أبسط الحريات كحرية التعبير والانتماء، وما تعارف عليه بضع مئات من الطغاة المستبدين وأذنابهم من المنتفعين في التحكم بالبلاد والعباد ، فكل بوادر التغيير وموجباته تكاد تكون واحدة في بلاد المسلمين جميعها، مع شيء من التفاوت بين هذا البلد وذاك.

 ولقد ثبت يقينا أن النظام السياسي في معظم الأقطار الإسلامية هو وريث الاستعمار البغيض، والحارس على مصالحه ، والمنفذ لمخططاته ، وذلك باستمراره في إضعاف الأمة ونهب مقدراتها والحيلولة دون توحدها ونهضتها ..

 من هنا كان الربيع العربي نقطة تحول كبرى في مسار الأمة وتاريخها، لعل من أبرز ملامحها:

صحوة دبت في الأمة بعد سبات طويل دام عقودا وربما قرونا، نبهتها إلى واقعها الأليم فقراً وجهلاً وهواناً على الناس .

 تشخيص أمراض الأمة والعقبات التي تحول دون حريتها وكرامتها ووحدتها التي تفضي لنهضتها ، وعلى رأسها النظم السياسية .

توفر إرادة التغيير لدى الشعوب والاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل ذلك,وهذا بحد ذاته إنجاز عظيم.

تجاوز الأجيال الصاعدة لحاجز الوهن وهو حب الدنيا وكراهية الموت – والذي ران على القلوب عقودا طويلة ، وهو الذي حذر منه رسولنا صلى الله عليه وسلم , فمن كان يتوقع قبل عشر سنوات مضت أن تنزل الشعوب في القاهرة وطرابلس ودمشق وصنعاء إلى الشوارع وتواجه الدكتاتور بصدور عارية ، ومن كان يخطر بباله أن تبدأ موجة التغيير من تونس , حيث نصف المعارضين في غياهب السجون , ونصفهم الآخر مشرد في بلاد الله.

الانتصار على الهزيمة النفسية التي كانت تكبل النفوس والعقول ، والتي توارثتها الأجيال بفعل التربية الممنهجة والإعلام الهابط الموجه ، والإذلال المتعمد في كل جزئيات الحياة .

انكشاف وافتضاح المنافقين والخونة المعششين في كثير من زوايا المجتمع ، من أصحاب الأقلام المأجورة والأفكار الدخيلة والأحزاب والطوائف الهدامة ، الذين يشكلون خناجر مسمومة في جسم الأمة لا بد من كشفها وتطهير المجتمع منها في أولى خطوات التغيير .

 ومما لا شك فيه حدوث أخطاء كان بعضها جسيما وكان لا بد أن تقع في تلك الثورات، وكذلك ظهور معيقات خطيرة لم تكن في الحسبان ولعل من أبرزها :

 1- الضبابية في توجيه البوصلة نحو الأولويات والزمان الأنسب والمكان الأسلم لكل فاعلية من فاعليات الثورات .

2-التركيز على رأس الهرم المستبد دون الالتفات الكافي لكل مكونات النظام الفاسد، وأذنابه المتجذرة في مفاصل الدولة العميقة وأذرعها الفاعلة .

3-عدم توفر الحاضنة الشعبية العريضة القوية المستعدة والقادرة على حمل أعباء ما بعد رحيل رأس الهرم الفاسد.

4-عدم التعامل بسرعة وحسم مع المشككين وطلائع الانقلابيين من رموز الإعلام الفاسد ومثيري الفتن ورجالات العسكر والقضاء القديم.

 5- ولقد كان من الطبيعي – وتلك سنة الثورات- أن يحشد الخصوم كل ما لديهم من خيل وركاب دفاعا عن مكاسبهم التي انتزعوها بسطوة الطغيان وفي غفلة الشعوب ووهنها، وأن يطلقوا كل ما في جعبتهم في سبيل عودتهم إلى حيث كانوا من جاه وسلطان.

 إنك إن تعرضت لثعبان أو عقرب فعليك أن تستعد لتلقى كل ما في جوفه من سموم قاتلة، فهي بالنسبة له خط الدفاع الأخير عن حياته ووجوده.

 وما من ثائر ولا مصلح بل وما من نبي إلا وتصدى له رؤوس القوم بكل شراسة ووحشية لأنهم يرونها معركة موت أو حياة.

 6- وبما أن واقع الأمة متشابه في كل أقطارها, فقد كان لا بد أن تسارع الأنظمة المشابهة للدفاع عن نفسها مستبقة النيران لمحاصرتها قبل أن تصلها ، وذلك من خلال دعم الثورات المضادة ومحاصرة ثورات الربيع العربي.

 7-ويجب ألا ننسى دور قوى الاستكبار صاحبة المصلحة الأولى في ديمومة أنظمة وكلائها في المنطقة.

8-إثارة النعرات العرقية والمذهبية والحزبية ، والتمهيد المبرمج ماديا وثقافيا، والترويج المكثف إعلاميا للأفكار والتوجهات الشاذة والمتطرفة سواء كانت موجودة على أرض الواقع أو في الإعلام المزور والمفبرك، ولقد تشاركت في ذلك كل القوى المتضررة من الثورات داخليا وإقليميا خارجيا ،وساهم فيه بعض الجهلة من المواطنين الذين وجدوا أنفسهم في أتون الصراع دون رعاية أو توجيه، وكان الهدف من ذلك خلط الأوراق وجر الناس إلى ما سمي بالفوضى الخلاقة التي تقود الشعوب إلى التخبط وتستنزف طاقاتها في تدمير مقدراتها ووأد أحلامها، وانهيارها في مستنقع الإحباط ، وبالتالي عودتها إلى المربع الأول استسلاما وخضوعا. وبالتأكيد فقد كان لهذا العامل أثر كبير في تعطيل مسيرة الثورات.

 هذه الأسباب وعديد غيرها –في تقديري- هي التي تؤخر قطف ثمار الربيع، وما زلت أعتقد أن هذا التأخير أمر لا بد منه لتأخذ الأمور تدرجها الطبيعي وفق سنن التغيير.

 إن الربيع في الطبيعة يأتي بعد السحاب والظلام المطبق والبيات الشتوي ، وترافقه الوحول والطين والهوام التي تخرج منه ، ثم تنتشر الأشواك التي تحاول الاستئثار بالشمس والهواء والغذاء ، ثم يستوي الزرع على سوقه ليعجب الزراع ويغيظ الكفار.

 أعتقد أن ربيع الأمة ماض في طريقه ، وهو يتقدم بخطوات حثيثة راسخة، ومما يؤيد ذلك :

 أن الأقطار التي شهدت ثورات مضادة ، ما زالت ماضية في طريقها ومصرة على إنجاز ربيعها:

 ففي مصر لا يمر يوم دون فعاليات للثورة ودون مواجهات وضحايا ودماء، هذه الدماء التي تزيد لهيب الثورة وترفدها بمزيد من الغضب.

 ومن الواضح لكل مراقب أن مجتمع رابعة العدوية هو الذي يقود المشهد في مصر، إذْ لم تقض عليه الإعدامات والتقتيل ولا التحريق والملاحقات والاعتقالات، بل على العكس ما زالت تلك النخبة البشرية تتربع على قلوب الشعب المصري العريق، وتزداد صلابة ويزداد الملتفون حولها، والمناصرون لها ، فيما تزداد عزلة الانقلابيين ويتضاءل مؤيدوهم.

وفي المقابل نرى النظام الانقلابي الدموي يهوي من فشل إلى فشل ، ويتخبط تخبط الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد تضاعفت في عهده أضعافا كثيرة تلك المبررات التي حركت الشعب المصري العظيم على نظام مبارك.

 وفي سوريا حيث تعبث الأصابع الخفية والجلية, فقد اتسعت الهوة سحيقا بين الشعب والدكتاتور، وواضح أن قضية زواله باتت قضية وقت ومزيد من الصبر، إذ بات جليا أن ما تبقى للنظام من أيام –أو شهور أو حتى سنوات- مرهون بالدعم البشري والمادي الذي يأتيه من إيران وأذنابها ومن أعداء ظاهرين وغير ظاهرين في الداخل والخارج ، ومن عملية خلط الأوراق على الساحة السورية ، ومحاولة استنزاف قوى الثورة الحقيقية في صراعات جانبية..

 إن كل دعم خارجي له حدود وقابل للتذبذب وفق تذبذب المصالح ، وإن كل خلاف بين أبناء الشعب الواحد مصيره إلى زوال مهما طال، وفي لحظة - لا أظنها بعيدة - سيرى النظام نفسه وحيدا لا يرجو من الحياة إلا ما يرجوه المريض الموصول بأجهزة التنفس الاصطناعي في آخر لحظاته.

 أما في ليبيا فمن الواضح أن الثورة ما زالت تمسك بزمام المبادرة، ومن الواضح أيضا أن محاولة إجهاض الثورة يأتي من قوى إقليمية ودولية يبدو جليا أنها ما زالت متعثرة ،وأن فرص نجاحها ضعيفة، وإن نجحت حتى الآن في جلب مزيد من الدمار وحصد أرواح بريئة كثيرة ، وتأخير إمساك الشعب الليبي بزمام ثرواته وأموره حياته وإعادة بناء دولته..

 وأما في تونس المنطلق الأول لثورة الغضب العربي، فالوضع مختلف تماما، إذْ ما زالت هي الأنموذج الأول والحالة الأقل تعثرا،فبالرغم من كل محاولات جرها إلى محرقة الصراع والاقتتال ، وبالرغم من عودة بعض رموز النظام البائد، إلا أن استنساخ ذلك النظام الذي سعت وما زالت تسعى إليه قوى داخلية وإقليمية وأجنبية - يبدو أنه بات بعيد المنال، بفضل وعي المواطن التونسي وعلى الأخص حركة النهضة وزعيمها المحنك الشيخ راشد الغنوشي – حال وما زال يحول دون الانزلاق في وحل (الفوضى الخلاقة) كما حدث في سوريا ، أو في استنساخ النظام البائد بكل تفاصيله كما حدث في مصر.

 وبعد..

 فيكفي أن نُـذكِـر هنا أن الربيع العربي قد أزال حاجز الوهن والهزيمة النفسية ، وكشف عن كثير من مكامن القوة في الأمة، وأوجد الرغبة الجادة في التغيير.

 ويخطئ بعض المحللين عندما يتحدث عن ثورات الربيع العربي مركزا على الأوضاع المأساوية التي تفاقمت بعد الانقلابات المضادة ،وعلى الصراعات التي جدت في معظم بلدان الربيع العربي - دون الالتفات إلى العلامات المضيئة ، وكثير منهم ما يفوته استحضار سنن التغيير وتدبير الله تعالى لأمور الناس والكون ، وسنة الابتلاء التي عايشها كل نبي مرسل وكل مصلح.

 وما دامت ثورات الربيع العربي تعبر عن حالة أمة رزخت عقودا طويلة تحت وطأة الإرهاب والقهر والتغريب والتشريق، وتريد تغيير هذا الوضع من جذوره ،وإحداث تطهير شامل وعودة متكاملة إلى منابعها الأصيلة، وما دمنا نعيش في سلسلة حلقات من الألغام داخليا وإقليميا وعالميا ،فهذا الهدف العظيم لا يتأتى بجرة قلم , ولا ببيان ثوري إذاعي ، ولا بإعلان دستوري ، بل لابد من تضحيات جسام ، وكر وفر على طريق كشف الفساد والزيف كل الزيف ، وتطهير البلاد والعباد والقلوب والحواري والأزقة والدروب، من كل دنس الأنظمة البائدة فكرا وثقافة وسياسة وجيشا وقضاء وكل مفصل ومفردة من مفردات الحياة..ولا بد من كشف كل بقايا العهود المظلمة ومُعاركتها واجتثاثها ،حتى لا يبقى لها أثر على أرضية الغد الطاهر الواعد المشرق بإذن الله..

 درب شائك طويل .. وصبر جميل ..فإرادة التغيير أولا..ثم التطهير ثانيا.. ثم يزهر الربيع وحدة ونهضة وبناء وتعميرا بإذن الله.