«ذو القرنين»، في القرآن الكريم

إنَّ قصَّة «ذي القرنين» التي ورد ذكرُها في القرآن الكريم من القصص التَّاريخيَّة المهمَّة، وتنبع أهميَّتها من سؤالهم النَّبيّ e عنها في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً﴾ الكهف:83، ولم يضرب القرآن الكريم صفحًا عن سؤالهم، ولم يعنِّفهم، أو يثنِهم عن معرفتها على نحو ما نراه اليوم من بعض الرَّافضين لأي بحثٍ في «القرآن» بحجَّة أنَّ له مختصِّين تارة، أو أنَّ هذه من قصص الأمم السَّابقة التي لا تفيد حكمًا أو علمًا تارة أخرى.

وقد بيَّن «القرآن الكريم» بعضًا من سيرته بلفظ «ذكرًا» منكّرًا في الإجابة عن سؤالهم، سواء أكان السَّائل من «المشركين»، أم من «أهل الكتاب» على ما تضافرت به الرِّوايات في بعض التَّفاسير، على نحو ما نجده عن «الطَّبريّ» مثلا. وبدأ بوصف التَّمكين له، ثمَّ ذكرَ شيئًا من أحواله، ورحلته التي وصل فيها كما يظهر من النَّصّ إلى «مغرب الشَّمس»، و«مشرقها» وما وجد عند كلٍّ منهما.

وسنبدأ في دراسة ذلك من خلال سلسلة نقدِّمُ فيها رحلة «ذي القرنين» على ضوء النَّصّ القرآنيّ نفسه، وما وصل إليه أهل العلم قديمًا وحديثًا، ومعرفة حقيقة الأماكن التي ورد ذكرها، وتبيان ما ترجَّح عندنا من ذلك، وقضيَّتهم كما يقول الدكتور «حاكم المطيري»: «ليست غيبيَّة كما هو ظاهر الأدلَّة النَّقليَّة، وكما نصَّ عليه السَّعديّ رحمه الله تعالى؛ بل قضيَّة تاريخيَّة مشاهدة لمن عاصرها، وشاهد آثارَها، وإنَّما بعْثُهم وخروجهم على أهل الأرض قبل قيام السَّاعة هو القضيَّة الغيبيَّة التي لا يعلم متى يحين وقتُها إلا الله عزَّ وجلَّ».

وسنلتزم بالتَّسلسل الزَّمني الذي ورد في «القرآن الكريم»، حيث بدأ بالحديث عن «مغرب الشَّمس»، ونخصِّصُ المقالات تبعًا لذلك، ونرجو من الله أن يهيأ لنا متابعة السِّلسة كاملةً، لنوضِّح فيها هذه القصَّة التي جعلها كثيرٌ من النَّاس من أجل العبرة، وتثبيط النَّاس عن معرفة حقيقتها، والوقوف على آثارها إن وُجدت.

ولتوضيح ذلك نذكرُ طائفة من أقوال المفسِّرين الذي نبَّهوا عليها، وما وصلوا إليه من خلال اجتهاداتهم والأخبار التي اعتمدوها في ذلك، ومن هو «ذو القرنين»؟ ولم سُميّ بهذا الاسم؟ وهل وصلوا إلى قولٍ حتميٍّ فيه؟ أم اعتمدوا الظَّنَّ بناء على هذه الأخبار والآثار؟

ذكر «الطَّبريّ» فيما يرويه عن «أبي الطّفيل» أنَّه سمي بذلك «من أجل أنَّه ضرب على قرنه فهلك، ثمّ أحيي فضرب على القرن الآخر فهلك»، بينما يروي عن «وهب بن منبِّه» اختلاف «أهل الكتاب» فيه، فقال بعضهم: ملك «الرُّوم» و «فارس»، وقال بعضهم الآخر: «كان في رأسه شبه القرنين».

وذكر «القرطبيُّ» وجوهًا أخرى في تسميته، فقال: «لأنَّه كان كريم الطَّرفين، من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمِّه، وقيل: لأنَّه انقرض في وقته قرنان من النَّاس وهو حيّ. وقيل: لأنَّه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعًا. وقيل: لأنَّه أعطي علم الظَّاهر والباطن. وقيل: لأنَّه دخل الظُّلمة والنُّور». وزاد «ابن كثير»: «لأنَّه بلغ المشارق والمغارب، من حيث يطلع قرن الشَّمس ويغرب». ومن الطَّبيعيّ أن يختلفوا في قصَّة سبقت عصرهم بآلاف السِّنين، وزِيدَ عليها من أقاويل النَّاس ما ليس فيها قد يصلُ إلى حدٍّ الخرافة، على نحو ما يذكره «الدَّار قطنيّ» في كتاب «الأخبار» «أنَّ ملكًا يُقال له رباقيل كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة، وينقصها فتقع أقدام الخلائق كلّهم بالسَّاهرة»، وقال «السُّهيليّ»: «وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها، كما أنَّ قصَّة خالد بن سنان في تسخير النَّار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السَّلام، وعلى جميع الملائكة أجمعين». وقد وصلتْ أسباب تسميته بذلك أحد عشر سببًا كما في تفسير «الألوسي».

والأظهرُ من هذه الأقوال وأحسنها كما يقول «ابن عطيَّة» في «المحرَّر الوجيز» وهو ما نميل إليه ونرجِّحه أنَّه كان ذا ضفيرتين من شعرٍ هما قرناه فسمِّي بهما، وهو مرويّ عن «المهدويّ» وغيره، والضَّفائر: قرون الرَّأس، يؤيِّدُ ذلك أمران:

الأوَّل: أنَّ العرب كانت تسمِّي بـ«ذي القرنين» من كان له ضفيرتان في شعره كـ«ابن ماء السَّماء».

الثّاني: الحديث الوارد في غسل بنت النَّبيّ e، حيث ورد عن «أم عطيَّة»: «فضفرنا رأسها ثلاثة قرون»، والحديث في «البخاريّ»، و«مسلم»، و«ابن ماجه»، و«الترمذيّ)، و«النّسائيّ»، و«أبي داود» وغيرهم.

أمَّا عن حقيقته ومن هو، فقد اختلفوا كاختلافهم في سبب تسميته، قال «ابن إسحاق»: «حدَّثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أنَّ ذا القرنين كان من أهل مصر، اسمه مرزبان بن مردية اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح». وقال: «ابن هشام»: «واسمه الإسكندر، وهو الذي بنى الإسكندريَّة فنسبت إليه». وذكر «القرطبيّ» أنّه «الملك اليونانيّ المقدونيّ» بتشديد القاف، وقيل: اسمه «هرمس»، وقيل: «هردس»، وهو ما جزم به «ابن عطيَّة» في «محرَّره» فقال: «وذو القرنين هو الإسكندر اليونانيّ المقدونيّ». وقال «ابن هشام»: «هو الصَّعب بن ذي يزن الحميري من ولد وائل بن حمير».

وذكر «الطَّبريّ» حديثًا عن النَّبيّ e أنَّ «ذا القرنين شاب من الرُوم»، وقد ردَّه «ابن عطيَّة» و«القرطبيّ» بأنَّه حديث «واهي السَّند»، بينما نجدُ «السُّهيلي» قد جعلهم اثنين، «أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السَّلام، ويقال: إنَّه الذي قضى لإبراهيم عليه السَّلام حين تحاكموا إليه في بئر السَّبع بالشَّام «هو أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطَّاغي على عهد إبراهيم عليه السَّلام». «والآخر: أنَّه كان قريبًا من عهد عيسى عليه السَّلام». وقد ذكر ذلك «ابن الأثير» في «الكامل في التَّاريخ»، و«أبو الفداء» في  «تاريخه»، وجعل بعضهم «الخضر» قائد لوائه الأعظم على نحو ما نجده في تفسير «القرطبيّ» وغيره، ويؤكِّده رواية «ابن عبَّاس» قال: «كان ذو القرنين ملكًا صالحًا رضيَ الله عمله، وأثنى عليه في كتابه، وكان منصورًا، وكان الخضر وزيره».

وذكر «ابن كثير» في رواية في «البداية والنِّهاية» أنَّه كان نبيًّا. وروى «ابن عساكر» خبرًا منسوبًا إلى النَّبيّ e يقول فيه: «لا أدري أتبَّع كان لعينًا أم لا، ولا أدري الحدود كفَّارات لأهلها أم لا، ولا أدري ذو القرنين كان نبيًّا أم لا»، وقال عنه «ابن كثير»: «وهذا غريب من هذا الوجه»، وقد خرَّجه «أبو داود» في «باب التَّخيير بين الأنبياء».

وذكر «أبو الرَّيحان الهرويّ» في كتاب «الآثار الباقية عن القرون الخالية»: «قيل هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقس الحميري، وقال: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب؛ لأنَّ الأذواء كانوا من اليمن، وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي». وقال «المسعوديّ» في «المروج»: «قيل: إنَّ بعض التبابعة غزا مدينة روميَّة وأسكنها خلقًا من اليمن، وأنَّ ذا القرنين الذي هو الإسكندر من أولئك العرب المتخلفين بها». وقد ذكر أحدُ الشُّعراء الحميريِّين في ذلك شعرًا يفتخر بكونه أحد أجداده فقال:

قد كان ذو القرنين جدِّي مسلمًا   ملكًا علا في الأرضِ غير مفنَّدِ بلغَ المشارقَ والمغاربَ يبتغي   أسبابَ أمرٍ من حكيمٍ مرشدِ فرأى مغيب الشَّمس عن مآبِها   في عينِ ذِي خُلُبٍ وثأط حرْقَدِ

ومن جعله على زمن «إبراهيم» عليه السَّلام استبعد أن يكون هو «الإسكندر»، أو أن يكون نبيًّا، على نحو ما نجده في «تاريخ أبي الفداء» إذ يقول: «والصَّحيح أنَّ الإسكندر المذكور لم يكن منه ذلك؛ بل ذو القرنين الذي ذكره الله في القرآن وهو ملكُ قديم كان على زمن إبراهيم الخليل عليه السَّلام». وأكَّد ذلك في موضع آخر إذ قال: «وقد غلطَ من ظنَّ أن باني السَّدّ هو الإسكندر الرُّوميّ، وكذلك قد استفاض على ألسنة النَّاس أنَّ لقب الإسكندر المذكور ذو القرنين، وهو أيضًا غلط فإنَّ لفظة «ذو» لفظة عربيَّة محض، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، وكان منهم: ذو جدن، وذو كلاع، وذو نواس، وذو شناتر، وذو القرنين الصَّعب بن الرائش، واسم الرَّائش الحارث بن ذي سدد بن عاد بن ألماطاط بن سبأ». وإليه ذهب «ابن خلدون» في «تاريخه».

والرَّاجح عندنا أنَّ «ذا القرنين» ليس «الإسكندر»؛ لأنَّ الأخير تلميذ «أرسطو» وكلامه يدلُّ على أنَّه ليس بمؤمن، فلا يمكن أن يكون هو «ذا القرنين»، والله تعالى ذكر في «القرآن الكريم» أنَّه ملك من أهل الإيمان، وقد كتب «أبو الكلام آزاد» مصنَّفًا قرَّر فيه أنَّ «ذا القرنين» هو «قورش» الملك الفارسيّ، وذكرَ «آزاد» أدلَّة تقطعُ الشَّكَّ باليقين أنَّ «ذا القرنين» هو الملك «قورش» ذاته، ألخِّصُها في ثلاثة أمور:

الأوَّل: أنَّ «القرآن الكريم» قد ذكر أنَّ هناك مَن سأل عنه لعلمهم المسبق به، وأنَّه معروف عندهم، وهم «اليهود»، يؤيِّدُ ذلك ما أورده المفسرون من رواية «السُّديّ» على نحو ما نجده عند «الألوسي»، إذ جاء فيها أنَّ «اليهود» قالوا: إنَّ ذا القرنين ذُكر في «التَّوراة» مرة واحدة فقط، وذلك في سفر «دانيال» وحده، وهو ما يبيِّن سبب سؤالهم النَّبيّ e عنه.

الثَّاني: أنَّ الملك «قورش» قد ورد في رؤيا «دانيال» في شكل «كبش» «لو قرانائيم» وتعني بالعربيَّة «ذو القرنين»، فلفظ «القرن» لفظ مشترك بين «العربيَّة» و«العبريَّة» على حدٍّ سواء.

الثَّالث: اكتشاف تمثال في «إيران» يظهر فيه الملك «قورش» وعلى جانبيه جناحان كجناح العقاب، وعلى رأسه قرنان كقرنيْ «الكبش»، ويده اليمنى ممتدَّة إلى الأمام.

وهو مطابق لما ورد في رؤيا «دانيال». وهو ما ذهب إليه الدكتور «حاكم المطيريّ» إذ قال: «ذو القرنين هو الملك الفارسيّ قورش الكبير الذي كانت أمَّه يهوديَّة، وكان اليهود يعظِّمونه حين منَّ عليهم، وأطلق سراحهم من الأسر البابليّ وأعادهم إلى ديارهم». وهو ذاته ما ذكره «ويل ديورانت» في «قصَّة الحضارة» أيضًا فقال: «ويتنبَّأ إشعيا الثَّاني بأنَّ بلاد الفرس ستكون أداة هذا التَّحرير، وينادى بأنَّ قورش رجلٌ لا يُقهر، وأنَّه سيفتح بابل، وينقذ اليهود من الأسر، فيعودون إلى أورشليم، ويشيدون هيكلاً جديدًا، ومدينة جديدة».

          وقد استطردَ صاحب «قصَّة الحضارة» فذكر شيئًا من سيرته الحسنة التي تؤكّدُ أنَّه ملك مؤمن فقال: «وكلُّ ما نستطيع أن نقوله عنه واثقين أنَّه كان  وسيمًا بهيَّة الطَّلعة؛ لأنَّ الفرس اتَّخذوه نموذجًا لجمال الجسيم، حتى آخر أيَّام فنْهم القديم، وأنَّه أسَّس الأسرة الأكمينيَّة، أسرة الملوك العظام التي حكمت بلاد الفرس في أزهى أيَّامها وأعظمها شهرةً، وأنَّه نظم ياقوت ليديا وفارس الحربيَّة، فجعل منها جيشًا قويًّا لا يقهر، وأنَّه استولى على سرديس، وبابل، وقضى على حكم السَّاميِّين في غرب آسيا، فلم تقم لهم بعدئذ قائمة مدى ألف عام كاملة، وضمَّ إلى الدَّولة كلّ البلاد التي كانت من قبل تحت سلطة آشور، وبابل، وليديا، وآسيا الصغرى، حتى أصبحت تلك الإمبراطوريَّة أوسع المنظَّمات السياسية في العالم القديم قبل الدَّولة الرُّومانيَّة، ومن أحسنها حكمًا في جميع عصور التَّاريخ، ويبدو على ما نستطيع أن نتصوَّره فيما يحيط به من سُدُم الأساطير والأوهام أنَّه كان أحبَّ الفاتحين إلى النُّفوس، وأنَّه أقام دولته على قواعد من النُّبل وكريم السَّجايا، وأنَّ أعداءه كانوا يعرفون عنه لين الجانب، فلم يحاربوه بتلك القوَّة المستيئسة التي يحارب بها الرِّجال حين لا يجدون بدًّا من أن يَقتلوا أو يُقتلوا. وكانت أولى القواعد السِّياسيَّة التي تقوم عليها دولته أن يترك الشُّعوب المتخلِّفة التي تتألف منها حريَّة العبادة والعقيدة الدِّينيَّة؛ لأنَّه كان عليمًا كل العلم بالمبدأ الأوَّل الذي يبني عليه حكم الشُّعوب، وهو أنَّ الدِّين أقوى من الدَّولة، ومن أجل ذلك لا نراه ينهب المدن، ويخرب المعابد؛ بل نراه يبدي كثيرًا من الإكبار والمجاملة لآلهة الشُّعوب المغلوبة، ويساهم بماله في المحافظة على أضرحتها؛ بل إنَّ البابليّين أنفسهم وهم الذين قاوموا طويلاً، قد التفُّوا حوله وتحمَّسوا له حين رأوه يحافظ على هياكلهم، ويعظِّم آلهتهم، وكان أينما سار في فتوحه التي لم يسبقه إليها فاتح من قبل قرب القرابين إلى الآلهة المحليَّة في تقى وورع». «ويلوح أنَّه أوغل في حملاته حتى وصل إلى ضفاف نهر جيجون شمالاً، وإلى الهند شرقًا».

وسوم: العدد 625