الأخ والحبيب محمد هدى قاطرجي رحمه الله تعالى

مرَّ عام على فراقك أيها الأخ الحبيب ..

عام وأبو أسعد في رحاب الله ، وفي الفردوس الأعلى ، برحمة الله وعفوه وفضله ورضوانه .

وقبلها أربع سنوات عجاف ، حال الظالمون دون اللقاء بك ، أيها الأخ الأثير ..

واليوم تنثال على الخاطر الذكريات ، في لحظة صفاء من ليلة السابع والعشرين من رمضان المبارك وأنا سارح في لحظات تأمل فيما نحن فيه من بأساء وضراء ، في غربة قاتلة شارفت ستاً وثلاثين سنة .. نعم أمضينا ستاً وثلاثين سنة قاسية في بلاد الله الواسعة ، منها اثنتان وثلاثون سنة بلا جواز سفر ، زوجت خلالها البنات والبنين ، ورزقني الله خمسة وثلاثين حفيداً وحفيدة ، كانوا ومازالوا وسيبقون ، بعون الله الرحمن الرحيم ، جنتي في نار الغربة ، وواحتي في صحرائها ، وكنا ـ أنت وأنا ـ شركاء في حفيدتين وحفيدين ، هم زهرات في دنيانا التي فارقتها ، كما غادرها أكثر من مئة أخ حبيب ، وما أظنهم نادمين على فراقها ، فأنتم في ضيافة أكرم الكرماء ، وأرحم الرحماء ، عزَّ وجلَّ من كريم رحيم .

أتذكرك وأنت شاب يافع ، وطالب مجد في جامعة حلب ، ومن شعراء كلية الآداب ، ومن أدبائها ، وأتذكر يوم تخرجك ، ولا أتذكر أن الفرحة بالنجاح استخفتك ، بل جعلك التخرج تحسّ بأن أعباء جديدة سوف تضاف إلى أعبائك الحياتية والدعوية .

وأسمعك الآن الآن الآن تهمس في جلسة أخوية في بيتي بحلب الشهباء ـ سقى الله أيام حلب ولياليها ، ما كان أحيلاها ـ همست ببعض أبيات من شعرك الرقيق ، ورأيتُ بوادر دمعات تعلق بأهداب عينيك الحالمتين .. ثم أتبعتَ آبياتك بكلمات حييات ، تستأذن للسفر إلى الكويت للعمل فيها .

وسافرت أو سافر شبحك ، وبقيت روحك ، عذوبتك ، عذاباتك ، أخوّتك ، كل شيء طيب فيك ، تركته لنا في حلب .. هكذا كنت أحس ، ولكني وجدتك في أول زيارة لي إلى الكويت ، أنك تحيا حياتك الإخوانية الطيبة ، مع لفيف من لداتك وإخوانك وزملائك في العمل ، وأنت تمارس تدريس اللغة العربية ، وتمارس الصحافة ، وتعمل مديراً لتحرير مجلة المجتمع الرائعة .

واستقرّ بك المقام ـ يا أخي يا أبا أسعد ـ في مكة المكرمة ، موظفاً في رابطة الأدب الإسلامي ، وبذلتَ ما بذلتَ في الرابطة العتيدة ، وازداد باب بيتك وغرفه اتساعاً ، فلا يكاد الباب يُغلق في وجوه الأضياف من الحجاج والمعتمرين ، وكذلك مكتبتك في الرابطة لم يكن يهدأ ، إلا في الأسفار إلى كل مكان فيه مسلمون يحتاجون للمساعدة والزيارة .

ولقد زرت مدينة عمّان المحروسة مع الأمين العام للرابطة والوفد المرافق له ، وزرتني في بيتي ، وسهرنا وطال بنا السهر ، وفي الغد كانت زيارتكم لمخيم الزعتري والمخيمات الأخرى ، وواسيتم الكرام الذين شرّدهمالظالمون الحاقدون من الأعراب الذين اغتصبوا السلطة في سورية ، ونهبوها ، وأذلّوا أهلها ، وقد حدثتني عن زيارتكم هذه ، بكلمات مخنوقة ، وعيون تفيض من الدمع من شدة التأثر ..

وحدثني عما جرى ويجري في حلب من مآسٍ سوف تبقى وصمة عار في جبين الإنسانية ، وليس بشار ابن أبوه وأهله وأتباعه السائرون في ركابه ، ومؤيدوه ومساعدوه ومعينوه في الداخل والخارج من البشر ، وكيف أن كرام الناس صاروا يتكففون الناس ، وكيف أحرق النظام الملعون بعض أسواق حلب القديمة ، وصار أصحابها من كرام التجار ، فقراء يجمعون لهم الإعانات والمساعدات ، ويرسلونها إليهم ..

كنت تتحدث ـ يا أخي يا أبا أسعد ـ بحزن عميق ، ولكن أملك في النصر على بشار وشبيحته ومليشياته يملأ لبّك ، وكنت تعجب من أتباع أولئك المجرمين ، من أبناء حلب ، وتبدي شكك بإيمانهم ، وعروبتهم ، فهم ليسوا سوريين ، ولا حلبيين ، ولا مسلمين ، ولو كانوا من أصحاب اللحى الطويلة ، والكروش المديدة ، ولو كانوا من الوعاظ ، والمشايخ ، وسواهم من أصحاب المظاهر الدينية الشكلية .

كانت سهرة حزينة ، لم تذق فيها إلا الشاي والقهوة ، وعافت نفسك كل شيء قُدِّم إليك .

وكانت آخر جلسة معك ، أيها الأخ النبيل الطيب .

وفي عملك في الرابطة ، حاولتَ وبذلتَ جهوداً كبيرة ، في دعوتي إلى الحج ، سنتين كاملتين ، ولكن الأشرار حالوا دون اللقاء ، واكتفينا بالهاتف ، وسؤال الركبان ، ولقاء الأرواح في الأسحار ، وعلى صفحات الأثير ، وأنت تكتم عني مرضك ، فلم أعلم به إلا قبيل رحيلك عن دنيانا الضاجّة بالآلام والفواجع والكوارث ، على أيدي الحثالات والأوباش .

***

لم أتكلم شيئاً عنك يا أخي .. عن ذكرياتنا في حلب ، وفي الكويت ، وفي مكة المكرمة .. عن شهامتك في مساعدة المستضعفين والمعذّبين في بلدنا الحبيب ، وحيث كان معذبون في الأرض .

***

أكتب هذه الآهات ، ونحن في الأيام الأخيرة من رمضان الكريم .. أكتبها بلسان حالي ، وقلبي ، وحسراتي على بلدي الذي صار ـ ركاماً على أيدي الأغراب القادمين من المجهول .. أيدي من لا يعرف لهم أب واحد ، بل آباء .. من سفلة السفلة ، من رواد الحانات وأشباهها .. جاؤوا من الجيل الغارق بالآثام .. ومن الضاحية الجنوبية المعروفة (بالعفة والشهامة ورد الجميل) ومن العراق الجريح ، ومن روسيا مصدِّرة (العفيفات) إلى أصقاع الأرض ، حيث يكون طعام وفراش ومال .. من إيران أمّ الخبائث .. من كوريا وأفغانستان وباكستان واليمن التعيس بحوثييه .. بالمرتزقة الأفاقين ..

لا .. لم أشبعهم سبّاً ، ولم ولن يعودوا بالإبل .

***

نم قرير العين يا أخي ، فأبطال سورية بالمرصاد لكل أولئك الأوباش ، وستكون الأرض السورية مقابرهم .. لهم جميعاً .

رحمك الله رحمة واسعة يا أبا أسعد ، والملتقى في جنات عدن .. في الفراديس العلا أيها المجاهد الصامت الذي كان يصل ليله بنهاره في العمل من أجل عروبتك وإسلامك ، من أجل حلبك وشعبك .

أبا أسعد ..

السلام عليك في الخالدين .

وسوم: العدد 933