الدكتور محمد عادل الهاشمي في ذمة الله ... مَعْلمٌ على طريق الدعوة

في وداع الراحلين :

clip_image002_e9dbc.jpg

يوم أمس بلغ الكتابُ أجلَه ، ونفذ قضاء الله الذي لا راد له ، وتلقينا النبأ الفاجع بوفاة الأخ الداعية المفكر الأريب  الأديب الدكتور محمد عادل الهاشمي رحمه الله تعالى ، وتقبله في عليين .

وإذا كنتَ ممن عرف الراحل الحبيب في منزله الجميل في مدينة حلب ثم أتيح لك أن تتابع الرجل الهمام اللين الذي لا يلين في حله وترحاله بين الجامعات ، معلما ومربيا وناصحا لأدركت بحق معنى قول القائل :

وألقت عصاها ، واستقرت بها النوى ...كما قرّ عينا بالإياب المسافر

اللهم اجعل أوبة أخينا أبي النضر إليك أوبة مسافر يقدم على أهله . اللهم واجعل ملائكة رحمتك وأنسك تستقبله كأجمل ما كان يستقبلنا إذ نطرق به ونحن فتية صغار ، في ساعات الليل والنهار . ولا ينس إذ يودعنا أن يكرر الوصية ( تفضلوا علينا ) تصحيحا لما شاع على ألسنة أهل حلب ، اللهم إن أخانا وأستاذنا قد وفد عليك فتفضل بفضلك ورحمتك ورضوانك اليوم عليه ..

يفجعنا الموت ، ونحن بنو الموتى ، وفجيعة الموت بالكبار الكبار ممن جمع إلى العلم الحكمة واللطف والأنس مثل أبي النضر أشد وأكبر ؛ فما أشد فجيعة الموت ، وهو حق ، حين تنزل في الرجال ، في زمن عز فيه الرجال :

وإذا أتَتك مصيبة تَشجى لها .. فاذكر مصابك بالنبي محمد

اللهم اجبر كسر قلوبنا ، وعوض أمتنا وشعبنا وجماعتنا فيمن تفقد من رجالها خيرا .

يختصر الأخ الراحل الداعية المفكر الأديب الإنسان الأنموذجَ العمليَ الواقعي المثالي للأخ المسلم في جماعة الإخوان المسلمين ، التي كان بحق قائدا من قادتها ، ومَعْلما ومُعلّما لأجيالها . وحين ننعى اليوم بهذه الكلمات الأخ الداعية فإننا نقطع بالرجل الأنموذج الكثير من تخرصات المتخرصين ، وادعاءات المدعين ، نقطع كل التخرصات والادعاءات ليس بالكلمات المنمقة المرصوفة ، وإنما نقطعها بشهادة الواقع التي كان أخونا محمد عادل الهاشمي رحمه الله تعالى أحد النماذج الحية في هذه الجماعة التي قام بحقها .

لقد تأسست جماعة الإخوان المسلمين في سورية على كواهل نخبة متقدمة من رجالات المجتمع السوري جمعها حب الخير ، والدعوة إليه ، وكان الرابط الأول بين أفرادها العلم والتنوير والإحساس بالمسئولية ، والشفقة على أحوال الناس.

فحين تذكر النخبة السورية التي أخذت على عاتقها أمر تأسيس هذه الجماعة المباركة فسوف يقترن في سياق واحد رجال كرام منهم : الدكتور مصطفى السباعي والدكتور محمد المبارك والأستاذ عصام العطار والشيخ محمد الحامد والشيخ عبد الفتاح أبو غدة ثم الدكتور حسن هويدي والأخ الأستاذ أمين يكن والدكتور علي الهاشمي والدكتور محمد عادل الهاشمي الذي نكتب هذه الكلمة وفاء لذكراه .. نخبة كريمة متميزة يعترف كل من عرفها بفضلها حتى لتنشد :

قوم كرام السجايا حيثما جلسوا ..يبقى المكان على آثارهم عطرا

وكان الأخ الراحل رحمه الله تعالى أحد النماذج الحية الشهود لهذه الجماعة المباركة ، بعلمه وفقهه وفكره وسلوكه وأدبه و تعامله مع الناس أجمعين . وما أقل من يدرك في هذا الزمان الفرق بين الرجل يكون شاهدا لقومه والآخر يكون شاهدا عليهم ؟! ربنا لا تجعلنا فتنة لا لكافر ولا لمؤمن .

ويبدو أخونا أبو النضر ، رحمه الله تعالى ، لمن قاربه أو خالطه ، قواما من وداعة و لطف ورقة معشر وخفض صوت وقلة كلام حتى إذا دقت ساعة الحق وجد الجد ، استشعر كل من حوله أن ذلك الإهاب قد ملئ عزيمة وجلدا وقوة وصبر ومصابرة ودأبا وإحساسا بالمسئولية ..

وكان من أمره رحمه الله تعالى أنه تأخر في خروجه من البلد بعد أن قام نظام البعث الطائفي بالتضييق على كل الرجال الأحرار ، فغادر سورية رجالها أرسالا ، كل بعد أن شعر أن دائرة الفتنة قد أحاطت به .  وأحكم الحصار حول الجماعة – جماعة الإخوان المسلمين - و بالملاحقة الثانية للأخ أمين يكن رحمه الله تعلى غاب أو غيّب الكثيرون  حتى قيل  : خلت الديار أو كاد..

"خلت الديار " أزمة أو مأساة يفرح بها ويعمل عليه الصغار ، ليقال لواحدهم : خلا لك الجو فبيضي واصفري ..وإنما الكبار الكبار هم الذين يدركون معنى أن يقال :

خلت الديار ، فسدت غير مسود ...ومن العناء تفردي بالسؤدد

نعم خلت الديار ، ووقع العبء في محافظة حلب على كاهل أخينا أبي النضر رحمه الله تعالى ، ومع إدراكه لحجم العبء ، وطبيعة التحدي ، وأبعاده ، فقد قرر " الرجل " أن يتحمل التبعة ، فثبت  رحمه الله تعالى ، على ثغرته ، يقوم على أمر إخوانه رعاية وإرشادا ومتابعة ، حتى ضيقت عليه العين الحمراء ، فغادر بيته مكان إقامته وسكنه ، وتوارى عن أنظار الظالمين شهورا طوالا ، يتحمل مسئولياته الدعوية كاملة ، يطوف على إخوانه مثبتا وملهما ومشجعا . يغشاهم في مجالسهم على ما هو في من ملاحقة ومتابعة ،يدخل على إخوانه مرة بزي رجل من أهل الريف فلا يكادون يتبينونه ، وأخرى في زي عامل ببدلة زرقاء ملطخة بغبار المهنة  ..

وظل الرجل اللطيف الوديع قائما على ثغرته ، يغدو ويروح ، حتى اطمئن أنه ترك الأمانة بيد جيل آخر من الرجال . وقيل قد ضاق الخناق فلم يعد إلى البقاء سبيل.

ولو يعلم الطغاة أي جناية يجنونها على أنفسهم وعلى من حولهم بمطاردة جيل القادة من العلماء والحكماء ، لعضوا أصابع الندم ..

أخرج الأخ ( أبو النضر ) من وطنه ، ولكن وطنه لم يخرج منه . وقضية دعوته وأمته ظلت همه الأول . يحمل المسئولية ويؤديها بالكلمة المرشدة . كان رحمه الله تعالى من السابقين إلى طرح عنوان ( الأدب الإسلامي ) . وكان فهم الرجل الأديب الأريب للأدب الإسلامي أنه الأدب الذي يعبر عن الكون والحياة والإنسان برؤية متسقة مع التصور الإسلامي الأصيل ، وليس كما حاول أن يختزله البعض في شعر المواعظ والمآثر..

رحم الله أخانا أبا النضر وأحسن نزله ، وغفر ذنبه ، وعوض المسلمين والسوريين في مصيبتهم خيرا ..

وعزاؤنا إلى أسرة أخينا الحبيب أنجاله وبناته وعموم آل الهاشمي الكرام .وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 770