خلف العبيدي وإصلاح ذات البين

أ. فايز سعود أبو سرحان

clip_image002_30195.jpg

clip_image004_0e6d1.jpg

صدر قبل أيّام كتاب "خلف العبيدي- رجل من هذا الزّمان" للكاتب علي عطا أبو سرحان، ويقع الكتاب في 188 صفحة من الحجم المتوسط.

الإصلاح بين النّاس موضوع له خطره وأثره، فالقائم بالإصلاح بين النّاس يتعرّض كثيرا للاتّهام من الطّرفين، لأنّه يمثّل الحقيقة في وضوحها، ولا يملك أن يحيد، وقد يحدث أنّ كلا الطّرفين أو أحدهما لا يرضى بالحقيقة، فلا بدّ له من الصّبر الواسع على هذا الأمر العظيم، وله أجر عند ربّه سبحانه وتعالى.

والإصلاح بين النّاس وظيفة المرسلين لا يقوم بها إلّا أولئك الذين أطاعوا ربّهم، وشرفت نفوسهم، وصفت أرواحهم يقومون به لأنّهم يحبّون الخير والهدوء ويكرهون الشّرّ حتّى عند غيرهم من النّاس، فالقرآن الكريم وعلى لسان شعيب – عليه السّلام- ينصّ على ذلك صراحة فيقول:" إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت" هود : 88.

إنّ الإصلاح بين النّاس عبادة عظيمة يحبّها الله سبحانه وتعالى، فالمصلح هو ذلك الرّجل الذي يبذل جهده وماله، ويبذل جاهه ليصلح بين المتخاصمين... قلبه من أحسن النّاس قلوبا، نفسه تحبّ الخير.. تشتاق إليه. يبذل ماله ووقته، ويقع في حرج مع هـذا ومع الآخر، ويحمل هموم إخوانه ليصلح بينهما.

كم بيت كاد أن يتهدّم بسبب خلاف سهل بين الزّوج وزوجه، وكاد الطّلاق.. فإذا بهذا المصلح بكلمة طيّبة، ونصيحة غالية، ومال مبذول، يعيد المياه إلى مجاريها، ويصلح بينهما.

كم من قطيعة كادت أن تكون بين أخوين، أو صديقين، أو قريبين، بسبب زلّة أو هفوة، وإذا بهذا المصلح يرقّع خرق الفتنة ويصلح بينهما.

كم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال، وفتن شيطانيّة كادت أن تشتعل لولا فضل الله ثم المصلحين!

فهنيئـا عبـاد الله لمـن وفّقـه الله للإصلاح بين متخاصمين أو زوجين أو جارين أو صديقين، أو شريكين أو طائفتين، هنيئا له ..هنيئا له ..ثم هنيئا له.

قراءتي المتواضعة واطّلاعي على هذا السّفر الذي وثّق لمسيرة وحياة رجل من بلدتي"العبيدية" ولد في النّصف الثّاني من القرن العشرين، وهو اليوم يعيش العقد السّابع من عمره، ذلك هو رجل الإصلاح والمرجعيّة العشائريّة على مساحة الوطن فلسطين ( الحاجّ خلف صالح أبو سرحان العبيدي ) (أبو محمد ).

فإنّ الكاتب الأستاذ علي عطا أبو سرحان "أبو المنذر" الذي يحمل شهادة البكالوريوس في التّاريخ، ويعيش في عقده السّادس من عمره قد عاصر وعايش كثيرا من القصص والقضايا التي كان للحاجّ خلف دور كبير فيها. وهو أي الكاتب صاحب قلم سيّال وكلمات سلسلة تجد طريقها سهلا إلى قلب القارئ.

وقد جاء الكتاب يرسم ويبدع في نسج قصّة هذا الرّجل بأسلوب ماتع ورائع وسلس، يسرد شيئا من سيرته الذّاتيّة لا ينقصه متعة التّشويق، يأخذ بمجامع قلب كلّ قارئ لهذه السّيرة ويأسر فؤاده في عرض للأحداث بطريقة تمّ فيها توظيف كلّ عناصر القصة من الزّمان والمكان والأشخاص والأحداث والحبكة، والحلّ ممّا يجعل القارئ يمضي سريعا ودون توقف للوصول إلى النّهاية في كلّ مقطع، بل وفي كلّ مشهد من أحداث هذه السّيرة، والتي لا يزال صاحبها يعيش بشخصه في واقعنا وما يمور فيه من قضايا وأحداث متلاحقة، تجده فيها فارس المضمار والنّجم اللامع الذي يترك بصمة خير في نزع كلّ فتيل للشّرّ، ويعيد الوئام بعد الخصام والصّلح والسّلام بعد الحرب والخصام بين طرفي النّزاع.

ومن واقع تجربتي الشّخصيّة وقبل ثلاثين عاما، وبعد قيام سلطات الاحتلال بهدم بيوتنا وتشريد عائلتنا، وتركها دون مأوى كما يعرف جميع أبناء شعبنا، كان دور الحاجّ خلف واضحا ومشهودا في مؤازرته ودعمه لهذه العائلة المنكوبة، ممّا يؤكّد صدق انتمائه الوطنيّ، وتشرّبه حبّ فلسطين، وتواجده في كلّ السّاحات التي يقلّ فيها تواجد كثيرين، فهو من النّاس الذين إذا غابوا افتقدوا، فيما لو غاب كثيرون لا ينتبه أحد لغيابهم، وصدق الشّاعر عندما قال:

وكم من رجل يعدّ بألف رجل        وكم من رجال تمرّ بلا عداد

وميادين تواجده كثيرة ففي ميدان الشّباب والرّياضة كان حاضرا وبوضوح كبير، فهو صاحب السّبق في ترتيب وتأهيل ملعب بلدي العبيدية عام 1984، حين حرّك كلّ ما يملك من آليات وجهد ومال، ووضعه في خدمة شباب البلدة، فملعب البلدة اليوم بلونه الأخضر يشهد لماض عريق، كانت بداياته ببصمة الحاجّ خلف صالح أبو سرحان العبيدي.

وترى تواضع هذا الرّجل وبساطته، وهو يحدّثك عن طفولته في حياة والده، وقصص يرويها من ذاكرته التي تحكي أدقّ التّفاصيل، وكأنّها وقعت قبل أيّام، فهذه قصّة المذياع الذي اشتراه والده في عام 1966، وما سمع منه من أحداث وأخبار وخاصّة حرب 1967 وأحداث أخرى نسمعها منه مباشرة، وهي غيض من فيض وفي الكتاب غيرها كثير وكثير جدّا.

وترى عينيه وهما تلمعان وهو يحدّثك عن فلسطين، وقد رزحت تحت الاحتلال والتآمر منذ ما يزيد على قرن من الزّمان؛ لتستشعر مدى وطنيّته وانتمائه وحبّه لوطنه فلسطين، وهو يتحدّث عن ضمّ المحتلّ للقدس الشّرقيّة، "مقيمون وليسوا مواطنين!" الإستيطان والبناء العمرانيّ وغيرها.

لماذا خلف العبيدي؟

وهنا السّؤال الكبير الذي يتبادر لذهن القاريء، لماذا الكتابة عن هذا الرّجل بالذّات دون غيره ؟ لماذ لم يكن غيره فهناك كثيرون؟

والإجابة سهلة واضحة دون مواربة، إنّه خلف الإنسان المتفاني بكلّ ما يملك في حلّ النّزاعات ورأب الصّدع والحضور الدّائم.

إنّه رجل في زمن قلّ فيه الرّجال.  

نعم إنّه رجل في هذا الزّمان لا تكاد ترى ميدانا من ميادين الخير وحلّ النّزاعات وفضّ الخلافات يعتب عليه، فهو أوّل الحاضرين وآخر المغادرين، يبذل جهده ويضحّي بمعظم وقته، همّه أن يسود الهدوء، وأن تستتبّ الأمور، وتعود الحياة إلى سالف عهدها.

ومن خلال عرض الكاتب لصفحات حياة الشّيخ خلف العبيدي، بدا واضحا جليّا معاناة هذا الرّجل في مستهلّ عمره ونشأته، وكيف عاش شظف الحياة، وهو يمثّل حياة جيل كامل، كما لا يخفى على أحد ألا وهو جيل ما بعد النّكبة وما قبيل النّكسة. فقد عاش مرحلة ضياع الماضي وأمل المستقبل القادم، والذي تلاشى إلى نكسة جديدة عام 1967 والتي صنعت منه رجلا قوي الشّكيمة صلب المراس.

وعند قراءة سيرة هذا الرّجل تجد كلّ صفات الرّجولة والشّهامة من الجود والسّخاء والشّجاعة والوفاء، والمروءة والمحبّة والتّسامح، ونصرة المظلوم ودفع الأذى عن الضعفاء والمهضومين والمسحوقين، وغيرها من صفات الخير والأخلاق الفاضلة.

وهو يعي جيّدا أهمّيّة الإصلاح في ترسيخ السّلم المجتمعيّ، وحفظ الأجيال والأعراض والأموال والدّماء والقيم والعادات الحميدة.

نعم إنّه يعي عظم أجر المصلحين وفضل الإصلاح بين النّاس، كما ورد عن  رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله:" ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:" إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة."

ومرّة أخرى إنّه الحاجّ خلف صالح أبو سرحان العبيدي، من سكان بلدة جبل المكبر ( امليسون ) بجوار بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك، صاحب العلاقات الواسعة والممتدّة امتداد الوطن فلسطين وعاصمته المقدّسة. فتجد علاقته بمحافظ القدس وطيدة، وكذا بباقي محافظات الوطن، وذلك كلّه للوصول لأهدافه النّبيلة في الإصلاح وتمتين الرّوابط الاجتماعيّة، وتعزيز قيم التّسامح والعفو والكرم العربيّ الأصيل.

نلخصه بكلمات : رجل المواقف، حكمة، عقل راجح، صاحب قرار، قدرة على حسم الأمور، لا تردّد، لا تراجع، لا خوف، ولا تواني ولا كسل. 

وسوم: العدد 882