غوطة دمشق

محمد كرد علي

"أتى لي في الغوطة سبعون سنة، تسلمني الطفولة إلى الشباب، والشباب إلى الكهولة، والكهولة إلى الشيخوخة، ولاقيت ربيعا وصيفها، وخريفها وشتاءها، وما لقيت إلا نضرةً وسروراً.

أنعشني هواؤها، وأدهشتني أرضها وسماؤها، وما فتئت منذ وعيت أقرأ في صفحة وجهها الفتان آيات الإبداع والإعجاز.

في ربوعها شهدت الطبيعة تقسو وتلين، وتغضب وترضى، وتشح وتسمح، فراعني جمالها وجلالها، وشاقني تزيدها واتزانها.

نشقتُ أنفاس ريّاها، وهي ترفل في زهرها ووردها، واستهوتني مجردة من ورقها وثمرها ونباتها، فأخذت بها كاشيةَ عاريةَ، وطابت لي مطيبة وتفلة".

همتُ بسحرها في سَحَرِها، وبشمسها تأفلُ وراء شجرها، وراقني وابلها وطلها، ونداها وضبابها، وجليدها وجمدها، وثلجها وبردها، ووقدها وزمهريرها، ونسيمها وأعاصيرها.

غنتني طيورها بأطيب الأنغام، ترددها من وكناتها في جناتها، وما تبرمت الأذن بنعيق البوم، ونعيق الغربان، وعواء ابن آوى، ونباح الكلاب، ونقيق الضفادع في المظلم والمقمر من لياليها، واهتززتُ للديكة تصيح، والغنم تثأج، والمعيز تثغو، والبقر يخور، والخيل تصهل، والحمير تنهق.