قراءة في ملحمة الغياب لمحمود القاعود

من جيل الشباب يتحدّر الروائي المصري  محمود القاعود،  من أب تتعهّده المعارف ويتعهّدها منذ زمن البساطة والعاطفة الجموح التي لا تعرف انكباحا أو جمود ، كان الدكتور حلمي القاعود أستاذ الأدب والنقد بجامعة طنطا ، ثم كان ابنه محمود القاعود الروائي الكاتب الأديب ، تشرّب عن أبيه حب العلوم ، لم يكن العلم لدنه كتابا تتوجّب قراءته ثم تقييم ما جمعه من معلومات في امتحان أو تقدير ، كان تجميع العلوم عنده رغبة ، وفرزها هواية ، وتصنيفها ضرورة تتطلبها المرحلة التي يُعايشها الكاتب ، لا ينتظر طارقاً يطرق بابه ليدعوه إلى البحث أو القراءة ، القراءة جزء من تكوين هذه الأسرة الواعية لمتطلبات المرحلة القائمة والمراحل القادمة ... ورث القاعود الصغير عن أبيه حب العلم والقراءة والبحث ، ولا عجب ، فكل ناشئ ينشأ على ما عوّده أبواه .... لكنه لم يكن نسخة من أبيه الفلاح الصارم ، فقد خلط القاعود الصغير شدة القرية التي جُبل عليها بنو فِلاحة ، بلين ومرونة المدينة التي حيِيَها هو وإخوانه ... إلا أن جياشة العاطفة لم تتغير بتغيّر الزمان والمكان ... وكأنّ جينات الأصالة في هذه العائلة لا تخضع لعاديات الأيام ... لغته انسيابية بسيطة، مفردات سهلة قريبة ، تتلاءم مع سرعة العصر ، وحاجات الجيل، أما العاطفة فبحر هدّار ... "الوجع غير الوجع ... لماذا استيقظت في الهزيع الثاني من الليل؟ ....أشعر بالدموع تنساب كفضيان مكبوت...كيف حولت الذكرى قلبي إلى قطعة من الجمر ؟ يعرض المشاهد كأنها لوحات فنية ، كل لوحة تحمل فكرة ، كل لوحة تحمل ذكرى ...نقرؤها بألوانها وثناياها و أحزانها.... سرادق العزاء ... في المترو ...

سفر التعب

من أجمل اللوحات لوحة سفر التعب ،لوحة تمتزج فيها الأجيال وتتصاعد فيها الحوارات ، وتتلخص فيها الحياة بأننا سائرون نحو الأقدار بعز عزيز أو بذل ذليل ، وفي زاوية اللوحة تتلاقي الأجيال ويسقط الشاب في حضن العجوز ، وفي البرزخ تلتقي الدموع وتغزر العاطفة و تتصاعد الآلام حتى تعصر فؤاد القارئ وتتمازج مع أحزان البطل ومنها: "عبثا أمسك بهاتفي المحمول أبحث عن اسمها " "قامت بعملية احتلال فلا أنا تحررت ولا هي أنهت الاحتلال " و " ويكون الحضور في ذروة الغياب" .

الحياة بالنسبة للقاعود -كاتبنا الأغر - ملاحم يتعايشها واحدة تلو الأخرى يُفنيها مرة وتُفنيه أخرى؛ملحمة الصخب ، ملحمة الغياب ... أما الذكريات فيقسمها تقسيما موسيقيا عذوبا ومضنيا ؛ تقسيم المقامات : مقام الاحتراق ، مقام الحنين ، مقام العودة ، مقام التجلي، مقام الفناء..... ولهذا دلالته الجلية بأنه رجل يحيا الحياة بمقامات الموسيقى؛ حزنا وفرحا ، يأسا وأملا ، فردا وزمراً ، قلبا وروحا ..... وتبلغ الملاحم في النفس ذروتها مع "ملحمة الغياب " القصة الأم ( الماستر )، إنها ملحمة الغوص في الماضي وآلامه، اجتماع الروح بين الأمثال أو الأضداد ، لقاء في عالم البشر أو في غير عالمهم : شكوى ونجوى، افتقار واحتضان ، تيه ورغبة في العودة دون أمل ، ليختم بتعريف للحب بين الأرواح فيقول : الحب ليس كلمات، هو طريقة ، هو حقيقة ، هو الفناء ، هو البناء،تتماهى العيون لتصبح عينا واحدة، تتماهى القلوب فيكون الإحساس واحدا ، تتماهى الأرواح فتكون روحا واحدة ويتماهى التيه ، ويكون الحضور في ذروة الغياب .

وسوم: العدد 803