تحديات الأدب الإسلامي

- بعض الإسلاميين يتحفظون على الفنون السردية والدرامية لارتباطها ذهنياً بالابتذال والعلاقات غير المشروعة

- الفن الأدبي حالياً ضرورة لتوصيل التصورات الإسلامية من خلال المتعة الجمالية التي تؤثر بالنفوس

- بعض المهتمين بالفكرة الإسلامية في الآداب والفنون يقفون موقفاً متخاذلاً في بعض الأحيان

- مطلوب إنشاء دور نشر وصحف ومواقع عن طريق الأسهم الصغيرة لتكوين شركات نشر وإعلام غير ربحية

في يوم ما كنت عضواً في لجنة اختيار المعيدين بإحدى الكليات العربية، سألت الطالب الذي أمامي:

- هل قرأت رواية؟

فلزم الصمت، أعدت عليه السؤال بصيغة أخرى:

- ألم تقرأ قصة أدبية؟

فلم يرد، بدا لي الطالب مؤدباً ومهذباً، ولكن عدم رده جعلني أسأله:

- ألم يدرس لكم الدكتور فلان روايات س، ص، ل، من الكتّاب (ذكرت له أسماءهم)؟

قال: بلى!

قلت:

- هل ترى أن الرواية حرام؟

أجاب بصوت خافت: الشيخ سُئل، فسكت!

ابتسمت، ومازحته قائلاً:

- إنك بذلك ستقطع أرزاق كثير من الناس.

ابتسم الفتى، وأدرك ما أعنيه، والفكرة أن هناك من لا يدرك أهمية الآداب والفنون في بناء الوجدان وتهذيب النفس وتوجيه العقل، وتصفية الروح من الشوائب والأدران، وهناك من ترسبت في ذهنه صورة الآداب والفنون قريناً للابتذال والانحطاط الذي يطالعه ويشاهده ويسمعه في الوسائط المختلفة، ثم هنالك من يعتقد أن الآداب والفنون الإسلامية تأتي في ثياب الوعظ والترهيب والتخويف والجهامة والعبوس والجمود!

والحقيقة أن الآداب والفنون الإسلامية حين تأتي على يد شخصيات مؤمنة موهوبة، فإنها تجعل من "الفن" كما يقول المجاهد الكبير الراحل "على عزت بيجوفيتش": الوجه الآخر للدين.

استغرق الحركةَ الإسلامية الحديثُ عن التنظير للأدب الإسلامي قرابة نصف قرن أو يزيد، وما زال الحديث حول طبيعة الأدب أو الفن الإسلامي يستغرق كثيراً من الوقت، بينما المطلوب هو الحديث عن التطبيقات التي يقدمها موهوبون في مختلف الفنون الأدبية: القصة القصيرة، الرواية، المسرحية، الشعر، الملحمة، الدراسة الأدبية والنقدية، التراجم.. وآن الأوان للحديث عن التنفيذ، ثم الحديث عن الوسائط الناقلة لهذه الفنون الإسلامية وكيف يمكن أن تتسع دائرتها مع تشجيع الموهوبين.

فيما يخص الشعر تبدو الأمور طبيعية يسيرة، فأغلب أنصار الفكرة الإسلامية الأدبية ينظمون الشعر وراثة ويعشقونه دراسة، وقبوله مسألة تلقائية، ولكن التحفظ يظهر أمام الفنون السردية والدرامية، لارتباطها في الذهن العربي بالابتذال والعلاقات غير المشروعة والتدني اللفظي والأسلوبي، ولكن تقديم النماذج الراقية كفيل بإلغاء التحفظ، وفتح الطريق أمام الفنون السردية والدرامية الجميلة، وينبغي أن أذكّر أن هذه الفنون كانت أول من عرّف القراء في أمتنا بمشكلات المسلمين خارج العالم العربي، من خلال ما كتبه الروائي الرائد الراحل نجيب الكيلاني وغيره، فضلاً عن تعريفهم بتاريخهم وما فيه من مواطن القوة وأماكن الضعف.

الكيلاني نموذج مشرق

لقد كتب الكيلاني مثلاً أربع روايات كانت وسيلة قوية ومفيدة في التعرف على واقع المسلمين المعاصر في بعض المناطق البعيدة، هي: "ليالي تركستان"، "عذراء جاكارتا"، "الظل الأسود"، "عمالقة الشمال".

فقد عالجت الأولى مأساة المسلمين في تركستان تحت الاحتلال الشيوعي الصيني، والثانية بؤس المسلمين في إندونيسيا في ظل النظام الشيوعي الاستبدادي بقيادة "أحمد سوكارنو"، والثالثة اضطهاد المسلمين في الحبشة في عهد الإمبراطور المتعصب "هيلاسلاسي"، والرابعة محنة المسلمين والإسلام تحت الاستبداد الدموي الذي يوجّهه ويحرّكه المبشّرون في نيجيريا أكبر دولة مسلمة في أفريقية.

وبسبب القمع والحصار الإعلامي الذي ساد فترة الستينيات من القرن الماضي، لم يعرف الناس شيئاً عن واقع المسلمين المأساوي في تلك البلاد، وأذكر أن د. محمد عاشور، رئيس تحرير "الاعتصام" رحمه الله تعالى، اقترح على د. الكيلاني رحمه الله تعالى أن يكتب عن واقع المسلمين في البلاد البعيدة، واستجاب الكيلاني، فزوّده عاشور بالكتب والأبحاث والوثائق التي تساعد جغرافياً وتاريخياً واجتماعياً على الكتابة، وظهرت الروايات الأربع واحدة بعد أخرى، وكان لها صدى طيب؛ فقد نقلت إلى الناس في سياق جمالي ممتع ما لم ينقله الإعلام الذي يصبّ في آذانهم وأعينهم أخبار العالم كله؛ عدا أخبار المسلمين المظلومين! وهو ما ساعد على تواصل العالم بهم والتعرف على ما يجري لهم.

وحين شنّ الصليبيون الصرب بمساعدة الغرب وأمريكا وكندا حرب الإبادة ضد مسلمي البوسنة والهرسك كتب الكيلاني مسرحيته "سراييفو حبيبتي" حيث عرض للمأساة بموهبة فنية بارعة.

الأدب ضرورة عصرية

الفن الأدبي في عصرنا ضرورة لتوصيل الأفكار والرؤى والتصورات الإسلامية من خلال المتعة الجمالية التي تؤثر في النفوس والقلوب، وقد عالجت ذلك تفصيلاً في كتابي "الأدب الإسلامي- الفكرة والتطبيق" الذي صدر عن دار النشر الدولي بالرياض 2007م.

والأمر يحتاج إلى تشجيع الموهوبين؛ مادياً ومعنوياً، وخاصة الشباب الذي ينبغي توجيهه نحو ينابيع الثقافة الإسلامية الرفيعة والفن الجيد، وهنا يأتي دور مهم للغاية في هذا السياق تقوم به المسابقات الأدبية لاكتشاف المواهب الجديدة، ولعل رابطة الأدب الإسلامي قد أبلت بلاء حسناً يوم أعلنت عن بعض المسابقات في الرواية الإسلامية وأدب الطفل المسلم، وأتيح لي بحكم مشاركتي في التحكيم أن أطلع على كتابات عدد لا بأس به من الموهوبين، وقامت الرابطة بنشر أعمال الفائزين في حينه، وكان ذلك خطوة في الاتجاه الصحيح.

بيد أن كل عمل إسلامي لا يقوم على نظام جماعي مؤسّسي، أو يرتبط بوجود شخص أو أشخاص يبذلون أقصى طاقتهم في بذل الجهد والعمل من أجل الفكرة، ينتهي أو يتراجع إذا منع هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص ظرف طارئ من مواصلة النشاط والعمل، وهو ما يستوجب أن تكون هناك مبادرات ذاتية على مستوى من يعنيهم أمر الآداب والفنون الإسلامية في بناء مؤسسات منظمة فعالة في كل مكان متاح، تعمل تلقائياً وفق نظام ومدونات تساعد على خدمة الأهداف وتتجدد باستمرار، وتخدم الفكرة النبيلة بالنشر والتعريف والتقويم، ولا تكتفي بالشكل والشعار والصورة.

لقد سيطر الشيوعيون وأشباههم على الإعلام والمنافذ الثقافية والفنية والجوائز والمؤتمرات منذ الستينيات في القرن الماضي حتى اليوم، وفرضوا حصاراً إقصائياً وتعتيماً شاملاً على كل قلم متوضئ، لصالح أتباعهم من ذوي المواهب الضحلة والإمكانات المحدودة، والتصور المعادي للإسلام، لا تقرأ خبراً أو تعريفاً أو نشر كتاب أو دراسة عن أديب يؤمن برب العالمين وتصور الإسلام الناضج، إنهم يقتلونه بالحصار والصمت فيموت كمداً، بعد أن وثقوا وجودهم الاستئصالي في مرافق النشر والدعاية والثقافة بصورة راسخة لأسباب عديدة ليس هنا مجال سردها. 

وللأسف، فإن من يفترض فيهم الاهتمام بالفكرة الإسلامية في الآداب والفنون، سواء كانوا يعملون في الصحف أو الإعلام أو دور النشر التي ترفع الراية الإسلامية، يقفون موقفاً متخاذلاً ومتقاعساً ومؤلماً في بعض الأحيان؛ بعضهم حريص على مصالحه الخاصة ويتصور أنه لو وقف إلى جانب كاتب موهوب أو موهبة مبشرة سيوضع في حرج لدى رؤسائه الذين يكونون عادة في أفضل الأحوال من غير المتحمسين للفكرة الإسلامية، بينما الشيوعيون وأشباههم يدفعون بكل من يكتب من أتباعهم إلى الصدارة والدفاع عنه ولو كان ضعيف القدرات الفنية، ولو كان بينهم وبينه خلافات شخصية وما أكثرها.

أما دور النشر التي ترفع راية الإسلام فمعظمها يضع التجارة والربح والمصالح الخاصة في حسبانه قبل الهدف الرسالي المفترض، وبعضهم يأكل حقوق الكتَّاب البسيطة، وبعضهم لا يتورع عن الكذب في تعاملاته، مع الادعاء أن حركة البيع راكدة، وأن القراء لا يشترون، وأن الكتب لا توزع، بينما تتغير أحواله الشخصية باستمرار، فينتقل للسكنى في الأحياء الراقية بدلاً من الأحياء الشعبية، ويركب السيارات الفخمة بدلاً من السيارات المتهالكة، إنها صورة قبيحة ومشوهة للسلوك الذي يتم باسم الإسلام.

في البلاد غير الإسلامية تجد الناشرين الذين لا يرفعون راية ولا شعاراً ولا يربون لحاهم ولا يرددون مصطلحات وأدعية إسلامية من طرف ألسنتهم، يتعاملون مع الكتَّاب والمؤلّفين والمحرّرين بوضوح وصدق وإنجاز، يحددون موعداً معقولاً لقبول العمل أو رفضه أو تعديله، وإذا قُبل يوقعون عقداً يذكرون فيه حقوق الأديب ومواعيد تسديدها الدقيقة، أما معظم الناشرين الذين يرفعون الراية الإسلامية عندنا، فأمرهم عجيب وغريب، ولديّ قصص وحكايات تصنع روايات طويلة، عن أكاذيبهم، وأكلهم حقوق الأدباء، ونفاقهم الرخيص.

والسؤال: هل هؤلاء يمكن أن يخدموا الأدب الرسالي؟ أو يشجعوا الموهوبين والكتَّاب الجدد؟ لا أظن! وآمل ألا يغضب أحد من كلامي؛ فأن تكشف نواحي القصور عندك خير من أن يتحدث بها الآخرون المتربّصون، وفقاً للأثر: "رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي"، وعلى رأي المثل: "بيدي لا بيد عمرو"!

تبقى ضرورة فكرة إنشاء دور نشر وصحف أو مواقع عن طريق الأسهم الصغيرة لتكوين شركات نشر وإعلام غير ربحية في الأماكن المتاحة، تتولى النشر والتعريف بالإنتاج الأدبي الإسلامي، وتشجيع الموهوبين وإصدار أعمالهم ومكافأتهم بما يحفزهم إلى الإنتاج والتجويد والنضج.

والله من وراء القصد.

وسوم: العدد 879