حُبّ الوَطَن

(في ديوان العرب)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من الحقائق التي حملها التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم ( العرب أمة شاعرة ) ، فهم من أكثر الأمم شعراء ، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا .

 وقد حفظ الشعر تاريخ العرب ، وعاداتهم وتقاليدهم : في أفراحهم وأحزانهم ، في منشطهم ومكرههم ، في سرائهم وضرائهمْ . فلا عجب أن يجعلوا الشعر مثلهم الأعلى تصويرا وتعبيرا .

 ومما يُرْوى عن رسول الله ص قوله : " إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة

 ومن كلمات عمر بن الخطاب ر : " ارْووا الأشعار ، فإنها تدل على مكارم الأخلاق ويقول أبو فراس الحمداني :

الـشـعـرُ ديوانُ iiالعربْ
لـمْ  أعْـدُ فـيه iiمفاخري
ومُـقـطـعات .. iiرُبما..
لا  فـي المديح ولا iiالهجا



أبـدا  ، وعُـنوانُ iiالأدبْ
ومـديـحَ آبـائي iiالنُّجُب
حَـلَّـيـت منهن الكتُبْ..
ءِ ، ولا المجون ولا اللعب

***

 وفي " ديوان العرب " سنعيش مع ( وطن الشاعر ) ، وسنرى بالاستقراء أنه سيقودنا إلى التعرف على طبيعة العَلاقة بين الشاعر ووطنه ، هذه العَلاقة التي تجسدت في عاطفة نبيلة متوهجةٍ هي ( الحب ) .

 ومع ( حب الوطن ) ، وأبعادِ هذا الحبِّ ومظاهِرِه ، سنعيش معك في ( ديوان العرب )

 والوطن كما عرَّفته معاجم اللغة هو مكانُ الإنسان ومقرُّه ، أو هو مكان إقامة

 الإنسان ومقره ، ولد به أو لم يولد . وكثير من هذه المعاجم يجعل الموْطنَ مرادفا

 للوطن.

 وقد حَفل الشعر الجاهلي بذكر " وطن الشاعر" أو " أوطانه " بتعبير أدق ، وهذا الوطن قد يكون واحةً غنَّاء ، وقد يكون قطعة ممتدة من الصحراء تتسع لمضارب القبيلة ، وقد يكون جبلا ارتبط في حياة الشاعر بذكريات معينة .

 وقد تطول الإقامة في هذا " الوطن " لسنوات مديدة ، وقد لا تزيد على أشهر أو أيام .

 ونمضي مع الشعر الجاهلي لنواجه عشرات من أسماء الأوطان أو المواطن ، ومنها على سبيل التمثيل :

 سِقط اللوى . الدُّخُول . حَوْمَل . المِقْرَاة . دارَة . جُلجُل . ثهْمَد حوْمَانة الدَّرَّاج . المتَثَلَّم . الرقمتان . القنان . الريّان . صوائق . الثَّلبُوت . الجِواء . شمَّاء . الخَلْصاء . الشَّربُب . الشُّعبتان . الأبلاء . خَزَار . مَلْحوب . القطبيَّات . الذَّنوب . راكس . ثُعالبات . ذات فِرْقين . عردةٌ . تفاحِبِرٍّ .

 وكل هذه الأعلام التي وردت في المعلقات إنما هي أسماء لواحات أو جبال أو أراض أو مياهٍ ارتبط بها الشاعر الجاهلي ارتباط إقامة طويلة ، أو إقامة قصيرة ، أو ارتباط ذكريات مع من أحَبّ ، فهو يقف باكيا أمامها ، أو لاهجا بها لسانُه للتلذُّذِ بذكرها ، أو للتعبير عن وفائه لها ، وحبِّه إياها .

 فهي على أية حال تمثل أوطانه ، أو أوطانَ أحبابه ، ولكن علينا أن نذكر في هذا المقام ، أن أغلب هذه المواطن قد أتى عليه الدهر ، ولم يَعُد له وجود في الواقع ، ولولا الشعر الجاهلي الذي خلدها ما سمعنا بها ، ولا تناولها باحثٌ في بحثِه ، ولا طرقت أسماع المواطنين في برنامج إذاعي .

 إن الإنسان في وطنه ، يشتد قلبه ، وتقوى نفسه ، لأنه كما قيل يُدْفيء ظهره بقومه ، ويحصِّن نفسه بأهله وخلانِه . حتى قيل لأعرابي : ما الغبطة ؟ قال : " الغبطة هي الكفاية مع لزوم الأوطان " . أما البعيد عن وطنه فَفَرْدٌ في قوته ، وتائه في آماد لم تألفها نفسه حيث لا عزة ولا نصير . ويقال إن إياسَ بن معاوية مرّ بمكان فقال لمن معه : " إني أسمع صوت كلب غريب " فقيل له " بم عرفتَ ذلك ؟ " قال : " بخضوع صوته ، وضعفِ نبرته ، وشدة نُباح غيْرِه " .

 إن لحبِّ الوطنِ مظاهر كثيرة ، منها : الذَّوْدُ عن حياضه ، والدفاع عن حماه ، والتضحية بالنفس والولد والنفيس من أجله . ومن أهم مظاهر حب الوطن ( الحنين والشوق إليه ) عند الاغتراب . وفي هذا الموضوع كتبت عشرات من الكتب والرسائل من أشهرها :

-  حنين الإبل إلى الأوطان : لربيعة البصري .

-  الحنين إلى الأوطان : للجاحظ .

-  الشوق إلى الأوطان : لسهل بن محمد السجسْتاني .

-  حب الأوطان : لأحمد بن أبي طاهر .

-  الحنين إلى الأوطان : لموسى بن عيسى الكِسْرَوِي .

-  الحنين إلى الأوطان : لمحمد بن أحمد الوَشَّاء .

-  المناهل والأعْطان ، والحنين إلى الأوطان : للحسن بن عبد الرحمن بن خلّاد .

-  أدب الغرباء : لأبي الفرج الأصفهاني .

-  الحنين إلى الأوطان : لأبي حيان التوحيدي .

-  النزوع إلى الأوطان : لعبد الكريم بن محمد بن منصور بن السمعاني .

***

 ونفتح ديوان العرب لنلتقي بالصحابي الجليل بلال بن رباح ، بعد هجرته من مكة إلى المدينة ، وقد استبدت به الحُمَّى ، فأخذ لسانه يجري ويلهج بذكر مراتع صباه ، ومدارج شبابه في مكة فيقول :

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة          بواد  وحَوْلي  إذخَرٌ  وجَليلُ

وهل  أرِدَنْ  يوما  مياهَ مِجنَّةٍ          وهل يَبْدُوَنَّ لي شامةٌ وطَفِيلُ

***

 ويقال إن أحد الأعراب أراد السفر ، فقال لامرأته :

عُدِّي السنين لغيبتي وتصبري      وذَرِي الشهور فإنهنَّ قصارُ

 فأجابته :

فاذكر صَبابَتَنَا إليك وشوْقنا      وارحم بناتِك إنهنَّ صغارُ

فأقام في وطنه ، وترك السفر .

***

 والشاعر المعروف : البهاءُ زُهَيْر الذي عاش في مصر إلى منتصف القرن السابع الهجري يأبى أن يَرْحل عن مصر لأنها جنة الحسن ، ومجمع الإخوان والصحاب ، والأصدقاء الأوفياء :

أأرحلُ  عن  مصر  وطيب  نعيمها          فأي مكان بعدها لِيَ شَائقُ

وكيف وقد أضحت من الحسن جنة          زرابيُّها  مبثوثة والنمارقُ

وإخوانُ صدقِ يجمَعُ الفضلُ شملهم          مجالسهم مما حوَوْهُ حدائقُ

***

 والوطن محبوب مطلوب على أية حال .

-  حتى لو لم يكن في جمال البلد الذي يرحلُ إليه الإنسان ؟

-  نعم : فالحب يجعل من القبيح جميلا ، ويجعل من العَكِير صفْوا خالصا سائغا للشاربين .

-  وهل نجد هذا المعنى في " ديوان العرب" ؟

-  نعم ، وذلك في قول الشاعر :

بلادٌ     ألفناها    على   كل  حالة          وقد يُؤْلَفُ الشيء الذي ليس بالحَسنْ

وتُسْتعذب الأرض التي لا هواء بها          ولا   ماؤها   عذبٌ ، ولكنها  وَطَنْ

 ولعل من أشهر الأبيات في هذا المعنى قول شوقي :

وطني لو شغلتُ بالخُلْدِ عنه          نازعَتني إليه في الخلد نفسي

***

 إن حب الوطن من الإيمان , والحنين إليه مظهر من أهم مظاهره . ومن أراد المزيد فعليه بروميات أبى فراس الحمداني , وهي القصائد التي نظمها طيلة السنين التي قضاها أسيرا في بلاد الروم . وعليه كذالك بسرنديبيات البارودي , وهي القصائد التي أنشأها في سنوات النفي في سرنديب .

 وعليك الرجوع كذالك إلى " أندلسيات " أمير الشعراء أحمد شوقي , وهي القصائد التي نظمها في منفاه في بلاد الأندلس , والمحور الرئيسي لهذه القصائد هو " حب الوطن " الذي انعكس في شوق جارف , وحنين متوهج إلى الوطن بما فيه ومن فيه .

  **********

(2)

والفارس الشاعر أبو فراس الحمداني قد قضى في أسر الروم سبع سنين جادت فيها قريحته بأرقى ألوان الشعر في الحنين إلى وطنه حلب والشام ، وإلى أمه وأهله وخلانه ، ومرابع صباه وشبابه . ومما قال :

إن في الأسر لصَبَّا          دمعُهُ في الخدّ صبُّ

هو  في الروم مقيمٌ          وله  في  الشام قلبُ

مستَجدًا لم يصادف          عِوضا  مِمَّن  يحب

 ويكتب لأخيه أبي الهجاء حرب بن سعيد قصيدة طويلة يقول فيها :

عـلـيَّ  لـربـع العامرية iiوقفة
فـلا وأبي العُشاق , ما أنا iiعاشق
ومـن مـذهبي حب الديار لأهلها


تُـمِـل عليَّ الشوق والدمعُ iiكاتب
إذا هي لم تلعب بصبري الملاعب
ولـلـنـاس فيما يعشقون مذاهب

***

 ويحل عليه العيد , وهو أسير في سجون الروم , فيشق عليه ذالك , ويستبد به الحنين , فينظم الأبيات التالية :

يا  عيد : ما عُدتَ iiبمحبوب
يا عيد : قد عدت على ناظر
يـا  وحشة الدار التي iiربَّها
قـد  طـلع العيد على iiأهله
مـالـي  ولـلدهر iiوأحداثه




عـلي  مُعَنَّى القلب مكروب
عن  كل حسن فيك محجوب
أصـبحَ  في أثواب iiمَرْبوب
بـوجـه لا حسنٍ ولا iiطيب
لـقـد  رمـاني بالأعاجيب

***

 ويحل العيد كذلك علي المتنبي , وهو في مصر بعيد عن أحبابه وأهله وخلانه في الشام , فيستبد به الألم والأسى , وتفيض قريحته بمطولته الدالية المشهورة التي مطلعها :

عيدٌ بأية حال عدت ياعيد          بما مضي أم لأمر فيك تجديد

أما  الأحبة  فالبيداء دونهم          فليت  دونك  بيدا  دونها بيد

 ويقول أبوتمام:

كم منزل في الأرض يألفه  الفتى          وحنينه  أبدا  لأول  منزل

نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى          ما الحب إلا للحبيب الأول

 أما علية بنت المهدي فتقول :

ومغترب  بالمرج   يبكي  لشجوه          وقد غاب عنه المسعِدون على الحبِّ

إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه          تنفس   يسْتَشفي   برائحة    الركبِ

***

 ومن أصدق الأبيات , وأعمرها بالحنين والشوق قول قيس بن الملوح :

أحن إلى أرض الحجاز , وحاجتي
ومـا  نظري من نحو نجد بنافعي
أفـي  كـل يـوم نظرةٌ ثم iiعبرةٌ
مـتـى يستريح القلب إما iiمجاور



خـيام  بنجد دونها الطرف iiيقصُرُ
أجل : لا , ولكني على ذاك iiأنظر
لـعـيـنيك  يجري ماؤها iiيتحدرُ
حـزيـن  وإمـا نـازح يـتذكر

***

 ومن أشهر الأبيات في حب الوطن والاعتزاز به والحرص عليه , وعدم التفريط فيه قول ابن الرومي :

ولي وطن آليتُ ألا أبيعه          وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا

 والوطن هنا – في مفهوم ابن الرومي – ليس الوطن بمفهومه العام , ولكن الشاعر يقصد به منزله " الذي يسكنه " . وقد أراد أحد جيرانه أن يجبر ابن الرومي على أن يبيعه إياه , ولكنه رفض عرضه , فأخذ يؤذيه ويضايقه ، فاستجار ابن الرومي بسليمان بن عبد الله , ورفع إليه الأبيات التالية :

أعوذ بحِقويك العزيزين أن أُرًى
ولـي  وطـن آلـيت ألا أبيعه
عهدتُ  به شرخ الشباب iiونعمة
فـقـد ألـفتْه النفس حتى iiكأنه
وحـبَّـب أوطان الرجال iiإليهمُ
إذا ذكـروا أوطـانـهم iiذكرتهمُ
وقـد  ضامني فيه لئيمٌ iiوعزني
وأحدَثَ  أحداثا أضرت iiبمنزلي
وراغمني  فيما أتى من iiظُلامتي
فما  هو إلا نسجك الشعر iiسادرا
مـقـالـةَ  وغد مثله قال iiمثلها










مـقرا بضيْم يترك الوجه iiحالكا
وألا  أرى غيري له الدهرَ مالكا
كـنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
لها جسد إن مات غودرتُ iiهالكا
مـآرب قـضَّاها الشباب هنالكا
عـهود  الصبا فيها فحنُّوا iiلذلكا
وهـا  أنا منه مُعْصم بحبالكا ..
يُـريـغ إلى بيعيه منه iiالمسالكا
وقال  لي اجهد فيَّ جهد iiاحتيالكا
وما الشعر إلا ضلَّةً من iiضلالكا
ومـا زال قـوالا خلاف iiمقالكا

***

 ولكن هناك من الشعراء من شجع على الرحيل والتنقل ، والعمل على كسب الأصدقاء في مواطن جديدة ، مع تماسك النفس وثباتها ، وعدم تهاويها وتمزقها بسبب الشوق والحنين إلى الأهل والأحباب والخلان . ومن هؤلاء الشاعر صفي الدين الحلي في هذه الأبيات :

تـنـقَّل  فلذات الهوى في iiالتنقل
ففي  الأرض أحبابٌ وفيها iiمنازل
ولا تستمع قول امرىء القيس إنه


وَرِد كل صاف لا تقف عند iiمنهل
فلا  تبك من ذكرى حبيب ومنزل
مُـضـلٌّ  ومن ذا يقتدي بمضلِّل

 وهو في هذه الأبيات يشير إلى مطلع معلقة امرىء القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل          بسقْط اللوى بين الدَّخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف  رسمها          لما  نسجتْه  من  جنوب وشمأل

 ويقول الفرزدق :

وفي الأرض عن دار القِلَى متحول          وكل بلاد أوطنتْك بلاد

 ويقول آخر :

وما هي إلا بلدة مثل بلدتي          خيارهما ما كان عونا على الدهر

 ويقول عبد الله الجعدي :

فإن تجْفُ عني أو تسمني إهانةً          أجدْ عنك في الأرض العريضة مذهبا

***

 ولكن علينا أن نلاحظ بعد قراءتنا هذه الأبيات , أن الدعوة فيها إلى التنقل والرحيل عن الوطن مرتبطة بمواقف خاصة , منها شعور الشاعر بالغربة الروحية بين أهله أو في أرضه , ومنها السعي لطلب الرزق والمزيد من الثروة , فهذه الأبيات في مجموعها لا تغني كراهية الشاعر لوطنه , وتنكره لمسقط رأسه ومدارج صباه فالنبرة العالية في "ديوان الشعر العربي " تبقى للتمسك بالوطن , والحرص عليه , وتفضيل الفقر فيه علي الثروة والغنى الطائل في غيره . وفي ذلك يقول أحد الشعراء :

لقربُ الدار في الإقتار خير          من العيش الموسع في اغتراب

 وقال آخر :

لا تجزعن إذا ما لم تنل سَعَة          لا يجلب الرزق تَحدار وتصعادُ

***

 إنه الوطن حب في القلب , يتشرب النفس , وتتشرّبه النفس .. وهو في عين من قرَّ فيه عالمه ودنياه , وهو المفضل على غيره من بلاد الأرض في كل الأحوال على حد قول الشاعر :

بلاد    ألِفناها    على   كل   حالة          وقد يُؤلف الشيء الذي ليس بالحَسَن

وتُستعذب الأرض التي لا هواء بها          ولا   ماؤها   عذبٌ , ولكنها   وطن

***

 وإلى اللقاء في حلقة جديدة من حلقات "ديوان العرب " .