المكان في رواية غفرانك قلبي

clip_image002_0266f.jpg

صدرت رواية "غفرانك قلبي" للأديبة المقدسية ديمة السّمان عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، وتقع في 2224 صفحة من الحجم المتوسّط.

تعلن الكاتبة في مقدّمة كتابها أنّ روايتها ليس لها مكان ولا زمان، وأنّ أحداثها ربما تقع على أيّ أرض عربيّة وفي أيّ زمن. وهي ربّما تريد من خلال ذلك أن ترسل رسائل عدّة، منها وحدة الأرض العربيّة، ووحدة الثّقافة العربيّة، وحتّى وحدة المشكلات في المجتمعات العربيّة. فالكاتبة أرادت للرّواية أن تكون رمزيّة، لا أن تتكلّم عن مكان معيّن، أو أن تسرد أحداثا حصلت لجماعة معيّنة؛ لذلك نجدها تخلق فضاء تدور فيه الأحداث، وتتحرّك خلاله الشخصيّات، قد لا يتّفق مع أيّ مكان واقعيّ في مخيّلة القارئ، بل هو مكان خياليّ له مقوّماته الخاصّة وأبعاده المتميّزة. فلم تسمّ الكاتبة المكان في روايتها باسم حقيقيّ، ولم تربطه بمعلم حقيقيّ أو بلد معروفة، فأتاحت المجال للقارئ أن يتخيّل هذا المكان بالشّكل الذي يرتئيه، ويعيش مع الشّخصيّات ويتخيّلها كما يريد، في أيّ بلد عربي كان. فمعالم المكان في الرّواية تشترك فيها معظم البلدان العربيّة تماما مثلما تشترك الأمّة العربيّة في تاريخها وحاضرها وتطلّعها نحو المستقبل.

تبدأ الرّواية في واحة آل سالم التي تقع في إحدى الصحارى بعيدا عن العمران، وتعاني من الجفاف ونضوب الماء. والصّحراء هي رمز للأرض العربيّة، فالعرب خرجوا من الصّحراء إلى العمران، وكذلك فعل آل سالم حين خرجوا من الصّحراء، وانتقلوا إلى مكان آخر ليبدؤوا حياة جديدة، ويتحوّل ذلك المكان النّائي إلى مدينة واسعة، ودولة فسيحة.

تتغيّر طبيعة المكان خلال الرّواية سريعا، لكنّ طبيعة الشّخوص فيها لم تواكب هذا التغيّر، ولم تتطوّر إلى الأفضل. فنرى شيخ القبيلة يستشير أفرادها، شيوخهم وشبابهم، رغم سلطته المطلقة، ولا يقطع أمرا قبل أن يأخذ آراءهم. وعندما يتطوّر المكان ليصبح مدينة، يحكمها حاكم متسلّط لا يأخذ مشورة أحد، ولا يوقّر كبيرا. ثمّ يثور النّاس عليه ويتخلّصون من حكمه، لكنّهم لا يتّجهون إلى حكم أنفسهم بأنفسهم ولا يعودون للشّورى، ولا يقيمون حكمهم على أساس العدل، وإنّما يسلّمون رقابهم لجماعة من العسكر، لا شكّ أنّهم سيعيدون سيرة الحاكم المتسلّط، ويستعبدونهم تارة أخرى، وكأنّ الحريّة لا تجد لها مكانا في بلاد العرب أينما كانت.

والمكان في رواية (غفرانك قلبي) يعبّر عن نفسيّة الشّخصيّات،  وينسجم مع رؤيتها للحياة. فتبدأ الرّواية في صحراء قاحلة وشجرة جمّيز وحيدة، وتمرّ الأحداث هناك، وكأنّك تعيش في غابر الزذمان، وترى التّفاعل بين الشّخصيّات منسجما تماما مع المكان الذي تصفه الكاتبة بدقّة، حتى لغة الرّواية تنسجم مع المكان والزّمان، فنرى الكاتبة تجنح إلى السّجع مثلا في بداية الرّواية، ثم تتركه فيما بعد عندما يتغيّر المكان والزّمان. فهناك علاقة وثيقة بين المكان والأحداث والشّخصيّات.

تصف الكاتبة المكان الذي تتحرّك فيه شخصيّاتها وصفا دقيقا حيّا، يستطيع القارئ أن يتخيّل الواحة في وسط الصّحراء، ثم شجرة الجمّيز التي تحيط بها السّهول والجبال. ما يلبث المكان أن يتحوّل بسرعة، فنرى الأرض ذات الشّجرة اليتيمة تتحوّل إلى أراضي زراعيّة تعجّ بأنواع النّباتات، ثمّ ما تلبث أن تتحوّل إلى مدينة كبيرة تتوسّطها مزرعة لا يبقى من معالمها إلا شجرة الجمّيز العتيقة، فيصبح هذا المكان واحة مرّة أخرى، ولكن ليس في وسط صحراء وإنّما في بحر من العمران. فالمكان في الرّواية كالشّخصيّة النّامية التي تتحوّل وتتغيّر تبعا للتّغيّرات التي تطرأ على الأحداث في السّرد.

وكما يتحوّل النصّ فجأة من حكاية أمّة ودولة إلى حكاية حبّ عادية بين شابّ وفتاة، فإنّ المكان الواسع ينحصر جدّا في شوارع المدينة، وداخل بيت آل سالم الجديد، وبيت أنسبائهم وتلك المزرعة التي تميّزها شجرة جميّز حديثة ليس لها عراقة الشّجرة القديمة، فيصبح مكانا عاديّا ضيّقا.

هل ارتباط العربيّ بأرضه ضعيف؟ وهل يترك العربيّ أرضه ويهجرها ويفرّط بها ولا يعود إليها؟ يجيب عن هذا السؤال الخلاف الذي تبدأ به الرّواية بين جيل الشّيوخ الذين يتمسّكون بواحتهم، وجيل الشّباب الذين يريدون أن ينطلقوا إلى أرض جديدة،  وتكون النّتيجة أنّ القبيلة في النّهاية تهجر أرضها وتعيش في مكان آخر، فمن طبيعة العربيّ التنقّل رغم حبّه لأرضه وتمسّكه بها، لكنّه قد يغادرها إذا نفد الكلأ ونضب الماء أو أحسّ بالخطر على حياته.  وكما أنّ هناك صراعا بين الأجيال، فإنّ هناك صراعا بين العربيّ الذي يرتبط بوطنه، ويتمسّك بأرضه وذاك الذي تشدّه جذور البداوة؛ فيغادر أرضه عند أوّل شعور بالخطر. فهل هذا يفسّر ضعف ارتباط بعض العرب بأرضهم وتخلّيهم عنها لعدوّهم رغم تغنّيهم الدّائم بحبّ الوطن.

وسوم: العدد 643