رائعة مدني النخلي..قراءة نقدية

الطيب عبد الرازق النقر
altayih@hotmail.com

أنا لا أشك في أن الأمر لم تكن فيه مبالغة كثيرة، فهذه القصيدة التي لم يختلف حولها السودانيون" كعادتهم" اختلافا عنيفاً، كأقصى ما يكون العنف، بل أظهروا لها الاذعان والتسليم، تستحق فعلاً منا التحايا والهتاف، والتصفيق، لشاعرها المرهف "مدني يوسف النخلي"، الذي نعد شعره الغنائي الملتهب الذي أحرق فؤاد صاحبه، هو مضرب المثل في جودة السبك، وعذوبة التعابير، وسمو المعاني، ودقة التصوير، فالصور المتراكمة، المزدحمة، التي أوشكت أن تختنق في حنايا "النخلي" استدعت منا تلك الأحاديث الطويلة المتشعبة، في المحافل والأسمار، فغزارة صوره الشعرية التي نهيم بها، ونحبها، ونعجب بها كل الاعجاب،  لم تكن في الحق سريعة عارضة، ولكنها كانت بطيئة متلاحقة، تظهر لنا حقيقة العمق النفسي الذي يكمن وراءها، يخبرنا الصريح من هذه الصور والمضمر، عن اختلاجات جوانح فاطرها، وعن شوارعه الطاردة، التي لم ينزوي مطرها الحزين، في قصيدتة الشامخة التي تغنت بها "ذات مبدعة"، تلك الذات العذبة، التي أضحى صوتها الثري مدعاة للفخر، ومظهراً للتفرد، وجسراً للتعبير، فنحن نتباهى "بمصطفى سيد أحمد"، ونزهو بتوهجه الابداعي، ونقدس تجربته المكتملة الطرح والرؤية، ساهم" النخلي" بنحو أربعة عشر عملاً في تأثيلها.

و"النخلي" في رؤيته للمكان الذي وقف فيه واجماً، بازاء تلك الحوادث الكبرى التي زلزلت حياته، تجاوز حتماً الأشكال الجغرافية المختلفة، فهو لم يقف أصلاً على مكوناتها، ولم يعي ذهنه الشارد، هل تبدلت معالمها، أم ظلت حاوية لكل قديمها، فذهن "النخلي" الذي أسبغ عليه صاحبه من الخيال ما عجزت عنه الحقيقة، كان يحتفي بأشياء أوسع من ذلك وأعمق، فالمكان الذي وثّق أواصر تحالفه مع الحزن والأنواء، لم تستدعه ضرورة فنية، تحتاج إلى تفصيل وايضاح، ولكن أوجدته فكرة" التداعي" المسيطرة على مهجة "النخلي" المستسلمة إلى حزنها، فهي لم تنتظر حتى تهدأ عواصفها، لتعاود المسير، فما أن دنا منها ورجاها، انفجرت عليه بالصواعق والحنين، وهنا تتفاوت الروعة، ويتباين الابداع، فالهم الذي أضحى حالة راهنة، ونتيجة حتمية لضياع الحلم، يعصف بروح النخلي ويزري بها، ويجعلها محتبسة في عوالم مكفهرة، أبدع "النخلي" في صياغة كل حرف جسد ملامحها وفصولها، وقناعتي التي لا ينازعني فيها شك، أن "النخلي"، رغم الشقاء والبؤس الذي تقاذفه في تلك العوالم، إلا أنه كان لا يود أن يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل، كان يريد لرئتاه أن تستنشق من عبير سرابها لأطول فترة ممكن، وألا تمضي الريح لشأنها،  وأن يظل قمرها غائباً، وأن يغسل وكف مطرها الغزير المتواصل، صهوات طرقها، وردهات شوارعها، كان "النخلي" يريد من الطبيعة القاسية، أن تكون رائدته في هذه الحياة، تتعبه، وتتضنيه، وتجهده في سبلها المتشعبة، كان النخلي يريد أن تظل سمات هذه المعالم، وخصائصها، مغروسة في دواخله، يريد حقاً أن يظل شيئاً ملموساً وقائماً من تداعياتها وأحداثها، يجعل روحه تظل في طيران وتحليق، روحه التي كانت تلتمس أجدى أسباب الارتباط، وأغنى دعائم الامتزاج، التي تمكن ذاته الشفيفة من أن تحتضن ظلالها، وتعانق أغصانها، يريد باختصار رؤاها المترسبة في أحناء صدره، أن تظل حاضرة بأشكالها المختلفة، تمد إليه أعناقها في سفره ومقامه.

و"النخلي" الذي ينتابه الشجن من ويلات العودة إلى منعطفات دروبها التي فدحتها الحياة، وحصرتها في انطباعات حادة لا تتغير، ظلّ يؤكد هذا الملمح في قصيدته التي اكتوى فيها بنار الانتظار، لحبيب تناءى عنه، فعدد من الدلائل التي نوضحها الآن، تشير إلى هذا الحزن الموروث بعضه،والحادث بعضه الآخر، فالأسى الذي يتناسل ويتوالد بكثرة وكثافة، في جميع أبيات هذا الدفق الشعوري، هو الجوهر الضمني الكامن، في جميع المعطيات الحسية، التي زخرت بها أبياتها الشعرية، فالليل فتح شرفة من وجع، والقمر رحل وفارق سماه، وأضواء المصابيح البعيدة، التي كان يتهادى على نورها الشاعر، انخزلت وتراجع سناءها ثم خمد، والمشاوير التي لم يدفع بها الشاعر بعيدة عن ذاته ، ممدودة في نبض التعب، ونحن هنا نلمح الجدة، والطرافة، والنبوغ في التشبيهات، تشبيهات يتعين علينا معرفة قواعدها، وفحص طرقها من الاستدلال والبرهنة،  فالتشبيهات ارتبطت بالمواقف التي تسببت في حدوثها، وبالتأويل في معاني النكبات التي ترتبت عنها كنتائج لها، تستطع لنا رزيئة الانتظار الممض الطويل، التي تمخض  عنها تلك الصورة المألوفة والملحة للخيبة، التي تستحق أن نعيد النظر فيها من الأساس، فالاخفاق يندس دائماً في العواطف المحضة، ويتسرب إليها.

ولعل الشجى الذي تحصفت أسبابه في هذه القصيدة، هو قطعا شجى حقيقي، مؤسس على تجربة صادقة خاضها الشاعر، فالصياغة الشعرية التامة، التي تسايل الدم من جبينها، يجعل مزاعمنا تستمد صحتها من استقراء وحدس صحيح، ولكن هذه القصيدة الحافلة بالجوى، لا ينبغى لنا أخذ صورها، ورموزها، ودلالتها، بمنتهى البساطة التي أعطاها لنا شاعرها، بل يجب أن نجتهد في الوصول إلى المعاناة التي تطاولت أيامها، يجب ألا تختلط علينا حقائق أفكارها، وإسقاطاتها، ويذهب بعضها في بعض، فهذه القصيدة بمعايير حرارة عاطفتها، وبعتبة أحساسيها المتعاقبة الصادقة، التي يستعصى علينا تحديد نقطة انبثاقها، أو نمط تميزها، فتيار مشاعرها الجارف، ومضامين وجْدَها العاصف، يرسل لنا احصائيات لها رأي، ولها إرادة، فنحن نعدها اتساق منطقي، لأنماط البنية الشعرية، وللانطباعات التي سبقت صياغتها.

أما ايقاع هذه القصيدة، وجرسها الموسيقي، فهو وواضح وبين، وقد وضع له النخلي" تشريعاً استثنائياً خاصاً بها، تناثر في جميع عناصرها، أبصرناه في أفق القافية التي لا ينضب معينها، فالرتم الموسيقي لهذه القافية، ليس على شاكلة الموسيقى الداخلية التي نحبها ساعة، ونكون إلى جانبها، ثم نمجها وننصرف عنها، فتقاطيع القصيدة المحكمة البناء والصنع، تنسجم لها أرواحنا على الدوام، لأنها تضاعف لنا معنى الوله في النفس.

أما اللغة والأسلوب، فقد أديا المهمة التي كانت ملقاة على عاتقيهما على أكمل وجه، فقد عبرا عن صور من العسير حصرها بكيفية دقيقة، صور شامخة مستساغة، صاغها النخلي في عبارات مستقلة، اقتضت تراكيب معينة، لا يمكن استعادتها أو استنساخها، أم أساليبها فلا نجد غضاضة ولا ضرر إذا نعتناها  بالأدوات التي كانت تحت رهن إشارة صاحبها، وحققت له أمنيته الوثابة، فقد استوعبت جميع القضايا الصادقة التي تطرق لها النخلي في قصيدته الفينانة، التي لم تكن ضئيلة أو تافهة، كما هو الشأن في الكثير من قصائد الشعر الغنائي.

وسوم: العدد 1130