عمود الشعر وخمس طوال للشاعر الأصيل والمناضل الدكتور حاتم جوعيه

توطئة :

dhgdhjdg956.jpg

( الكاتب الاستاذ علي هيبي مع الدكتور حاتم جوعيه )  

أرسل إليّ الشاعر الوطني الأصيل والملتزم ، ابن المغار الجليليّة الدكتور حاتم جوعيه خمسًا طوالًا للقراءة والاطّلاع، ولكنّ شكل القصائد ومضمونها جعلني أذهب إلى ما هو أكثر من القراءة، وإلى ما هو أقلّ من الدراسة والنقد، ولقد تعوّدت عندما أكتب عن إبداع أحد شاعرًا كان أو كاتبًا، فإنّي أفعل ذلك من خلال رؤيتي الذاتيّة لذلك الإبداع ومن خلال استخدامي لبعض أدواتي الثقافيّة في مجال النقّد الذوقيّ لا العلميّ، وباعتمادي على حسّي وحسن قراءاتي ومعارفي المتواضعة، وبلا التزام لأحد إلّا لقناعاتي وللنصوص التي أكتب عنها.

أعادني الدكتورحاتم جوعيه بخمسه الطوال إلى قرون مضت، يوم كانت تعلّق السبع أو العشر الطوال على أستار الكعبة لقيمتها الفنيّة ومكانتها السامية عند العرب، وسمّيت "المعلّقات" لذلك السبب، وسمّيت "المذهّبات" لسموّ معدنها الشعريّ شكلًا ومضمونًا. أعادني حاتم إلى ليل امرئ القيس، إلى فروسيّة عنترة وبطولته الفرديّة وحبّه لعبلة التي يستحقّ حبّها، إلى حكمة زهير بن أبي سلمى ومدحه لهرم بن سنان أحد المصلحين وأجواد العرب، وإلى شبوبيّة طرفة وفتوّته وخمره وخولته التي بقيت أطلالها في برقة ثهمد تشهد على حبّها الراحل، أعادني إلى نرجسيّة عمر بن أبي ربيعة وغزله المستبيح لخباءات العذارى، وأعادني إلى همزيّة أبي نواس ومجونه الفلسفيّ وإلى بائيّة أبي تمّام ونخوة المعتصم وانتصاره المؤزّر في عمّوريّة، وإلى عبقريّة المتنبي وتجاربه الفذّة وطعانه للأعداء والخيل مهما كثروا، وكان الدهر واحدّا منهم فقط، فعزيمة المتنبي لا تفلّ بالحديد والسيوف لأنّ صاحبها من أهل العزم الذين على قدرهم تأتي العزائم، وشعر المتنبي جعل الأعمى ناظرًا والأصمّ سميعًا، أعادني إلى أجواء القصيدة التقليديّة الإبداعيَّة القديمة التي كانت حديثة في عصرها على حدّ تعبير الناقد الكبير ابن قتيبة بحقّ، في كتابه "الشعر والشعراء". وما زالت حديثة إلآن ، والكثيرون من النقاد العرب والأجانب اليوم يعتبرون المتنبي شاعرا معاصرا. وهنالك من يشبّهُ شعر امرىء القيس بروائع شكسبير .

أمّا في العصر الحديث وبعد نهضتنا الأدبيّة والثقافيّة منذ بداية القرن التاسع عشر، فإنّ حاتم جوعيه كشاعر يتمسّكُ بأصالة فنيّة شعريّة قلّ نظيرها اليوم وفي حاضرنا الأدبيّ الراهن أسوة بالشعراء الكلاسيكيين الكبار الحديثين والمجددين كأحمد شوقي والبارودي وسليمان العيسى والجواهري والبردوني وبالشعراء الكلاسيكيين العالميين الأجانب، فإنّه يعدّ نفسه كوكبًا في مجرّة كواكب من الشعراء الذين أتبعوا شعرهم لذلك الشعر التقليدي القديم: أحمد شوقي في مصر والجواهري في العراق وعمر أبو ريشة في الشام وعبدالله البردوني في اليمن، وقد سار هؤلاء على خطى النهج الكلاسيكيّ الحديث في الشعر، بالتمسّك بالشكل والبناء الخارجي على الأقلّ مع تجديدات كثيرة في المضامين تواكب العصر الذي عاشوه وعايشوه، فجاءت قصائدهم متعدّدة المواضيع، طويلة كالخمس الطوال التي نحن في صدد معالجتها بالتذوّق والحسّ وبالحديث عنها بقليل من العلم والنقد، وسمّي ذلك الاتّجاه أو المذهب بالعربيّة الإتباعيّ وبالإنجليزيّة بالنيو كلاسيكيّ (الكلاسيكية الحديثة ). وقصائد هؤلاء فيها حداثة وتجديد أكثير بكثير من القصائد الحديثة اليوم والمتحررة من الوزن والقافية والفارغة من المضامين والمعاني ..وحديثة فقط في شكلها وبنهائها الخارجي ولا يوجد فيها وزن وإيقاع موسيقي وقافية وجمال لفظي ومعنوي..والتجديد الحقيقي هو في الجوهر والمضمون وليس في الشكل والبناء الخارجي، ولهذه معظم القصائد الحديثة لا يوجد فيها تجديد وابتكار وابداع ومعانيها ومواضيعها مجرد تكرار واجترار، بل سخافات وتفاهات مع انها متحررة من قيود القافية والوزن شكليًّا .

الشاعر وعمود الشعر:

للدكتور حاتم جوعيه آلاف القصائد من الشعر الكلاسيكي التقليديّ والمئات على نمط شعر التفعيلة ( الموزون ) ، وله بعض القصائد النثرية المتحررة من الوزن ..ولكنه يفضل دائما الشعر العمودي التقليدي والقافية وللتمثيل لتموضع الشاعر المُكثر والمُجيد في سلسلة عائلة الشعر العموديّ، التي بدأت بالفترة الجاهليّة مرورًا بمرحلة صدر الإسلام والأمويّة والعباسيّة وما سمّي ظلمًا بفترة الانحطاط ووصولًا إلى النهضة والإحياء والبارودي وشوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران ، واستمرارًا لدى الكثير من الشعراء في العالم العربيّ وفي الداخل الفلسطينيّ . للتمثيل لذلك سأدع الشاعر يموضع نفسه كما عبّر عنها في قصائده:

يقول حاتم جوعيه في ضاديّة بعنوان "آدم وحوّاء":

"أنا شاعرُ الشعراءِ في وطني     بي الفنُّ يبغي السيرَ والنهضا"

وَمُتنبِّىءُ العصرِ الذي انتفضَا     مَن يبتغي عن نهجِهِ غَضَّا

ويقول في القصيدة نفسها:

"وقصيدتي عصماءُ ساطعةٌ     فتشعّ من آفاقِها البيضا

قدْ   يعجزُ   الأفذاذُ   كلُّهمُ      أنْ ينظموا كوميضِها ومضا"

ويقول في همزيّة بعنوان "شاعر الأجيال" التي يتناول فيها شخصيّة نزار قبّاني نموذجًا وشاعرًا وعاشقًا:

"أنا ربّ الشعرِ في الداخلِ رغ       مَ الأعادي ، ولأشعاري البقاءُ

أنا عرشُ الشعرِ منْ بعدِكَ لي       ذاكَ حقّي ولْيُخزَ السفهاءُ

فنزارٌ       وأنا       والمتنبي      وشوقي   نحنُ   منْهمْ   لبراءُ"

وفي همزيّة أخرى بعنوان "أنا وطن المحبّة والإخاء" يقول:

"أنا شاعرُ الشعراءِ أبقى         وشعري قدْ سبى كلَّ النساءِ

أنا ربُّ المثالثِ والمثاني         وربُّ الشعرِ في هذا الفضاءِ"

ومن حقّ الشاعر أن يرى بنفسه ما يريد، ولن أزيد على ما قال لأنّ ما قاله واضح أشدّ الوضوح، فهو الشاعر الأول والرائد اليوم في مجال الشعر العموديّ الكلاسيكيّ الحديث، يسير على خطى الكبار منذ امرئ القيس والمتنبي وشوقي وصولًا إلى ربّ الشعر وشاعر الشعراء حاتم جوعيه المتربّع بلا منازع على عرش الشعر العموديّ والمتوّج بتاجه، كما اتّضح من قصائده، والنماذج المعطاة غيض من فيض، وبالعودة إلى القصائد سنجد هذا المعنى قد يتكرّر أحيانا .    

وفي الأدب والشعر كما في كلّ مناحي الحياة: السياسة والاجتماع والثقافة والأخلاق والدين والعلاقات العامّة، صارت حتّى الثوابت في سائر القضايا معرض جدل وحوار واتّفاق واختلاف، قابلة للأخذ والردّ وتداول الآراء والمواقف، ومن هنا سأطرح سؤالي، لماذا يصرّ الشاعر حاتم جوعيه على التمسّك بالقديم ونحن على بعد عقود وقرون منه؟ ولماذا يأخذنا إلى عالم صار شديد الاختلاف بكلّ مفاهيمه عن عالمنا الجديد المتقّن (التكنولوجيّ) وبعيد الحسابات عن عالمنا المحوسب والمكبتر؟ (من كمبيوتر) لماذا يأخذنا إلى معايير شعريّة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ وفي بطون القدم؟ والكون كلّ الكون قد تغيّر، وهو - كما أعرف وقد قرأت له - شاعر يجيد كتابة الأنماط الشعريّة الحديثة كقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، فهل هو اختيار عنده أم اعتياد؟ هل هو إحياء أم جمود؟ أهو إعجاب بالقديم أم تقليد اختياريّ؟ أم هو تجسيد عمليّ لإيمان نظريّ؟

ولكي أكون أمينًا في ما أكتبه وللنصوص التي أكتب عنها وواضح الرأي، عليّ أن أطرح موقفي من هذا النمط العموديّ للشعر العربيّ، فقد كتبناه ولم نكتب غيره تقريبًا لمدّة طالت أكثر من أربعة عشر قرنًا منذ 400م –1947م، وكتبه البعض بل العديد من عمالقة النهضة الأدبيّة وآمنوا به كنموذج شعريّ لا يضاهى ولا ينبغي أن يضاهى، واليوم أيضًا ومنذ أواخر القرن العشرين، وها نحن في بدايات القرن الحادي والعشرين وما زال بعض الشعراء يكتبونه بشغف، وقلّ شاعر من رموزنا الشعريّة الذين مالوا إلى الحداثة والأنماط الجديدة لم يبدأ باستخدام النمط العموديّ، لأسباب موضوعيّة وغير موضوعيّة، ليس هنا مجال التفصيل فيها، ( وهنالك نظرية تقول : كل من لا يجيد كتبة القصيدة الشعرية الكلاسيكية التقليدية الإبداعية لا يستطيع أن يكتب قصيدة التفعيلة والقصيدة النثرية الإبداعية - وهذه النظريَّة صادقة ) . وفي الداخل الفلسطينيّ اليوم سنجد عددًا قليلًا من الشعراء يستخدمونه، وقد يكون الشاعر الكبير المرحوم سميح القاسم والشاعر الكبيرالمرحوم راشد حسين وأستاذنا الفاضل أحمد الحاجّ ابن كفر ياسيف وشاعرنا الأصيل والمتألق ابن المغار الدكتور حاتم جوعيه أكثر الشعراء يكتبونه ويجيدونه، ولا يُنسى في هذا المجال الشاعر الكبير المرحوم محمود دسوقي ابن الطيّبة والشاعر شفيق حبيب والدكتورجمال قعوار. لست من أعداء هذا النمط وقد كتبتُ به بعضًا من قصائدي، وأعلم علم اليقين أنّ لهذا الشعر قيمة ومكانة تاريخيّة وحضاريّة سامية، وبه كُتبت قصائد في عصور متتالية تعدّ من الروائع الأدبيّة لغة ومتانة ومعانيَ عميقة، وأعلم أنّه نموذجنا الأوّل في تاريخنا الشعريّ، وأعرف جيّده من رديئه وغثّه من سمينه، وأميّز صحّة بحوره وأوزانه وتفعيلاته وسلامة قوافيه وأمراضها، ومع ذلك لست من أنصاره ولا من المتحمّسين له اليوم، والتجديد والإبداع في الشعر الكلاسيكي أصعب بكثيرمن التجديد في الشعر الحديث الحر لأن الوزن والقافية يقيدان الشاعر. وقد يناسب كثيرا هذا العمود بعض المواضيع والمناسبات الخطابيّة ، ولكن الشاعر الأصيل والمبدع والمتمرس والعملاق يستطيع أن يبدع في كل المواضيع والقضايا التي يطرحها من خلال الشعر الكلاسيكي التقليدي ، والوزن لا يقيدُ ويحد من إنطلاقهِ وتحلقه في سماء الإبداع   كما هو الحال عند المتنبي وعند شاعرنا الكبير الدكتور حاتم جوعيه وعمالقة الشعر الكلاسيكي التقليدي في العصر الحديث كالجواهري والبردوني.. وقد تطول القصائد فتصبح الرتابة في القافية ممجوجة لتكرارها المضرّ..ونشعر بهذا الشيىء عند الشاعر محمد مهدي الجواهري..ولكن عند شاعرنا الدكتور حاتم جوعيه مهما كانت القصيدة عنده طويلة فلا نشعر ونحس بالتركرار والرتابة ، ولا نشعر بالملل أثناء قراءتها أو الإستماع إليها .، وباعتقادي أنّ هذا الشعر المقولب بقوالب الثبات من الصعب أن يتناول المسائل والقضايا الشائكة والمعقّدة في عالمنا السريع..إلا إذا كان الشاعر الكلاسيكي عملاقا وفذا وعظيما كالمتنبي   والجواهري وأحمد شوقي وحاتم جوعيه .لأن القافية والوزن قد تقيد الشاعر ولا تعطي لفكر الشاعر وخياله أن ينطلق ويحلق إلى الآفاق البعيدة...إلا إذا كان الشعر الكلاسيكي عملاقا وفذا كما ذكر أعلاه .

ثمّة آراء إيجابيّة ومواقف مؤيّدة لهذا النموذج القديم كأساس انطلقت منه كلّ الأنماط المستحدثة، حتّى أنّ الشاعرة العراقيّة نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، وهو كتاب مخصّص لتوصيف الشعر الحرّ (شعر التفعيلة) كونها واحدًا من روّاده الأوائل رأت أنّ السطر الشعريّ في هذا النمط الحديث هو تحديث للبيت القديم المركّب من صدر وعجز وعدد ثابت من التفعيلات، إلّا أنّه لا ينشطر إلى شطرين ومتحرّر من عدد تفعيلاته ولا يلتزم بقافية موحّدة، مع أنّه طافح بالقوافي التي تعدّ جزءًا من موسيقاه الداخليّة، في معظم النصوص لدى معظم الشعراء، وهذا بعكس ما رآه الرائد الثاني لهذا النمط العراقيّ بدر شاكر السيّاب، حيث رأى فيه ثورة على كلّ ما هو قديم من الوحدات الشعريّة الثلاث: الوزن والقافية والبيت، وبخاصّة بتأثّره بالنمط الغربيّ عمومًا والشاعر ت. س. إليوت على وجه الخصوص، وهو المعروف بال (Free Verse)، والذي سمّاه الناقد المصريّ لويس عوض بتيّار التجاوز والتخطّي لأنّه تجاوز كلّ ما هو مألوف ومتعارف عليه في شعرنا القديم وتخطّاه. وهو النمط الحديث الذي كُتب به معظم شعرنا منذ المنتصف الثاني للقرن العشرين، حيث بدأ ظهوره في العراق كاتّجاه شعريّ منذ سنة 1947، وأعتقد أيضًا أنّ هذا النمط  تزامن وواكب حركات التحرّر القوميّة والعربيّة وانتصارها على الاستعمار، كما واكب عمليّات التحوّل الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ في غالبيّة الأقطار العربيّة من العراق إلى الشام فمصر فالشمال الأفريقيّ والجنوب الخليجيّ.

وهناك من يبالغ في امتداح النموذج الكلاسيكيّ في شعرنا ولا يرى شعرًا إلّا فيه وكلّ ما هو خارج هذا المبنى السلفيّ ليس شعرًا، وهذا الموقف هو تقوقع في السلفيّة بكافّة أنماطها ومفاهيمها المتجمّدة القريبة من تجمّد القطبين: الشماليّ والجنوبيّ. ولعلّ المصطلح الجديد "التجربة الشعريّة" كان له بالغ الأهميّة في الشعر الحرّ، حيث اعتبرت القصيدة كلًّا واحدًا يعبّر عن معاناة واحدة عاشها الشاعر فنيًّا وحمّلها تجربته الذاتيّة أو القوميّة أو الطبقيّة أو الإنسانيّة بكافّة صياغاتها ومضامينها. ولا يخلو الشعر القديم من تجارب ذاتيّة عاشها الشعراء من السلف الصالح، ولكم بليل امرئ القيس خير مثال، وفي الحطيئة وضيفه في تلك الصحراء الملساء التي لم يعرف بها ساكن رسما، وفي البحتريّ والإيوان اللذيْن مال حظّهما من النعيم والرخاء إلى الجحيم والشقاء فبات المشتري وهو كوكب للسعد كوكبًا للنحس، وفي سجن أبي فراس الحمدانيّ وبكائه الرجوليّ الذي لا يذاع سرّه، لكنّ ذلك لا يمنع حنينه واشتياقه وتلوّعه على فراق الأحباب والديار، ولكم مثال جميل في تجربة المتنبي وعتاب المحبّ المظلوم للقائد الكبير سيف الدولة أمير حلب، عندما قال:

"واحرّ قلباهُ ممّن قلبه شبمُ             ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ

ما لي أكتّم حبًّا قد برى جسدي             وتدّعي حبّ سيف الدولّة الأممُ"

وهناك من يرى أنّ الشعر العموديّ قد قام بواجبه في المراحل السابقة وأدّى رسالته الأدبيّة والثقافيّة في المجتمع العربيّ التقليديّ والمتمسك بكلّ ما هو قديم، وعبّر عن قضاياه وجوانبه المختلفة، ولكنّه لم يعد قادرًا كما الكثير من التقاليد على مجاراة الواقع الجديد والقضايا المستجدّة في المجالات الحياتيّة المختلفة، فالشاعر الفلسطينيّ الغزيّ الشيوعيّ معين بسيسو، في بداياته، وله ديوانان شعريّان قصائدهما على النمط التقليديّ هما: ديوان "المسافر" وديوان "المعركة" ومنذ أعوام كثيرة، وأظنّها بداية السبعينيّات من القرن الماضي، عندما كان محرّرًا للصفحة الأدبيّة في جريدة "الأهرام" المصريّة، كتب مقالة بعنوان "مانفيستو إفلاس الشعر العموديّ" ضمّنها موقفه المعارض لهذا النمط . أمّا المحيّر في المواقف فهو الهجوم الكبير الذي شنّه الأديب عبّاس محمود العقّاد ضدّ الكلاسيكيّة وأعلامها شوقي وحافظ الذين مالوا دائمًا إلى العقل والمجتمع والموضوعيّة، ومن خلال مدرسة "الديوان" التجديديّة، والتي مال شعراؤها نحو الرومانسيّة والذاتيّة والخيال والطبيعة، العقّاد هو نفسه الذي دعا إلى ثورة ضدّ الكلاسيكيّة يقف موقفًا سلبيًّا من التجديد الذي جاء من بعده، فينعت الشعر الحرّ (التفعيلة) المتحرّر بالشعر "السايب".   ولكن الشاعرالقدير والمتمكن يستطيع أن يعبر عن جميع القضايا والأمور الحياتية حتى في هذا العصر – عصر التيكنيلوجيا .والوزن والقافية لا يقيدانه ،وتنساب كلماته وآراؤه بسهواة وتلقائية . وكل شاعر لا يستطيع ان يجيد كتابة القصيدة الكلاسيكية التقليدية لا يستطيع أن يجيد كتابة القصيدة الحديثة الإبداعية المتحررة من قيود الوزن والقافية ، ولهذا فإن معظم الشعر الحديث محليا هو دون المستوى ويفتقر للعناصر والأسس الهامة التي يجب ان تتوفر في القصيدة الحديثة عدا الوزن والقافية ..وأما الشاعر الكبير الدكتور حاتم جوعيه فقد أبدع في كتابة القصيدة الكلاسية وأيضا في كتابة قصيدة التفعيلة والقصيدة الحديثة .وله المئات بل الآلاف القصائد الإبداعية على نمط شعر التفعييلة والشعر الحر، ولكنه يفضل ويحبّذ كتابة الشعر الكلاسيكي ..لان الوزن والقافية يعطي جمالية خاصا وسحرا ورونقا مميزا للقصيدة التقليدة . والقصيدة الحديثة مهما كان مستواها الإبداعي وتموجاتها الجمالية تبقى قزمة ولا شيىء أما القصية الكلالسيكية الإبداعية الموزونة والمقفاة كالقصائد الكلاسيكية التي يكتبها الشاعر القدير الدكتور حاتم جوعيه ومحمد مهدي الجواهري وعبد الله البردوني وأخرون .

 

القصائد (الخمس الطوال):

وأقصرها "آدم وحوّاء" 60 بيتًا، وأطولها "شاعر الأجيال" 100 بيت، وبينهما "يا حمير العالم اتّحدوا" 74 بيتًا، و "أنا وطن المحبّة والإخاء" 81 بيتًا، و "أيّها الشاكي" 84 بيتًا، بمعنى أنّ حاتم جوعيه أرسل إليّ ما يقارب أربعمئة بيت من الشعر العموديّ، ما يضاهي كمًّا معلّقة طرفة بن العبد ومعلّقة امرئ القيس ومعلّقة عنترة بن شدّاد ومعلّقة زهير ومعلّقة وعمرو بن كلثوم. ولماذا هذا الإحصاء والمقارنة؟ لنقول للشاعر الذي يقدّس النمط العموديّ، توخّى الحذر من الطول في القصائد والرتابة في الوزن والقافية والتكرار في المعاني، فكلّ هذه الخصائص في القصيدة العموديّة قد تورد موارد غير محمودة، تجعل القارئ في هذا العالم السريع مفتقدًا الوقت والميل للقراءة، وإلى بعض من الترهّل الفكريّ المستسمَن والتكرار المعنويّ غير الحميد.  

 

التجربة والدلالات:

وفي القصائد الخمس الطوال للشاعر حاتم جوعيه مواضيع متعدّدة، ولكنّه ضمّنها تجاربه الحياتيّة وصاغها بإحكام وبمعانٍ عميقة، ممّا جعل معاناته على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ في هذا العالم المعوّج تبدو مصقولة ومتألقة فنيًّا من خلال مركّباتها الموضوعيّة، فالتجربة الشعريّة لديه لها مكوّنات أبرزها مفهوم النموذج المظلوم إنسانًا وشاعرًا ومناضلًا وعاشقًا للحياة يرى جمالها الخلّاق رغم ما يعتريها من قبح، ويرى في الكون جمالًا رغم ما يشوبه من ألوان كالحة، ويرى إنسانيّة الإنسان رغم تراكم الغبار والحقد ونكران الحقّ وسيادة المال، ولذلك فإنّ نظرته الحياتيّة تتمركز في قضيّة شغلت الكثير من الشعراء والأدباء، وهي فلسفة تغيير العالم وتصحيح المسار وتقويم الاعوجاج. ومن هنا تنبع أصالة حاتم إنسانًا واعيًا ووطنيًّا صادقًا وشاعرًا مناضلا وإنسانا مثقفا ومتعلما وحاصلا على العديد من الشهادات الأكاديميّة العالية لم يأخذه ، ولعلّ هذا التركيب الثنائيّ في العالم والمجتمع بتناقضاتهما هو ما يعمّق الاتّجاه الفكريّ الثاقب، في توجّهات الشاعر الحياتيّة والفنيّة واتّخاذه للمواقف النبيلة المتماهية مع الحقّ والعدل والاستقامة والوطنيّة الصادقة والتقدّميّة النابعة من وجدانه الحميم، ضدّ كلّ ما هو رجعيّ ومتخلّف وعميل. وهذا ما جعلني أبرز في عنوان مقالتي أو قراءتي الصفتيْن: الأصيل والمظلوم، والظلم بمعانيه النفسيّة والاجتماعيّة هو إحساس داخليّ ينمو نتيجة لسلوكيّات من الذات أو من الآخرين، إحساس بالحرمان من حريّة الاختيار أو حريّة التعبير أو معاملة الآخرين السيئة في البيت والعمل، والظلم كذلك قد ينتج عن اعتداء على الحقّ بوضع الأمور ليس في نصابها، فتغدو الرذائل فضائل والعميل أكبر الوطنيّين والشويعر الصغير في مكانة الشعراء الكبار، ويغدو العالم مختلّ المعايير والقيم حيث يُترك الفاسدون والظالمون بلا محاسبة أو مساءلة أو عقاب يصولون ويجولون على أهوائهم وينشرون الفساد والرذيلة في المجتمع . انّ هذا المفهوم للظلم هو ما يلائم تجربة حاتم جوعيه الحياتيّة والفنيّة، ويعبّر عنها بصدق داخليّ بالأساس وهو ما يهمّنا فنيًّا، زيادة على الإحساس بصدقها الخارجيّ، فهو يقوم بالإفصاح عن إحساسه بالظلم كإنسان وشاعر يرفض الظالم والظالمين وتشويه وتزييف الحقائق والواقع، بالاحتكام إلى الضمير الحيّ اليقظ والاستعداد للمواجهة الحتميّة والاعتماد على الشعراء الكبار وتمثّله بهم. وأن تكون مظلومًا تعدّ نقيصة فيما لو قبلت الظلم والهوان كالعبد الذي يزيّن عبوديّته ولم يثر ضدّها، والدكتور حاتم جوعيه ليس كذلك، فهو يرفض الظلم والهوان ويتحدّى ويثور على الظالمين الخائنين والأذناب والعملاء المتواطئين ضدّ الوطن والحياة الكريمة، كما يثور على الشعراء الذين بلا قيمة أدبيّة وأخلاقيَّة ، الذين يشوّهون المشهد الثقافي والأدبي المحلي ووجودهم وصمة عار في المجتمع النظيف، ويغارون من مكانته الشعريّة الرفيعة ويحسدون مقامه الرفيع في القريض الموزون والمقفّى وفي الأدب والنقد والشهرة الواسعة التي حققها ووصلها : محليًّا وعربيًّا وعالميًّا بجهده وكفاحه وشرفه ونقائهِ وإبداعهِ المميَّز ، وذلك بهجوم كاسح عليهم وهجاء لاذع لهم وهم يستحقون ، وفي الوقت نفسه يرفع من مقامه إلى مصفّ الكبار من الشعراء كالمتنبي وشوقي ونزار، لأنّ حاتم يرى في القصيدة الرديئة ودون المستوى طلقة في ظهره وفي ظهر الوطن والوطنيّين والثورة كما هي رصاصة في قلب الشعر والفنّ الراقيْين، وهؤلاء الشعراء او بالأحرى الشويعرون المتطاولون والمتطفلون والدخيلون على الأدب والشعر يشكّلون النقيض الكامل لحاتم وأمثاله من الشعراء المبدعين والعمالقة الشرفاء والمناضلين الأمناء على الوطن ومصالحه الجماعيّة العليا وعلى رقيّ الأدب وصيانة مستواه من العبث والركاكة، وبهذه المثابة يتحوّل هؤلاء الشعراء إلى سفهاء بلا شعر وأجراء بلا موقف ومشوّهين بلا هويّة وعملاء  بلا كرامة في هجومه على هؤلاء المتطاولين والمتطفلين على دوحة    

دوحة الشعر والأدب الذين لا يفقهون قيمته كشاعرعملاق نادرا ما يجود الزمان بمثله ولا يدركون معانيه الأصيلة ولا يعرفون أصول الشعر التقليديّ تشكيل لجزء من معاناته، فهؤلاء هم الشويعرون الغارقون في وحل الركاكة والطلاسم والسخافات والتفاهات والخزعبلات وجهل القوافي والأوزان ولا يعرفون حتى قواعد اللغة العربية وكتابة الإملاء وبعيدون عن الشعر والادب والإبداع مسافة مليون سنة ضوئية ، وهو الشاعر الفحل والمثال الأعلى والنموذج الذي لا يُجارى، نموذج للشاعر الذي يعتبر نفسه ويتعبره الكثيرون من عشاق ومتذوقي الشعرالحقيقي الإبداعي والادب الحقيقي وحيدًا في أمّة الشعر في هذا العصر الرديىء ، بل يصل به الأمر أن يرى بنفسه أمّة أعلى من الشعراء وهو لسان حال أمته وشعبه الفلسطيني المظلوم والمحتل ولسان حال كل عربي شريف وحر من المحيط إلى الخليج وبكل جدارة ، على حدّ تعبير الشاعر العراقيّ الكبير أحمد الصافي النجفيّ ، فهو السوبرمان في العشق والشعر والنضال، وسنجد هذه المعاني في معظم قصائده الخمس، ليظل اعتزازه بنفسه وانتقاده وتحقيره للآخرين من المتطفلين ومسوخ الشويعرين العملاء إلى حدّ النرجسيّة، مستخدمًا للكثير من الثنائيّات المتناقضة، ممثلًا هو لجانبها المشرق والمتميّز والفذّ والوطنيّ مقابل الجانب الآخر لأولئك الغامضين الضائعين المأجورين والعملاء والإمعات، وهو صراع لا ينتهي بينهما.. ومن هذا الصراع تنبثق فلسفة تغيير العالم الأعوج وقلب المفاهيم المقلوبة وتقويم   وتصحيح المسار، وقد تكون الخطيئة الأولى لآدم وحوّاء هي البذرة الأولى في هذا الصراع الأرضيّ والذي سيطول، ولكنّه حتمًا سيؤدّي إلى انتصار لقوى الخير والتي منها حاتم جوعيه ويحمل لواءَها والعظماء والعمالقة من الشعراء والرسل والأنبياء والناس الشرفاء ، على قوى الشرّ والتي منها هؤلاء الجبناء والضعفاء والمرتزقون والمأجورون وناكرو الجميل من الشعراء والناس الأراذل الساقطين أخلاقيا .

في قصيدة "آدم وحوّاء" يستعرض الشاعر صراع الإنسان مع تحدّيات الحياة والطبيعة، معتبرًا آدم وحوّاء مسبّبيْن لهذا الشقاء الأرضيّ، ومن ثَمّ جريمة قابيل بقتله لأخيه طمعًا بالمادّة والأملاك، وما زال الإنسان رجلًا وامرأة في هذه الحياة يكافحان من أجل الاستمرار والبقاء، وأحيانًا بالاعتداء على جمال الطبيعة وقدسيّة المخلوقات، فالشاعر يعاني في هذا العالم المادّيّ ويذوق حلو الحياة ومرّها ويحسّ بردها وحرّها، ويكابد سوء المنقلب في أجواء عالمنا الذي مات ضميره ففقد القيم وأمسى يقدّس المال، ولا شيء غير المال:

"أجواؤُنا في سوءِ منقلَبٍ         والحرُّ يرقبُ في غدٍ مخضا

المالُ أضحى الربَّ لا قيمٌ         ماتَ الضميرُ بأمّةٍ تقضى"

ومع هذه القتامة والسواد وبرغمهما يبقى الشاعر مناضلًا ومقاتلًا مع الشرفاء من الناس، لكلّ مظاهر السقوط الوطنيّ والشعريّ،

يبقى محبًّا للوطن ويرى فيه جنّة الخلد ويبقى فارس الفرسان على حدّ تعبيره في القصيدة، والمثال الأعلى للإنسان الطاهر الذي يرفض الهوان والمذلّة، والشاعر الذي لا يشقّ له غبار، يرفض إهانة الشعر بالجهل والركاكة وبؤس المعاني وخواء التجارب.

وهذه القصيدة قافيتها حرف الضاد..الحرف الصعب . وسميت اللغة العربية بلغة الضاد لأن الشعب العربي هو الشعب الوحيد الذي ينطق هذا الحرف على هذه الأرض ..ولا توجد كلمات كثيرة في اللغة العربية على حرف الضاد .والشاعر الدكتورحاتم جوعيه بالرغم من كون قصيدته طويله فهو لا يكرر ويعيد أية كلمة فيها ، بينما نجد قصيدة شعرية لأمير الشعراء أحمد شوقي على حرف الضاد أيضا توجد فيها كلمات مكررة ومعادة أكثر من مرتين ..وهذا يدل على قدرة حاتم جوعيه اللغوية وتمرسه وتبحّره فيها وعلى عبقريته الشعريَّة أيضا . ولهذا فهو الشاعر الأول في هذا المضمار محليا وعلى امتداد العالم العربي دون منازع .

في قصيدة "أنا وطن المحبّة والإخاء" يختزل شاعرنا الوطن في ذاته، ويختزل الشعر والبلاغة في شعره وقدراته البيانيّة الهائلة، ومن هذا المنطلق نؤكّد ما قلناه سابقًا أنّ أحد المكوّنات الأساسيّة لمعاناته في الحياة هذا الإحساس الدائم بالظلم والذي يأخذه لمعانٍ كثيرة أبرزها النضال وتنصيب الأهداف السامية والنبيلة لملء الأرض بالعدل والأمل خاصّة بعد رؤيته للبؤساء والغلابى وقد ناموا نيمة أهل الكهف، ومع إيمان متين لدى الشاعر بأنّ زمان الظلم سيؤول إلى انتهاء وستشرق شم س الحريَّة:

" أسيرُ   لغاية  مثلى   وغيري          يسيرُ  بجهلِهِ     نحوَ     الوراءِ

أرى الشرفاءَ في صفّي جميعًا          ويمشي الكلّ تيهًا   في  لوائي

فدا الأوطانِ قدْ أرخصْتُ روحي       سأبقى     للمدى     رمزَ الفداءِ

ومذْ صغري أخوضُ نضالَ شعبي       وغيري كانَ يقبعُ في  الخباءِ "

أولئك العملاء والمأجورون الذين باعوا الشعب وباعوا الله وسائر القيم، أولئك ينعتهم الشاعر بالفسّادين والعملاء ويجعل مكانتهم دنيئة وأحطّ من الحذاء، ولكنّ الظروف الحالكة والعراقيل العديدة والزمان الصعب لا يورد الشاعر مورد اليأس: فواجبه نحو شعبه الخامل يجعل الثورة في أعماقه لا تخبو، بل دائمة التوقّد والعنفوان:

" وإنّي ثائرٌ وأصولُ دومًا             لتحقيقِ   العدالةِ    والرجاءِ

لأخذِ الحقِّ منْ  طُغَمٍ  لئامٍ             أزيلُ الغشَّ معْ كلِّ افتراءِ

لترجعَ دولةُ الفقراءِ تسمو             وحقٌّ  للغلابى في   الثراءِ

ولا بدّ من معنًى مغاير في قصيدة " شاعر الأجيال" التي يرثي فيها الشاعر الكبير وأحد رموز شعرنا الحديث وقامة سامقة من قامات أدبنا المعاصر، نزار قبّاني، قلت معنًى مغايرًا ولم أقل مناقضًا، هنا يبدو الآخر هو المحور وليس الأنا، ولكنّ الأنا الحاتميّة لن تضيق وهي دائمة الحضور مع وبجانب ووراء وعلى امتداد النزاريّة مهما رحبت، فإذا كان نزار هو الشاعر، فهو خير السلف لخير الخلف الشاعر حاتم جوعيه، فهو يخاطب نزار قبّاني ويراه أمير الشعراء، وهو النموذج الشعريّ الأمثل، ولكنّ حاتم جوعيه هو سليل هذا الأمير والنموذج وعرش الشعر هو الذي سيتربّع عليه بعد نزار، وله حقّ فيه لا يُمارى، ولا يجدر بأحد أن ينازعه عليه:

" رايةُ  الشعرِ  فمَنْ  بعَدكَ    يَرْ          فَعُهَا .. يزهو المَدى ثم الفضاءُ 

يا  أميرَ الشعرِ  منْ  غيرِ  مِرَا         ء ٍ  أنا    بعدكَ   قالَ   الخلصاءُ  

إنَّ عرشَ الشعرِ مِنْ  بعِدكَ  لي          ذاك    حقّي   وليخزَ    السُّفهَاءُ " 

ولا ينفكّ حاتم من الإشادة بالشعر القديم ورقيّ نظمه منذ الشعراء الجاهليّين، ولا ينفكّ أيضًا من ذكر نماذجه العالية مثل السموط/ المعلّقات التي عُلّقت على جدران الكعبة فافتخر بها العرب وترجمها الغرب ممّا يؤكّد سموّ فنّيّتها وعظمة مضامينها الدالّة على مكانة العرب الحضاريّة في التاريخ البشريّ، أمّا الشعر في زمننا فقد حوّله الشعراء البلهاء إلى أشبه ما يكون بالنفايات، التي لا تستحقّ النظر إليها لسوء معانيها وضحالة أفكارها، وكلّ ذلك بادّعاءات وإثباتات ودعائم صادقة ومقنعة حول الغموض والإبهام فتحوّلت المضامين غير المحبَّذة والسخيفة والركيكة إلى طلاسم لا تستهوي بسطاء الناس الذين كانوا يتماهَوْن مع الأوزان والقوافي والموسيقى الشعريّة، فأنزل هؤلاء الشعراء من علّيّين إلى أسفل سافلين، ولا بدّ لهذا الشعر من منقذين يعيدون إليه هيبته ومكانته الفنيّة والحضاريّة، والمتنبي وأحمد شوقي ونزار قبّاني وحاتم جوعيه هم هؤلاء المنقذون الذين عرفوا غثّه من سمينه ، والدكتورحاتم جوعيه من هذا المنطلق يرى في هؤلاء السفهاء أعداء الشعر الذين وشوّهوه ودنّسوه ببخس المعاني وتفاهة الطلاسم، فيهاجمهم ويهجوهم وينعتهم بما هو أكثر من أعداء الوطن الذين خانوه وباعوه ببخس الأثمان وتفاهة المواقف أيضًا. فالوطن وقدسيّته واللغة العربيَّة والشعر وقدسيّته صنوان. ولذلك قلنا أنّ نزاريّة القبّاني السامية والرحبة تشكّل نموذجًا للشاعر وسموّه واتّساع مكانته، لكنّها لا تلغي حضور الشاعر حاتم جوعيه كامتداد طبيعيّ للاتّجاه العظيم في تاريخ شعرنا منذ القدم حتّى أيّامنا الحاضرة.    

"شعراءُ     الجاهليّينَ       ارتقوا        ببديع ِ   النظمِ   فنًّا .. كمْ   يُضَاءُ   

وسُموطٍ    عُلّقتْ    في     كعبةٍ       تُرْجمَتْ في الغربِ أحلى ما نشاءُ  

 إنّما   الشعرُ  غدا   في   يومِنا        كالنفاياتِ         أتاهُ          البلهاءُ 

 طلسَمُوا أقوالَهم  منْ دونِ  معنًى       وعافَ  الشعرَ    حتّى    البُسَطاءُ     

"فنزار"  و" أنا"     و"المتنبّي"       و"شوقي"  نحنُ   منهُمْ   لبَرَاءُ"

وفي هذه القصيدة الكثير من الأبيات المترعة بالجمال والعذوبة والتجديد والإبتكار والخلق في المعاني والمضامين والصور الشعريَّة   الخلابة والإستعارات البلاغية الحديثة . وفيها نلمس ونستشف طابع وروح نزار وأنفاسه وأريجه..والقصيدة جميلة جدا وقوية ومتماسكة، ومع ان شكلها الخاريجي كلاسيكي لا نشعر بالطابع التقليدي والتقوقع والإجترار ، بل هي قصيدة حديثة في جوهرها وفحواها ومضامينها ، وجاء في مقدمة القصيدة       :                                                      :    

                                    

شاعرَ الأجيال ِ قدْ طالَ الثوَاءُ         لا   مجيبٌ   ولكمْ   عزَّ   اللقاءُ    

وربيعُ الشرقِ أضحَى مقفرًا         وذوَى وردُ المُنى...زالَ السَّناءُ    

وعذارى الشعرِ تبكي جزَعًا         منذ ُ أنْ غابَ عنِ الدوح ِ الغناءُ      

ما لقاسيونِ   تلظَّى واكتوَى         ودمشقُ العربِ يحدُوها البكاءُ      

يا كنارَ العربِ قدْ ضاقَ المدَى       جَفّفتِ الأدمعُ...ما أجدَى العزاءُ      

رائد التجديد في عصر ذوى         فيه روضُ الشعر..جاء الدخلاءُ      

يا نبيَّ الشعرِ فَي عصرِ الدُّجَى     نُكّسَ   الشعرُ   وماتَ   الأنبياءُ      

كم دموع ٍ سُكِبَتْ في الغوطتي   نِ   كبحر ٍ...ماؤهُ الجاري   دماءُ    

أيُّها السَّيفُ الدمشقيُّ   ائتلا        قا وفي الغربِ امتشاقٌ ومَضَاءُ    

أمَويٌّ   تُهْتَ   فخرا   وندًى         يا سليلَ العُربِ مِنْ فيكَ الشذاءُ    

لكَ فوقَ النجمِ صرحٌ شاهقٌ         وبرُكنَيْهِ   لقدْ   حَفّتْ     سماءُ      

فربيعُ الشرقِ ولى وانقضى         منذ أن غبتَ خريفٌ   وشتاءُ      

ووهادُ الروح ِ ثكلى أقفرَتْ           لفهَا   الليلُ   وأضناها   العناءُ      

مجلسُ اللهوِ منَ الأنس خَلا         واختفى الصحبُ وولى الندماءُ      

جنة ُ الدنيا   غدتْ     ملتاعةً       إيهِ سوريا أرَّقَ الجفنَ الشقاءُ

إيهِ سوريا ليسَ من بعدِ النوى     غيرُ ثوبِ الحزنِ.. ماعادَ انتشاءُ

" برَدَى " ما عاد َ عذبا   ماؤُهُ       رنقا   صارَ  وَعَزّ   الاستقاءُ

وحمامُ   الشامِ   قدْ بُحَّ   فما         من هديلٍ   ومنَ الدوح ِ خلاءُ

قصيدة "أُّيُّهَا الشَّاكي عِشْتَ عُمرًا طويلا" يدلّ عنوانها على أنّها قصيدة معارِضة لقصيدة الشاعر المهجريّ إيليّا أبي ماضي لمشهورة ، والذي يعتبر من رموز التجديد، مع غيره من جماعة المهجر والرابطة القلميّة في نيويورك، وكان من أبرزهم الأديب والفنّان العالمي جبران خليل جبران، ومع ذلك كتب أبو ماضي قصيدته على النمط العموديّ. ومعارضة القصائد أمر معروف عند القدماء والمحدثين فقد عارض البوصيري بردة كعب بن زهير في مدح الرسول (ص) وعارضه أحمد شوقي في بردته الميميّة بقصيدة "نهج البردة" في باب المديح النبويّ، وها هو حاتم جوعيه يعارض قصيدة الشاعر "إيليا أبو ماضي" ( أيّهذا الشاكي وما بكَ داءٌ) وقد شاركت قصيدة حاتم المعارِضة في مسابقة شعريّة أقامتها مؤسّسة "الوجدان الثقافيّة"، وكان المطلوب إكمال عجز البيت الشعريّ من قصيدة أبي ماضي، وهو: "أن ترى فوقها الندى إكليلا" مع نظم أبيات شعريّة أخرى على نفس الوزن والقافية.ونالت قصيدة الدكتور حاتم جوعيه المركز الاول من بين آلاف القصائد التي شاركت في هذه المسابقة لشعراء عرب من مختلف الدول العربية .

إنّ مجرّد معارضة قصيدة يعني إعجاب الشاعر المعارِض بالقصيدة المعارَضة، وقصيدة إيليا أبوماضي تعد من عيون الشعر العربي الحديث وزاخرة بالحكم، وهذا الإعجاب لدى حاتم جوعيه بالقصيدة العموديّة ليس جديدًا عليه، والمعارضة ذاتها لا تعني اتّخاذ الموقف المناقض، بل العكس فالقصيدة المعارِضة تُكتب على الموضوع ذاته وتلتزم القافية ذاتها والبحر العروضيّ ذاته. وبالإمكان إضافة مواضيع وأمور أخرى للقصيدة الجديدة المعارضة للقصيدة الأولى .

" أيُّهَا الشّاكي عِشتُ عُمرًا  طويلا       كنتَ    عبئًا  على الحياةِ    ثقيلا

تنشرُ اليأسَ في النفوسِ ، وَمَا زِلْ      تَ   مثالَ   الإحباطِ ..  داءً    وبيلا

لا ترى السّحرَ في الوُرودِ وَتَعْمَى       أن    ترى فوقهَا  الندى  إكليلا

أنتَ   كاللحْد ِ في وُجومٍ   وَصَمْتٍ         وَتُحَاكي  في القحطِ أنتَ الطلولا

مُقفرٌ  تبقى  من جمالٍ  وَحُبٍّ        وَمِنَ الخيرِ ، خُضتَ خطبًا جليلا "

بهذه الأبيات الجميلة والرائعة يفتتح حاتم جوعيه قصيدته المعارِضة عن الشاكي الذي خاطبه إيليّا أبو ماضي قبل عقود طويلة، والشاكي ما زال شاكيًا وهموم الحياة ومتاعب سلبيّاتها ما زالت كما هي، والجمال والطبيعة بما فيها من سماء وبحر وزهر وندى وشجر وطير وأصوات تشنّف الأذان ومناظر تخلب والألباب وتسحر الوجدان وتسبي العيون ما زال كلّ ذلك موجودًا، ولكنّ الشاكي لا يحسّ ولا يرى ولا يسمع ولا يتمتّع بالنعم التي وهبها له الله، ولا يستخدم ما حباه الله من عين يرى بها ما حسن من رونق الحياة ، وأذن يسمع بها ما رقّ من أصوات وموسيقى وتغريد طير، وأنف يستنشق به ما طاب من العبير المنتثر في الأجواء، ويد يتحسّس بها نعومة المفاتن، ولا لسان يتذوّق به الأطايب من المأكل والمشرب، الشاكي لم يتغيّر عند شاعرنا، لذلك يتحوّل إلى عبء ثقيل على الحياة على مدى حياته الطويلة، وكأنّ الله أعطاه نعمة الحياة ليعذّبه بها بطولها لأنّه ناكر للجميل من الآلاء التي وهبها الله للبشر، فيصبح مثالًا للموت فهو كاللحد وللمحل والقحط كما بسابس الطلول المقفرة، لا جمال ولا خير ولا حبّ.

   والشاعر يريد لهذا الشاكي أن يعيش الحياة لحظة بلحظة ليتلذّذ بحاضره بعيدًا عن الماضي البعيد وهمومه وغير مترقّب للغد المجهول وتخوّفاته، ويتمتّع بجمالها متعلّمًا من سائر المخلوقات، فيقول له:

" إبتَسِمْ   للحياةِ   دومًا   وَكُنْ في         هَا     جميلًا  ترَ  الوُجودَ   جميلا

لا   تسَل ْ عنْ   غدٍ وعنكَ  بعيدٌ         عِشْ  ليومٍ   مُعَزّزًا    مَسؤُولا

وتمَتّعْ منْ كلِّ  شيىءٍ بهيج ٍ         فجمالُ الوجودِ يَسبي  الفصُولا

أنظرِ  البدرَ  في السَّماءِ تجلَّى           ويضيءُ  التلالَ     ثمَّ     الحُقولا

إسْمَع ِ الطّيرَ في الرياضِ تُغنِّي         وَمعِ   الزَّهرِ   لحنهَا   المَعسُولا

وَحمامُ السَّلامِ قد  زادَ    شَجوًا       كلَّ     يومٍ    ولا     يَمَلُّ   الهَديلا

كحِّلِ  العينَ  مِنْ جمالٍ    وَحُسنٍ        وارشُفِ الكأسَ  كوثرًا  سَلسَبيلا

وترَنَّمْ     معِ   السَّواقي  نهارًا       واسألِ   البحرَ سرَّهُ    المَحْمُولا "

ومع ذلك ما هو دافع الشاعر للكتابة في هذا الموضوع المطروق والذي ربما لا يحتمل تجديدًا معنويًّا، ولا تجديدًا شكليًّا إلا إذا كان الشاعر المعارض عبقريًّا فذا وعملاقا وفنانا في إبتكار وخلق المعاني الجديدة والصور الشعرية الخلابة والإستعارات البلاغية المستحدثة مثل الدكتورحاتم جوعيه ، فالشاكي هو الشاكي ذاته والخطاب هو الخطاب والقصيدة العموديّة هي ذاتها بحرًا وقافيةً واستقلالَ بيت، ونجد ان أنّ الألفاظ تتشابه إلى حدّ ما أحيانا ، هل الدافع تقليد الكبار والسير على مستوياتهم الرفيعة؟ وحاتم يحبّ ذلك كثيرًا فأعظم الناس عنده كبار الشعراء وأحطّهم عنده زعانف الشعراء الذين لا يحقّ لهم قول الشعر فهم لا يتقنون اللغة لا لفظًا ولا معنًى وحتى ان البعض منهم لا يجيدون كتابة الإملاء كمعظم الشعرورين المحليين الذين يكتبون الشعر الركيك والمكسر والمعدوم من الوزن والقافية ..

ورغم ذاك التشابه والتماثل في الموقف الأدبيّ والخطاب والتجربة باعتقادي يظلّ في وجدان حاتم الباحث عن التميّز شيء يريد أن يقوله ولم يقله غيره من قبل، ولا أقصد ذاك الجزء من الإحساس بالظلم ورفضه وتحدّيه والنضال من أجل الحقّ والخير والعدل والشعر الرفيع، فقد كتبت عنه الكثير كما بدا جليًّا في معظم قصائده الخمس وغيرها ممّا كتبه من قصائد عموديّة. ويكفي أن ندلّل على ذلك بهذه الأبيات:

"أنا   صرحُ الإبداعِ في   كلِّ فنٍّ           وأنيرُ    البلادَ     جيلاً     فجيلا

بُهِرَ الخلقُ  في روائع شعري          وقفَ  الكلُّ    شاردًا مَذهُولا

إنَّ شعري مثلُ النّضارِ ائتِلاقًا           وأغانيَّ      أمطِرَتْ        تقبيلا

إنَّ شعري للفنّ والحُبِّ يبقى           لا لأرثي في القفرِ رَسْمًا مُحِيلا

وَحياتي      بذلتُها          لكفاح ٍ           لأفكَّ      المأسُورَ      والمَغلولا"

في هذه الأبيات الرائعة يعيد إلى أذهاننا روائع أمير الشعراء أحمد شوقي في مديحه لشعره ومستواه ودوره الكبير في خدمة القضايا الوطنية والسياسية والإنسانية للأمة العربية من المحيط للحليج .

ما يريد حاتم أن يقول أنّ الأساس الثابت في الحياة والطبيعة والإنسان والشعر هو الجمال، وحاتم مع هذه الجماعة والمتحوّل هو القبح والرؤية بمنظار السواد، والشاكي هو ذاك الإنسان المتشائم الأعمى أو المتعامي، وهو المطالب بأن يتحوّل ليصبح في دائرة الحياة المشرقة والطبيعة الساحرة والإنسان المتفائل. فالأنا عند حاتم أكثر بروزًا من أنا إيليّا أبي ماضي في قصيدته الأولى، والتي امتازت بالخطاب الدائم بالضمير "أنت" وفعل "الأمر"، ولم يستخدم فيها الضمير "أنا" بتاتًا، بينما حاتم يذكر الضمير "أنا" بأشكاله وتعابيره المختلفة عدة مرات ويستخدم "نحن" ثلاث مرّات، وهذا يكفي لرؤيته لذاته وأناه المتوثّبة نحو العلا والكمال وهو الناطق باسم شعبه المكافح ولسان حال كل المناضلين لأجل الحرية ولسان حال المظلومين والمضطهديمن والغلابى على هذه الأرض . ولا ينسى الشاعر نقيضه الشاكي والعميل والشويعر، فيخصّص لهجائه وذمّه حيّزًا كبيرًا، باستخدام الضمير "هو" للتعبير به عن الجانب القاتم والسلبيّ. وأمّا أبو ماضي فقد خصّص استخدام ضمائر الغياب لوصف الطبيعة والحياة المشرقة والطير والنهر والحكمة المفيدة لإدراك كنه الحياة. واستخدمها أيضا حاتم جوعيه بكثرة وتوسع وتعمق فيها اكثر بكثير من إيليا ابو ماضي وفي هذه القصيدة نلمس البعد الإنساني والإجتماعي واللاهوتي ..ويوظف شاعرنا شخصية النبي داود كرمز ونموذج للمعاناة والألم ..وفي النهاية يخرجه الرب من كل الضيقات والمصائب التي مربها . فيقول :                                                                                            

أيُّها   الشَّاكي من حياةٍ   وَعيش ٍ         لا   تكُنْ     للأقدارِ   أنتَ   عَذُولا

"أدرَكتْ كُنْهَهَا طيورُ الرَّوابي"           قالهَا     إيليَّا ... أراكَ     جَهُولا

فتعلَّمْ   حُبَّ     الطبيعةِ     منها             وَدَع ِ   القالَ     والقِلى   والقِيلا

فتعلَّمْ   حُبَّ     الطبيعةِ     منها             حكمةٌ     قد     تُعلِّمُ     المَغلولا

حكمةٌ   تُحيي   بائسًا   وَحزينا           وَسَتُذكي       المُنكّسَ     المَذلولا

فدَع ِ اللؤمَ   وارتدي ثوبَ   بِرٍّ           كُن     كريمًا     وصادقا     ونبيلا

فالإلهُ   العظيمُ   ربُّ   البرايا           هوَ   يعطي   الخيراتِ   والمأكُولا

والإلهُ     العظيمُ     يفتحُ     أبوا         بَ الأماني والحظّ عرضًا وطولا

بيدِ   اللهِ   دائمًا   كلُّ     شيىءٍ           خيرُهُ     يبقى     للمَدى   مبذولا

مثلُ   ايُّوبٍ   لم تذق أنتَ هَمًّا           صبرُهُ   في الآلامِ   كانَ   طويلا

سَلَّمَ     الأمرَ   والمَصيرَ   لرَّبِّ           صارَ في الصَّبرِ رَمزنا المَنقولا

خَصَّهُ   الله .. كلَّ   خير ٍ   وبِرٍّ           بعدَ     مأساةٍ     عاشَهَا     معلُولا

رَدَّ     أملاكهُ     وَكلَّ     بنيهِ         وَقضى   العُمرَ   هانئًا     وَجليلا

كلُّ أمر ٍ يكونُ بل كلُّ   ضيق ٍ        بيدِ     الرَّبِّ     دائمًا     مَحلولا

والذي     يجعلُ   الإلهَ     منارًا           في مَسَاعيهِ   لن   يَضِلَّ   السَّبيلا

أيُّهَا الشَّاكي   كلُّ هَمٍّ   سَيَمضي         وَسَسبقى   الوُجودُ   دومًا   جميلا

ويظهر هنا عنصر وطابع الإيمان بوضوح والذي لم نلمسه في قصيدة إيليا ابو ماضي.. والقصيدة تتحدث عن عدة مواضيع وقضايا أخرى هامَّة غيرالحكم والمواعظ كما هو عند الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي،حيث يتطرق د.حاتم جوعيه إلى قضايا إنسانية وأجتماعية ووطنيَّة وسياسية هامة جدا ..عدا المواضيع الحكمية والفلسفة المحضة ..والقصيدة تنتهي بطابع الإيمان والتفاؤل ..وهذا اهم شيىء في فحوى القصيدة .. والأنا عند حاتم هنا وفي معظم قصائده هي الأنا الجماعيّة ..أي أنه يتحدث باسم الجميع وليست الأنا الذاتية فقط والتي هو شخصيا ..وربما لا يعي ويفهم هذا الشيىء أي شخص وحتى بعض النقاد الساذجين وغير المتعمقين والمتبحرين في عالم النقد والادب . وباختصار هذه القصيدة أجمل وأعذب وأوسع وأشمل من قصيدة إيليا ابو ماضي ومستواها أعلى ، وفيها خلق وابتكار وتجديد وتحلق أكثر بكثير من قصيدة إيليا ابو ماضي.                                                                          

  

في خامسة الخمس الطوال قصيدة عن الحمير، ولمّا أدرِ وأنا أكتب هذه السطور ما هو المضمون الأساسيّ في القصيدة، ، وهل هو يذمّها أم يمدحها أم يقوم يالأمريْن، ألا يكفي هذا المخلوق "المغلّب" ما قيل في القرآن عن صوته، وكأنّه أُعطيَ صوت الحساسين والبلابل ورفضها مختارًا نهيقه المنكر، بل أنكر الأصوات وفقًا للآية الكريمة، ألا يكفيه ذلك حتّى يأتي شاعر سوريّ اسمه فاضل أصفر ليقول فيه:

"إذا   ظهرَ الحمارُ بزيِّ   خيلٍ         تكشَّفَ     أمرُهُ     عندَ   النّهيق"

ولماذا هذه المقارنة الظالمة دومًا بين الحمير والخيول، فلا الحمار قادر أن يكون حصانًا في ميادين السباق والفروسيّة "فالحمار حمار ولو بين الخيول ربى"، كما تقول حكمتنا الخالدة، ولا الحصان قادر أن يكون حمارًا في ميادين القدرة على الاحتمال وهندسة الطرق وجرّ الجِمال، فالأوْلى أن يقال "حمار المحامل" أيضًا، وقد سمّى توفيق الحكيم عقله بكتاب عنونه بِ "حمار الحكيم" وآخر بعنوان "حماري قال لي"، ومن هنا عند المصريّين مقولة "غُلب حماري" عندما يّغمّ على عقولهم ولا يمكّنهم من حلّ قضية ما، وكفى الحمار فخر أنّ الحكيم لم يسمِّ كتابيْه حصان الحكيم ولا حصاني قال لي، وقد سمّيت نظرية فيثاغورس في الهندسة المستوية بنظريّة الحمار لأنّ الحمار لسدادة عقله وحكمته يتقيّد بنظريّة الخطّ المستقيم التي أوجدها فيثاغورس، ويكفيه فخر واعتزاز، ولو على سبيل الدعابة والتندّر أنّه كان من معارف عمر الخيّام الأستاذ في جامعة نيسابور، إذ كان الحمار أستاذًا معه قبل أن يتحوّل إلى حمار بالتقمّص، وهذا مجد آخر يُعتدّ به، وقديمًا قيل عن بحر الرجز حمار الشعراء لسهولته وسهولة طبعه كما يبدو، وبعد ذلك كلّه يأتي الناس حين ينعتون إنسانًا "بالتياسة" بالحمار، وتغدو "الحمرنة" وهي من الإيجابيّات أحيانًا لتصبح مرادفًا "للتياسة"، وفي ذلك ظلم للتيس هو الآخر، ألم يقل الشاعر في مدح أحد الخلفاء حين يواجه القضايا الصعبة ويجابه المسائل الشائكة "كالتيس في قراع الخطوبِ". ولو توقّف الأمر عند هذا الحدّ لقلنا "طيّب". ولكنّ حاتم جوعيه الذي استهواه ذلك البيت من الشعر وتساوقًا مع قائله أبى إلّا أن يكتب قصيدة طويلة من 74 بيتًا، محورها وموضوعها الحمار، ويفتتحها بستّة أبيات من الهجاء اللاذع لذلك المخلوق المسكين والمظلوم،وقد يقصد ويعني بالحمار الشخص الغبي والأبلة كما يبدو في بداية القصيدة .                                                             .                

                                                                                                                                      

"يطيلُ نهيقَهُ   قبلَ   الشُّرُوقِ       ولم يبخَلْ بهِ عندَ   الغُبوقِ

وَيُزعجُ     كلَّ     مَغمُومٍ   عليلٍ       وَمنْ   قد   كانَ في   نومٍ   عميقِ

حمارٌ .. دائمًا .. أبدًا     حمارٌ        ولو   أعطوهُ من    خيرِ العليقِ

ولو   بينَ الخيُولِ قضَى سنينًا        حمارًا   سوفَ يبقى   في النَّهيقِ

وَصَوتُهُ   أقبحُ   الأصواتِ   طُرًّا        وَمذمُومٌ   ومن   زمَنٍ     سَحِيقِ"

وهذا الظلم بظنّي ما يجعل حاتم جوعيه لا يسترسل ويعود إلى الحمار متعاطفًا ومتماهيًا ومميّزًا ومفضّلًا إخلاصه على وفاء الكلب ونهيقه على صوت الناعقين كالغراب، وحتّى أنّ حاتم ينصف الحمار بجعله أكثر فائدة ونفعًا من الحصان ذاته : :                                                                                                                                                   

" مثالٌ فبي الغباءِ وذاكَ غبنٌ     هو الأذكى منَ الفرسِ السّبوقِ "           ..

ولأنّ الشاعر كما يبدو يلفت إنتباهه عالم الحمير الكادحين والمظلومين، فإنّه يُسقطه على عالم الفقراء والمظلومين من الناس، فهو يطلق نداءه: "يا حمير العالم اتّحدوا" وهي دعوة ثوريّة شيوعيّة أطلقها لينين مخاطبًا العمّال في العالم "يا عمّال العالم اتّحدوا"، وما أشبه العالم بالعالم والمظلوم بالمظلوم والشعار بالشعار واليوم بالبارحة والإنسان بالحمار:                                                                                

"سَأدعُوهَا   الحميرَ إلى   اتّحادٍ       لرَدعِ الظلمِ   في الزّمنِ الصَّفيقِ

لقد   آنَ   الآوانُ   إلى انطلاق ٍ       لِتحرير ٍ   مِنَ    القيدِ     الوَثيقِ

أنادي   يا حميرَ   الكونِ   هَيَّا       لقد   آنَ   الأوانُ    إلى  السُّمُوقِ"

ولقد يحيرنا الشاعر بانقلابه مرّة أخرى وعودته إلى هجاء صوت الحمير الملائم للفضّ والمخبول بالمقارنة مع شدو البلابل الذي ينسجم مع رقّة العشق وانسجام لقاء العاشقين في البيتيْن الأخيريْن من القصيدة، وكأنّه يريد تدويرًا لقصيدته، فبدأها بالذمّ بستّة أبيات كما أسلفنا وأنهاها ببيتيْن من الذمّ، كي يرضي الشاعر السوريّ، وبينهما جعل ستّة وستّين بيتًا في المدح، إرضاء لنفسه، وتحقيقًا لتجربته المتماهية – وهو الإنسان الوطني المناضل والمكافح والشريف والأبي والشاعر الكبير الذي يكره الظلم والطغيان واللإستبداد ، ودائما هو في صف الضعفاء والمضطهدين ومع الغلابى والمقموعين - ومع الحمير المظلومين، والتي أسقطها على الناس البسطاء الكادحين المظلومين.                                                                                                     

"وأصواتُ الحميرِ  لكلِّ  فضٍّ       وَمَخبولٍ  توَغَّلَ  في العُقوقِ

على عكسِ البلابلِ فهْيَ تشدُو        تُرنِّمُ   للعشيقةِ    والعشيق "

   والدكتور حاتم جوعيه يتحدثُ عن عدة أنواع من الحمير كما يفهم من معاني القصيدة.. هو في البداية يتحدث عن الحمار الحيوان المسكين والذي يستغله الإنسان ويشغلهُ في الأعمال الشاقة.. ويتهمونه بالغباء والتياسة مع أنه من أذكى الحيوانات .. ويتحدث الشاعر عن الاشخاص البلهاء والأغبياء الذين يتبوَّأون الوظائف والمراكز العالية بالواسطات وهم   ليسوا أهلا لهذه المراكز... ويتحدث أيضا عن الناس الكادحين والفقراء الغلابى المظلومين والمضطهدين والمقموعين في المجتمع ويعانيون من من الفقر المدقع والظلم والإستغلال من قبل الأسياد والمسؤولين ويشبههم بالحمير المساكين التي تعمل ليل نهار وتحمل الإثقال ولا احد يرأف بحالها ويهتم لأمرها ومعاناتها. ويطلق الشاعر حاتم جوعيه صرخة داوية ويدعو هؤلاء الحمير ( الناس المظلومين ) أن يتوحدوا ويكونوا يدا واحدة ويثوروا على الظلم والإستغلال وسياسة القمع والإستعباد .. وإنها لدعوة وصيحة مجلجلة وثورة إشتراكية عارمة من أجل تحقيق العدالة الإجتماعيَّة ولا يكون في المجتمع مُستَغِل ومُستَغَل وظالم ومظلوم وغني وفقير.. وهذه القصيدة تعد من الشعر والادب الساخر وتحمل الطابع التهكمي وتتحدث عن مواضيع عديدة ، والسخرية تضيف له رونقا وجمالا فنيًّا خاصا ومميّزا .   ومن الشعراء والكتاب المحليين الذين برزوا وتألقوا في مضمار الأدب التهكمي الساخر الشاعر الكبير المرحوم راشد حسين ..وخاصة في قصيدته :

   وأيضا الأديب والناقد الكبير الأستاذ نبيل عودة، وخاصة في قصصه الجريئة والصادقة والتي تعكس نمط وطابع حياتنا وتجسد الواقع المحلي والعربي بشكل عام.

وفي هذه القصيدة يستعمل الشاعر حاتم جوعيه كلمات عربيَّة صعبة جدا قد لا يفهمها حتى علماء وجهابذة اللغة العربيّة ،مثل:كلمة (حنفقيق) والتي لها عدة معاني، مثل: المصيبة والداهية والسرعة ..وصوت عدو ( ركض ) الفرس وحوافرها وهي تجري بسرعة ..

خلاصة الكلام:

إذا اعتبرنا الشعر صناعة فإنّ الدكتورحاتم جوعيه الشاعرالقدير يتقن صناعة القصيدة التقليديّة وأيضا قصيدة التفعيلة والقصيدة الحديثة المتحررة من الوزن والقافية ، ولكنه يفضل القصيدة العموديّة التقليديّة، ولذلك هو يقبل عليها بشغف لأنّه يعشقها، وهذا العشق يشكّل جزءًا محوريًّا في تجربته الشعريّة، والتي من خلالها يتمثّل بالكبار من الشعراء منذ الجاهليّة وامرئ القيس الملك الضلّيل ومرورّا بالمتنبي قمّة الشعر العربيّ ووصولًا إلى عصر النهضة وإحياء الشعر القديم وأحمد شوقي أمير الشعراء.

وهو من الشعراء القلائل الذين يكتبونها ويتقنون صناعتها اليوم محليا وعلى امتداد العالم العربي ، وفي هذا يجد حاتم شيئًا من التميّز عن سائر الشعراء، ولذلك كما عبّر عن هذا المعنى كثيرًا يرى نفسه قمّة شعريّة عالية، بالبناء على كونه امتدادًا للشعراء الكبار وعلى كونه يتفرّد تقريبًا بالنمط العموديّ، الذي مازال مجالًا وركنا أساسيًّا في شعرنا في الحاضر الراهن. ولعلّ هذه القصيدة العموديّة كما لمست من قراءتي في القصائد الخمس، وزيادة على ما فيها من مواضيع متعدّدة كالحكمة والوطنيّة ووصف الطبيعة والتغزّل بالمرأة التي لم تثنه على ما تتمتّع به من جمال، عن الوطن والنضال من أجل انتصاره وعن الشعر والدأب الفنيّ على رفع مكانته وتخليصه من عبث الشويعرين، لهي المجال الرحيب والمكان الفسيح والشكل الملائم لبثّ تجربته الشعريّة ومعاناته الحياتيّة كشاعر وإنسان وطني مناضل مظلوم رغم ما يتحلّى به من أصالة وإعجاب بتقاليدنا الشعريّة القديمة ويتمسّك بها،. وكيف لا يعتدّ حاتم بنفسه كشاعر كبير وهو سليل نموذجنا الشعريّ الأوّل والذي لا يتقنه إلّا هو وبعض الأفذاذ العمالقة القلائل في هذا العصر، وهو ابن هذا التراث الفنّيّ المجيد الخالد، وهو الامتداد لرموزه السامقة. وهو إنسان وطني شريف نظيف ومناضل وحر وأبي لا يخشى في الحق لومة لائم وضحى بكل شيىء بحياته ومستقبله ورفض كل الإغراءات وكل الوظائف مع انه حاصل على العديد من الشهادات الاكاديميَّة العالية ووهب حياته كلها منذ نعومة أظفاره لأجل خدمة قضابا شعبه وقدم الكثير وما زال دونما مقابل .

وقد رأينا عنده أنّ هذه المواضيع العديدة ليست بعيدة عن حياتهِ وكفاحه ونضاله ومعاناته كإنسان، بل إنّها تشكلّ خلفيّات أكثر رحابة لتجربته، ففي القضيّة الوطنيّة هو المناضل المتميّز والتي يُرخص حياته فداء لها، وفي الشعر هو المتفوّق على الجميع، وفي الغزل هو المعشوق الذي تريده ونهيم بحبِّهِ وتلاحقه الحسان من النساء..وهذه هي الحقيقة والواقع ..وهذا ما يميز الدكتور حاتم جوعيه عن معظم الشعراء والأدباء ،وشعره واقعي وحقيقي ..وكل ما يكتبهُ ينطبق على حياته وشخصيته مئة بالمئة..فهو الشاب الشجاع والجريىء والقوي البنية والجميل والوسيم والساحرالذي تعشقهُ النساء والإنسان المتعلم والمثقف والخلوق والمؤمن والمتسربل بالمبادىء والقيم والمثل السامية . ومن هنا نرى أنّ المعبّر عن هذه الحالة هو معنى الفخر، فالأنا تتكرّر عنده حتّى عندما يكتب عن الآخر، ولذلك يستخدم الشاعر بحريْ: الكامل والوافر الملائميْن في موسيقاهما وإيقاعيْهما ونبريْهما للافتخار والاعتداد بالنفس. والدكتور حاتم جوعيه متمرس بعلم العروض وضليع في اللغة العربية ..وكتب الشعر على جميع الأوزان وأبدع فيها أيُّما إبداع . والملاحظ عند حاتم لمعايشته لذلك الظلم الحياتيّ والفنيّ، أنّه يتّخذ موقعًا كطرف مظلوم في صراع طويل، ضدّ الطرف الظالم، وهذ الصراع يجعله يستخدّم الكثير من الثنائيّات المتضادّة والتي تعيش في وحدة ديالكتيكيّة، وسيفضي هذا الصراع حتمًا وفقًا لرؤيته الخاصّة إلى النهاية التي يريدها، حين ينخذل الجبناء والعملاء أمام المناضلين الشرفاء وحين ينحسر الشعر الركيك وأصحابه أمام حاتم وأمثاله من كبار الشعراء العمالقة المحافظين على الشعر العظيم. والدكتور حاتم جوعيه دائما هو لسان حال المظلومين والمضطهدين على هذه الأرض الذين يناضلون من أجل الحرية واسترجاع الحق المسلوب. وهو أيضا لسان حال الأدباء والشعراء المبدعين والشرفاء الوطنيين الذين عتّمَ عليهم إعلاميًّا ولم يأخوا حقهم كما يجيب من الشهرة والإنتشار الواسع الذي يليق بمكانتهم وإبداعهم.(هناك ستبنى دولة " الشرفاء ) من الفقراء والبسطاء الذين يتفاخر الشاعر بالوقوف معهم ومناصرتنهم والكتابة عنهم والانتصار لقضاياهم العادلة، حتّى يسود الحقّ والعدل ويستقيم الواقع الأعوج وتتفتّق الحياة عالمًا جميلًا وسعيدًا ونبيلًا. تحقيقًا لقول أبي طيّب شعرنا العظيم:

"إذا غامرْتَ في شرفٍ مرومِ         فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ         كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ"    

ولقد صدق الدكتور حاتم جوعيه في قوله :  

وَطني   جنانُ   الخلدِ   أعبُدُهُ       لا .. لم   أجدْ   كجمالِهِ   عِوضَا            

   خُضتُ الخُطوبَ بصَارمٍ غَضِبٍ   وَدَحَضْتُ أشباحَ الدُّجَى دَحْضَا

ربُّ   المكارمِ   كلّهُم   شهدُوا       والغيرُ يعطي   النّزرَ والبرضَا                

وَصُروحُ مجدي للسَّماءِ سَمتْ       والغيرُ   يُفتِي   الرَّدمَ   والنقضَا                

شعري   ليقظةِ   أمَّةٍ   رَقدَتْ       تبقى   بلادي   القلبَ   والنّبضَا              

للفنِّ     للإبداعِ   جئتُ   أنا       لأساندَ     الفقراءَ     والجَرْضَى              

وَلأنثرَ الأزهارَ في   وطني       لأبدِّدَ       الأحقادَ       والغيضَا              

أنا فارسُ الفرسانِ في زمنٍ         الكلُّ عن دربِ   الإبا   انفضَّا

أجواؤُنا   في   سوءِ   مُنقلبٍ       والحرُّ يرقبُ   في غدٍ   مَخْضَا

سأظلُّ في دربِ الفدا علمًا       والغيرُ   يبدي   الجُبنَ   والبضَّا             

وَنفضتُ أوحالَ الخطوبِ ولم       أعبَأ   بدهر ٍ   لم   يزلْ   فضَّا              

عرشُ البلاغةِ   شدتُهُ   بدمي       حزتُ   الفنونَ  النّثرَ والقَرْضَا              

            

وما أجمل وأصدق هذه الأبيات التي قالها.. وينطبق عليه لقب ( شاعر الديار المقدسة ) :                                                                            

حُلُمًا عَشِقتُكِ   كلُّ جُرح ٍ   يَشهَدُ         أنتِ الفِدَاءُ ودِفءُ حِضنِكِ مَعبَدُ      

تِيهي افتخارًا يا فلسطينَ المُنى         أنتِ السَّنا ، والمَجدُ، أنتِ السُّؤدُدُ      

تيهي بلادي أنتِ   نبراسُ الهُدَى         وَمَآثرُ   التاريخ ِ     فيكِ     تُخَلَّدُ      

أنا في هَواكِ   شذا العروبةِ حَالِمًا         طولَ المَدَى وأنا الأسيرُ المُبْعَدُ      

هذا   شبابي   في   هواكِ   أريقُهُ        وأرَاهُ أرخصُ ما لديكِ...لِيَشهَدُوا      

وَمشاعري..كلُّ المشاعر ِ صغتهَا         حضنا ً وفيرًا .. أنتِ نِعمَ   المرقدُ      

أحني على التُّربِ الطَّهُورِ وأنحَني         وأمَرِّغ ُ الجَفنَ   النَّضيرَ   واسجدُ      

أألامُ   إن غَنَّيتُ   فجرَ عُروبتي         وأبثهُ   نجوَى   الحنان ِ   وأنشدُ      

مَهما يطُلْ دربي سَأبلغُ غايتي           وأحَقِّقُ   الحلمَ الذي   قد   شَرَّدوا      

أقوى مِنَ الطَّودِ الأشَمِّ عقيدتي         ويَدي أحدُّ   مِنَ   النِّصالِ وأصلدُ      

ما زلتُ للشِّعرِ الجميل ِ منارَهُ           وَعَلى الغصونِ الباسقاتِ   أغرِّدُ      

فأنا ابتداءِ الحرفِ في لغةٍ الفِدَا           وأنا   الكفاحُ     مُعَانقٌ   وَمُجَسِّدُ      

أنا في انتظارِ الفجر ِ لحنٌ ثائِرٌ         وعلى صُروحِ الرَّفضِ صوتٌ يُرعِدُ      

سيظلُّ شعري للشُّعوبِ   منارَة ً         فقصائدِي   طولَ   الزَّمان ِ   تُرَدَّدُ      

أنشدتُ شعري للحياةِ وسحرِها         وَسمعتُ همسَ الرُّوح ِ باتَ   يُرَدَّدُ      

وَأحَبُّ أغنيةٍ   لقلبي   في الهَوَى         أغنيَّةٍ         أمجادُهَا       ستُخلَّدُ    

ضَمَّختُ شعري بالفداءِ ، ونفحُهُ         أملُ   الغريق ِ وَحُلمُهُ   المتورِّدُ      

يا   شعرُ غَرِّدْ   للبطولةِ   وللفِدَا         وانثُرْ   أريجَكَ   ساحِرًا   يتباعَدُ    

أنا في ربوع ِالقدس ِصرخة ُ ثائِر ٍ         وعَلى جفون ِالشَّمس ِ صوتٌ أوْحَدُ      

    

بقلم : الكاتب الأستاذ علي هيبي -   قرية كابول – الجليل الغربي -

وسوم: العدد 956