التصوير في رواية الخاصرة الرخوة

clip_image002_67b52.jpg

clip_image004_32d3e.jpg

صدرت رواية "الخاصرة الرّخوة" للأديب المقدسي جميل السلحوت أواخر العام 2019 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرّواية التي صمّمها ومنتتجها شربل الياس في 260 صفحة من الحجم المتوسّط.

من المتّفق عليه بين النّقاد أنّ الرّواية قادرة على استيعاب الفنون كلها، وصياغتها ضمن قالبها الحكائي، فهي تهضم فنون القول كلّها، بل أصبحت تهضم في أحشائها فنون الصّوت والتّصوير والتلوين... إلخ.

كما أنّه من المتّفق عليه أنّ عالم الرّواية وكينونتها عالم مصنوع باللغة، وتتفاوت هذه العوالم الرّوائيّة تبعا لعوامل كثيرة.

وعودة إلى الخاصرة الرّخوة التي مرّ معنا فيما سبق إشارة إلى بعض الملامح الفنّيّة فيها، وأتوقّف اليوم أمام أبرز ملامح هذه الرّواية، وهي الصّورة والتّصوير، وما يتّصل بذلك من تطوير للصّورة الثّابتة لكي تصبح مسرحا كامل العناصر والأركان.

يعمد جميل السلحوت كثيرا إلى رسم الصّور بالكلمات، ويدقّق في تفاصيل الصّورة وكأنّه رسّام محترف، وكلما قرأت أيّ عنصر في الصّورة تجد أنّه أتى بها لغرض أبعد كثيرا من معاني الكلمات، بل إلى ما ترمز إليه من معاني، ومواقف، وقد طاوعته اللغة بيسر وسهولة في رسم هاتيك الصّور والمشاهد المسرحيّة مكتملة الأركان، حتى ليسهل على القارئ أن يجد الأمثلة في كلّ صفحة من صفحات الرّواية.

يفتتح السلحوت الرّواية بصورة حيّة متحرّكة ولكل كلمة فيها مغزى ومعنى، قال عن عيسى الحماد:" عاد من عمله منهكا، رائحة زيت قلي الفلافل تفوح من ملابسه، ندوب بقايا حروق على ساعديه ووجهه غير الحليق من الزّيت الذي يتطاير من المقلى، حيث يبيع "ساندويشات“ الفلافل لطلاب مدرسة الذّكور التي تبعد عن بيته حوالي خمسمائة متر، جلس على كرسيّ خشبيّ أمام البيت المكوّن من غرفتي نوم، صالون ومطبخ وحمّام. لم يشعر بقدومه أحد من أهل بيته، ولم يسأل هو عن أحد، فقد اعتاد على الجلوس أمام البيت عندما يكون الجوّ ملائما، يمدّ نظره إلى الأفق البعيد، ينظر جمال الطّبيعة، وأحيانا يراقب الغيوم البيضاء المتناثرة في الفضاء والرّيح تدفعها شرقا، يحملق فيها، يرى أنّها ترسم لوحات جميلة لأماكن لا تنمحى من ذاكرته. في ذلك اليوم القائظ، رأى الغيوم تجسّد شكل البيت الذي ولد فيه على شاطئ يافا، رأى المرحوم والده يتشكّل غيمة أمام البيت، تنهّد عندما سمع أذان صلاة العصر ينطلق من المسجد الأقصى" ص٥

إنّها لوحة رسمت بعناية واهتمام، فكم من الأفكار الكامنة في هذه اللوحة؟ إنّها تضم حشدا كبيرا من المعاني نظرا للمفردات الموحية والمنتقاة بدقة؛ لتحمل تلك المعاني الاجتماعيّة والنّفسيّة التي عليها ذلك الرّجل، وذلك عبر مجموعة من لوحات صغيرة تتشكل منها اللوحة الكبيرة من خلال الكلمات. ماذا لو حذفنا كلمة منهكا من الجملة الأولى؟ ستفقد الصّورة رونقها وجمالها وتعبيرها عمّا بذله الرّجل من جهد في عمله طوال اليوم.

هذه الصّورة لا تعتمد على البصر، أو على ما يُبصَر فقط أو يُرى، بل تتشكل كذلك ممّا يرى، وممّا لا يرى من ألوان وأصوات وروائح، وحركة (ندوب، حروق، رائحة زيت، البيضاء، تدفعها شرقا، تنهّد). وهكذا لو اخترنا أيّ مشهد تصويريّ في الرّواية فإنّنا سنجد الألوان والرّوائح والحركة والأصوات تشكلّ عناصر تلك الصّورة فتمنحها الحياة والنّشاط..

وفوق توظيف فنّ التّصوير الفوتوغرافيّ للأمكنة وللشّخصيّات، فإنّ هناك تصويرا لتفاعلات نفسيّة في داخل الشّخصيّة، وهذا مثال على ما يكنّه والد أسامة في نفسه نحو عيسى الحمّاد، بعيد لحظات من خطبته لجمانة: "بعد أن ابتعدوا قليلا عن بيت أبي جمانة، قال أبو أسامة:

الدّنيا آخر وقت، سبحان الله، صدق المثل الذي يقول:“ بيجي للرّدي يوم يتشرّط ويتمظرط فيه، حتّى لو في يوم زواج بنته“، وهذا عيسى الحمّاد، بدل من أن يحمد الله على طلبتنا لابنته، طلب مهلة لاستشارة أهل بيته." ص ١٢ فهذه صورة مرسومة بالكلمات، كلمات أبو أسامة، تكشف عمّا يدور في رأسه من غطرسة واستعلائيّة وعنصريّة، بل إنّ مفرداته التّصويريّة تعبّر عن مستوى أخلاقيّ واجتماعيّ تنقصة اللياقة والذّوق.

وهذه صورة لجمانة ليلة خطبتها وهي تحاول إقناع والديها بعدم رغبتها في الزواج: "اسودّت الدّنيا في وجه جمانة، استدارت على جانبها الأيسر في فراشها، غطّت جسدها كاملا بما في ذلك رأسها بلحاف خفيف، تركت ارتفاعا بسيطا أمام وجهها لتتنفّس منه، لم تعد ترى أمامها إلّا الحائط، انهارت دموعها رغما عنها، لم تعد تدري لماذا تبكي؟ هل تبكي حظّها العاثر أم ماذا؟ فالزّواج لم يخطر لها على بال". ص ٢١.

فهذه الصّورة تجسّد معاني وصفات خارجيّة مرئيّة ومُدركة، كما تتضمّن تفاعلات سيكولوجيّة عبّرت عنها مظاهر الشّكل الحركيّ واللونيّ.

أمّا المشهديّة المسرحيّة المستفيدة من عناصر العمل المسرحيّ وتوظيفة فكثيرة جدّا في الرّواية، تلك العناصر التي تتضمّن الأشخاص الممثّلون، والحركة، والحوار والصّراع، كلها مستخدمة وبعناية وبراعة خدمت العمل الرّوائيّ، وحتّى الحوار الذي صيغ بالفصيحة فإنه يسهل تحويره أو قراءته بالعامية ليعبر عن المستوى الاجتماعيّ والثّقافيّ للشّخصيّات.

هذا مشهد مسرحيّ يكشف فيه المؤلف عن بعض جوانب الشّخصيّات، فيوم عقد قران أسامة على جمانة، فسح المجال لهما لكي يتعارفا، فكان ما يلي: "أغلقت أمّ أسامة باب الصّالون خلفها، التفت أسامة إلى جمانة وقال على استحياء:هل تعلمين أنّك الآن زوجتي؟ طأطأت رأسها حياء ولم تقل شيئا.

عاد يسألها: هل تعلمين أنّ الزّوج يقبّل زوجته؟ فطأطأت رأسها مرّة أخرى ولم تنبس ببنت شفة. وضع يده على رقبتها وطلب منها أن تقبّله، فلم تلتلفت إليه، أدار وجهها إليه وقال لها:

ما أجملك! سبحان الخالق الذي خلق فسوّى، ثم قال وهو يهوي بشفتيه على شفتيها:هاتان الشّفتان حان قطافهما.

شعرت باختناق وهو يطبق بشفتيه على شفتيها، شعر ذقنه الطويل يغطّي عنقها، يده اليمنى تحيط برقبتها، مدّ يده اليسرى إلى صدرها فردّته بيدها اليمنى وهي تلهث خائفة.

كان متوتّرا أطلق شفتيها للحظات وسألها وهو يلهث:

لماذا لا تقبّلينني كما أقبّلك، فالقبلة حقّ للزّوجين؟ لم يجد عندها جوابا، فعاد يطبق بشفتيه على شفتيها، نظرت إلى وجهه باستغراب، شعرت بقلق بالغ، حزنت على نفسها، ولم تستوعب طريقة تعامله معها، حاول أن ينزّل حجابها وهو يقول:

دعيني أرى شعرك.

لكنّها صدّته قائلة: لن ترى شعري قبل زفافنا.

فردّ عليها بصوت منخفض وغاضب: أنت الآن زوجتي.

قالت مستاءة: لن أكون زوجتك قبل حفل الزّفاف، وإشهار هذا الزّواج.

وقفت في محاولة منها للهروب منه، لكنّه أمسكها من ذراعها وضمّها إلى صدره بقوّة، وعاد يطبق على شفتيها بشفتيه، وقال لها:

سأكون سعيدا جدا بك، فجمال وجهك يأسرني، وقامتك أقصر من قامتي ببضعة سنتيمترات، وهذا يعني أنّني سأحني رأسي قليلا عندما أقبّلك، وهنا سمعا طرقا خفيفا على باب الصّالون، فأسرع كلّ منهما إلى مقعده، وعندما تكرّر طرق الباب قام بفتحه قليلا وإذا بوالدته أمامه تقول باسمة:

جئتكما بفنجاني قهوة، أمسك الصّينيّة من يد أمّه التي قالت له ضاحكة:

إهنأ بعروسك فلن يطرق بابك أحد.

قدّم فنجان قهوة لجمانة وهو يقول:

تفضّلي يا سيّدة الجمال.. فردّت عليه عابسة:أنا لا أشرب القهوة.

فعاد يسألها: هل تشعرين بغربة وأنت معي وحيدة في غرفة مغلقة؟ فردّت عليه بجرأة: طبعا، فأنا لا أعرفك ولم أعتد عليكَ.

رشف قليلا من فنجان القهوة وسألها:

وهل تعرفين غيري ومعتادة عليه؟ نظرت إليه نظرة احتقار وسألت وهي تقف في محاولة منها للخروج:

هل تطعنني بشرفي من الآن يا....؟ ولم تكمل، بينما انهارت الدّموع من عينيها.

ابتسم وهو يقول: أعوذ بالله، لكنّني أستفزّك كي تجلسي في حضني!" ص39-41. هذه المشهديّة بلغتها البسيطة السّلسة تكثر وتتعدّد في الرّواية؛ لتكشف عمّا تفكر به كلّ شخصيّة من الشّخصيّات، دون أن يشغل الكاتب نفسه في الحديث عنها، بل يجعلها تكشف عن صفاتها وفكرها ومشاعرها بذاتها، وكأنّه، أي الرّاوي، ليس موجودا أبدا، فالشّخصيّات تتحرّك، وتفعل، وتتحدّث وتنفعل وتتفاعل بعيدا عن عين الرّاوي المختفي خلفها.

وسوم: العدد 857