رسالة للبابا من مفكر مسيحي فلسطيني

د. منير فاشة

د. منير فاشة *

اكتب إليك كفلسطيني مسيحي. متى أصبحت مسيحياً؟ منذ الأيام التي وطئت فيها قدما يسوع أرض فلسطين، إذ أنني انتمي إلى المجتمع المسيحي الأصيل الوحيد في العالم، ما يجعلنا مجتمعاً مميزاً وفريداً جداً. فلو سألت، على سبيل المثال، أمي (التي لم تعرف القراءة والكتابة) عما قاله يسوع، لن يكون بمقدورها أن تسرد أي شيء آخر غير "ليحب بعضكم بعضاً"، إلا أنها جسدت بشكل جميل ورائع روح المسيح في حياتها. كيف حصلت على معرفتها وكيف جسدت روحه؟ هذا بالضبط ما اقصده بالانتماء إلى مجتمع مميز وفريد هو المجتمع الفلسطيني المسيحي. فهي لم تعرف عن المسيح من خلال كلمات ونصوص ومبشرين، ولكن من خلال روح المسيح كما حملت في قلوب الناس، وتجلت في طرق عيشهم، ونقلت بالتالي من جيل إلى آخر منذ أن سار يسوع على هذه الأرض. أنا احد الناس الأواخر الذين يعايشون بالخبرة هذه الروح. فنحن خاصون وفريدون لأننا حالما نختفي كمجتمع لن يكون بالإمكان إعادة خلقه من جديد. فالمجتمعات، عكس المنظمات، لا تتكون نتيجة العقل، ولا يمكن خلقها عبر تخطيط مهنيين ومؤسسات وميزانيات، إذ أنها تحتاج حتى تشكل إلى الاف السنين.

بعبارة أخرى، إن اندثار المجتمعات الفلسطينية المسيحية هو خسارة لا يمكن تعويضها، ولذلك فهي خسارة كبيرة جداً. لقد كنت محظوظاً لأنني عايشت هذه الروح وشعرت بها وخبرتها في منزلي، لكنني في الوقت نفسه اعتبر نفسي نتاج مؤسسات. لذا، أعرف جيداً الفرق بين مسيحية الناس ومسيحية المؤسسات، فهما عالمان مختلفان تماماً. (كتبت العام 1992 كتيبا صغيراً بالعربية بعنوان "مسيحية أمي ومسيحية الغرب". سأكتب المزيد فيما بعد، في هذه الرسالة، حول كيف تتجسد المسيحية في حياة أناس مثل والديّ). ليس من السهل تحديد الفرق بين مسيحية الناس ومسيحية المؤسسات بواسطة الكلمات، لهذا وددت لو كان بإمكاني أن أدعوك إلى منزلنا في القدس (إذ أن القدس ذات معنى أكبر)، لكنني لا استطيع حيث يحتل بيتنا هناك منذ العام 1948 يهود أوروبيون "ديمقراطيون متمدنون" وعدوا بوطن (الذي شمل منزلنا في القدس) من جانب بريطانيا "المتمدنة الديمقراطية المسيحية" ولعل ما يثير الاهتمام بالنسبة لمنزلنا في القدس (حيث ولدت) كونه يقع في منتصف الطريق بين المكان الذي ولد فيه يسوع، والمكان الذي دفن فيه.

بيتنا في رام الله متواضع، لكنك سترى بأم عينيك ما أعنيه بمسيحية الناس. سوف تلتقي بأخواتي اللواتي ما زلن يحملن في قلوبهن وفي علاقاتهن مع الناس روح المسيح التي أتحدث عنها هنا.

آمل من كل قلبي، من أجل هذا العالم، أن تقبل دعوتي.

المجتمعات الفلسطينية المسيحية تختفي بسرعة ، فنحن معرضون للزوال ، لقد بدأ اختفاؤنا عندما أنشئت إسرائيل العام 1948 بمساعدة بريطانيا "المسيحية"، والولايات المتحدة التي لا تزال تدعم إسرائيل لطرد المزيد من الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين من أراضيهم وبيوتهم في فلسطين.

هناك حالياً بعض العائلات المسيحية المشتتة في القدس، لكن لا يوجد مجتمع مسيحي في القدس. أشعر بهذه الخسارة من منطلق شخصي جداً، فهي تؤلمني كجرح عميق ، لأنني أعرف كم هي جميلة روح هذه المجتمعات، ولأنني أعرف أنها لن تعود أبداً. تعكس هذه الروح عالماً خاصاً يختفي بأكمله، عالماً يبدو أنك لا تدرك قيمة ما يميزه، ولا تعرف عنه شيئاً. وعلى الرغم من أن المجتمعات المسيحية تختفي في فلسطين، فإنه منذ فترة، تشكلت مجموعات فلسطينية مسيحية تحاول أن توصل صوتها إلى المهتمين في مختلف أنحاء العالم. وتشكل هذه المجموعات مصدراً ربما يلي المجتمعات في الأهمية بالنسبة لكيفية إدراك المسيحيين الفلسطينيين للعالم ولأنفسهم في العالم عن طريق محاولة الحفاظ على روح يسوع حية في طرق عيشهم وعلاقاتهم. وسوف أذكر هنا اثنتين من هذه المجموعات في حال قررت أن تطلع على الموقعين الالكترونيين الخاصين بهما: سبيل (في القدس) ودار الندوة (في بيت لحم).

منذ إن كنت طفلا صغيراً (أنا الآن في الخامسة والستين من عمري)، كنت استمع إلى المبشرين وبخاصة من بريطانيا والولايات المتحدة. أنا أعرف المبشرين الذين أتوا إلى فلسطين جيداً. وأولئك الذين التقيتهم أرادوا أن يفعلوا شيئاًَ حسناً، لكن يبدو إنهم مسجونون في إطار الكلمات والمعاني والمفاهيم والادراكات التي اكتسبوها في بلادهم. لم التق بمبشر، على سبيل المثال، كان مهتماً في معرفة المسيحية، كما تجلت في طريقة حياة والديّ! يبدو أنهم لم يعوا إنها كانت ذات خصوصية مميزة، ومختلفة بشكل جذري عن المسيحية في أماكن أخرى. ولأن المسيحية الغربية مرئية من خلال مؤسسات وكلمات ورموز وصور، فقد كان من الصعب رؤية مسيحية والديّ التي كانت جزءا من حياة الناس، ولم يكن بالإمكان تجسيدها في كلمات. ربما اعتقد المبشرون أن مسيحية والديّ ذات نوعية اقل قيمة وأهمية. لم يحصل أن التقيت بمبشر جاء إلى فلسطين ليتعلم من هذا المجتمع المميز والفريد؛ كلهم أتوا ليعظونا، ويحولونا إلى طوائفهم الخاصة بهم. لقد أدهشني دوما مقدار الصعوبة التي يظهر أن الأوروبيين والأميركيين يجدونها في التعلم من الثقافات الأخرى. وما يشار إليه ب"دراسات مناطق" في الجامعات الغربية (مثل دراسات الشرق الأوسط)، لا يشير عموما إلى التعلم من وإنما عن الثقافات الأخرى، وعادة بهدف السيطرة. وربما يوضح ذلك لماذا يصعب على الغربيين (الذين يعيشون وفق النهج الفرداني والاستهلاكي كسمات رئيسية في الحياة) فهم معنى "مجتمع" في السياق الذي خبرته أثناء نموي. أنهم يروننا كمسيحيين أو مسلمين، وليس كمجتمعات تضم كليهما (وضمت أيضاً يهودا قبل العام 1948) يعيشون ضمن علاقات منسجمة. إن دعوة "الحرب على الإرهاب"، بالنسبة لي، هي دعوة للتغطية على حرب أعمق: الحرب على المجتمعات. فالناس يتغذون من مجتمعات، لكنهم يخضعون لسيطرة مؤسسات. ومصدر التغذية هذا فُقِد منذ العام 1948، ويعاني من اندثار متزايد.

إن الفرضية التي تقول إن المرء يستطيع ان يفهم عالما آخر من خلال كلمات ومفاهيم هي إحدى خرافات العالم الحديث، حيث يعتقد ان المعرفة يمكن تجسيدها دوما في كلمات يمكن نقل المعرفة عن طريقها. وينطبق هذا على معرفة الغربيين عن الإسلام، من خلال كلمات وصور بشكل رئيسي. فالعقول التي تتشكل عن طريق نصوص وصور تكون محدودة، فالكلمات والصور لا تعبر عن الواقع، فحتى يفهم المرء عالما آخر، عليه أن يجربه ويختبره؛ أي أن يدخله دون مفاهيم وأفكار مسبقة.

في المحاضرة التي قدمتَها في ألمانيا، اقتبست بلا محددات وبطريقة وكأنك موافق، كلمات للإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني تعود إلى القرن الرابع عشر: "أرني ما الجديد الذي أتى به محمد، وسوف تجد فقط ما هو شرير وغير إنساني مثل أمره لنشر الإيمان الذي بشر به بالسيف" ربما يجد المرء عذراً لمانويل الثاني لقوله ذلك، لأنه لم يعرف ما هو أفضل منه، لكن هذا غير صحيح بالنسبة لك، وبخاصة في ضوء ما يجري في العالم في الوقت الذي أعدت فيه ذكر تلك العبارة. إن الفشل في رؤية أربعة حروب دموية ووحشية ومدمرة في الوقت الراهن تشنها دول "مسيحية" و"يهودية" ضد الشعوب والمجتمعات الإسلامية، وبدلاً من ذلك، رؤية عبارة مليئة بالجهل والكراهية قالها إمبراطور قبل أكثر من 600 سنة هو أمر غير مفهوم، في اقل تقدير. كذلك، فان الفشل في رؤية أن هناك احتلالاً عسكرياً إسرائيلياً طوال عقود عدة، وكيف تقوم إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي في الواقع بتجويع شعب بأكمله في غزة، وبدلاً من ذلك، تعيد عبارة قبيحة وخاطئة، يعني جر الكنيسة بعيدا عن هذا العالم وجعلها غير مرتبطة بأولئك الذين يعانون. فالجرائم في غزة هي من صنع الدولة "اليهودية" بدعم كامل من دولة "مسيحية" هي الولايات المتحدة، وكندا، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا. رجاء اقرأ ما قاله السيد جون دوغارد المبعوث الخاص للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان في فلسطين، الذي أرسل مؤخراً على رأس بعثة لتقصي الحقائق في غزة. لقد قال ان إسرائيل يقع عليها اللوم إلى حد كبير لتحويلها غزة ال "سجن" و "رمي مفتاح السجن" كذلك، قال: "إسرائيل تتجاوز القانون الدولي كما فسره مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، وتمضي بغير عقاب، في حين يتعرض الشعب الفلسطيني إلى عقوبات اقتصادية – وهذه هي المرة الأولى التي يعامل فيها شعب محتل بهذه الطريقة ". كما انتقد كندا، وأوروبا، والولايات المتحدة، بسبب الوضع المتدهور في غزة، وهو وضع نشأ عن "الغارات العسكرية الإسرائيلية، والحصار، وعمليات الهدم ... آمل أن يزعج وصفي ضمائر أولئك الذين اعتادوا على غض الطرف وصم الآذان أمام معاناة الشعب الفلسطيني". (من الجدير بالذكر أن السيد دوغارد مواطن جنوب إفريقي حظي بسمعته كمحامي حقوق مدنية خلال فترة سيادة الفصل العنصري في الثمانينات). لستَ مضطراً حتى لتصديق كلمات السيد دوغارد، حيث يمكنك أن تذهب وترى بأم عينيك الدمار والمعاناة الهائلين اللذين ابتلي بهما الشعب في غزة (وسيكون من المجدي لك أن تواصل الرحلة، وتزور العراق، وأفغانستان، ولبنان). فعندما تكون المزاعم على النقيض تماما لما يحدث على الأرض، عندئذ يخدع المرء نفسه والآخرين باستثناء أولئك الذين يعانون. من الممكن أن يخدع المرء الأساتذة والطلاب في الجامعات، ولكن لا يمكن خداع أولئك الذين يروا مجتمعاتهم وهي تدمر وتتفتت من خلال الأسلحة "الذكية". فخلال المائتي سنة الماضي، لم يكن ثمة دولة عربية أو إسلامية في المنطقة لم تتعرض للقصف؛ سواء من جانب جيوش "مسيحية" أم "يهودية". ولعل غض الطرف عن ذلك، والبحث عن مقولة كتلك التي اقتبستها، يحتاجان إلى كثير من التفسير. إن تفسير ذلك على أن الغرض منه فتح حوار حول الموضوع، ما هو إلا إضافة اهانة إلى الجرح كما يعكس قلة احترام لذكاء الناس. ويذكرنا هذا بكلمات جاءت على لسان "بلاك هوك" أحد زعماء السكان الأصليين في أمريكا ( العام 1832): "كم هي رقيقة لغة البيض، عندما يستطيعون جعل الصحيح يبدو خاطئاً والخطأ يبدو صحيحاً".

ربما لأنك لم تعش أبدا تحت احتلال عسكري، فإن كلمة "احتلال" لا تعني الكثير بالنسبة لك، إنها كلمة في الأخبار. لقد عشت تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي معظم سنوات عمري. وعندما يتحدث الناس في الغرب عن "الإرهاب" و"انعدام الأمن" كما لو أنهما ظاهرة جديدة، فانه من الواضح أنهم جاهلون تماما بمدى الإرهاب وانعدام الأمن اللذين تسببت بهما بلادهم لسكان خمس قارات على مدى خمسة قرون، وبلغ الإرهاب في أحيان إلى درجة محو حضارات بأكملها! فاحتلال العراق هو نوع آخر من ال "هولوكوست" مع الاختلاف أنه يتم حرق الناس في بيوتهم بالأسلحة الذكية بدلاً من حرقهم في أفران!

هناك قول مأثور يقول "إذا كان بيتك من زجاج، لا ترم الآخرين بالحجارة ". وتاريخ الدول والمنظمات الغربية يجعل رميَ الآخرين بالحجارة أمراً لا حكمة فيه. وما هو أكثر إزعاجا لي هو أن ما قلته في ألمانيا يتناقص مع أقوال المسيح كما أعرفها وافهمها. ومن أقوال المسيح التي ألهمتني دوما: "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟ كيف يمكنك ان تقول لأخيك "دعني اخرج القذى من عينك" بينما الخشبة في عينك؟ يا مرائي اخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيدا لتخرج القذى من عين أخيك" (متى 7 : 5-3). كم كنت أتمنى لو انك اتبعت حكمة يسوع وقلت بأنك تريد أن تحاول إزالة الخشب من عيون المسيحيين، آملاً بان يفعل الآخرون الشيء نفسه، ويزيلون الخشب من عيونهم، وبالتالي نستطيع جميعاً أن نرى بعضنا على نحو أوضح وأكثر إنسانية. كان سيخلق ذلك حواراً من نوع مختلف، وأكثر انسجاما مع رسالة المسيح وروحه. كنت آمل أيضا لو انك اتبعت مثال المسيح وقلت إنه لو بقي المسيحيون صامتين في وجه ما يجري للشعوب في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان، عندئذ سوف تصرخ الحجارة. إن محاولة إسكات الفلسطينيين واللبنانيين مماثلة لقضية الفريسيين الذين ارداوا أن يسكتوا تلاميذ المسيح بالطلب منه "يا معلم انتهر تلاميذك". فأجاب وقال لهم: "أقول لكم انه إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ (لوقا 40،39،19). وثمة قول ثالث للمسيح ذو صلة، واشعر أن قولك لم يكن منسجماً معه ألا وهو: "لا تُدينوا لكي لا تدانوا. لأنكم بالدينونة التي بها تُدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (متى7: 1-2).

والقصة التالية من السكان الأصليين في أمريكا ذات صلة بالموضوع أيضا. "قد ابلغ جدَّ حفيده بأنه يوجد في داخل كل منا ذئبان يتقاتلان: ذئب الخوف والكراهية وذئب الحب والسلام. سأل الحفيد: "أي ذئب سيفوز؟". أجاب الجد: "من نقوم بإطعامه وتغذيته". انه لمن سوء الحظ عزيزي الباب، انك اخترت ان تطعم ذئب الكراهية والجشع . ويبدو ذلك متطابقاً مع ما جرى خلال القرون الخمسة الماضية . فعندما سارع الناس لتحية كولومبوس وصحبه بالحب والسلام والأذرع المفتوحة والكرم، كتب كولومبوس رداً على ذلك بقوله: "إن تصرّفهم يدّل على إمكانية أن يكونوا خدما جيدين ، فمن خلال خمسين رجلاً يمكننا إخضاعهم جميعا وان نجعلهم يفعلون ما نريد"! وكتب بعد ذلك يقول: "وهكذا فان إلهنا الأزلي ربنا، يمنح النصر لأولئك الذين يتبعون طريقه في مواجهة المستحيلات"! كان الأمريكيون الأصليون يغذون ذئب الحب والسلام، أما الأوروبيون فقد غذوا ذئب الدمار والكراهية. (ربما يكون من المناسب أن تقرأ ما كتبه احد الأخوة الدومينيكانيين، بارتوليمو دي لاكاساس، العام 1542 كوصف لما جرى). تمنيت لو أنك أطعمت في كلمتك ذئب الحب والسلام. أقول هذا لأن نتيجة ما قلته سوف يؤدي إلى إيذاء المسيحيين في المنطقة أكثر من أي مجموعة أخرى. ربما يكون لكلماتك صدى أكاديمي، بحيث لا تكون مؤذية لبعض السامعين، لكنها بالنسبة لنا ستترك أثراً مماثلاً لما فعله الصليبيون الأوائل. فقبل ألف سنة، تسبب أسلافك بالأذى الجسيم لوجودنا في المنطقة. واليوم يبدو أنك تفعل الشيء نفسه. وفي المستقبل غير البعيد، إذا قمت بزيارة للقدس، ربما تضطر إلى إحضار بعض المسيحيين معك إذا كنت مهتماً بوجود من يستمع إليك في الكنائس، لأن القدس ستكون فارغة من المسيحيين!.

عندما جاء المسلمون إلى القدس، لم يُقتل شخص واحد فيها، ولم يضطر احد للتحول عن ديانته. وحتى خلال فترة الحملات الصليبية بقيت غالبية السكان في سوريا الكبرى على مسيحيتها. لم تكن هناك محاولات لإجبار الناس على التحول للديانة الإسلامية. فوصية مركزية في الإسلام هي: "لا إكراه في الدين". وإذا كانت بعض المجموعات تتجاوز هذه الوصية، وتحاول أن تفرض الإسلام على الآخرين، فهذا مخالف لأصول الدين، وهو شبيه بما يقوم به بعض المسيحيين في مخالفة أصول المسيحية. وكما تقول كارين ارمسترونغ: "حتى القرن العشرين كان الإسلام أكثر تسامحاً ومسالماً من المسيحية. فالقرآن يمنع بصرامة أي إكراه في الدين، ويعتبر كل الأديان مصدرها الله،، وعلى الرغم من الاعتقاد السائد في الغرب، لم يفرض المسلمون عقيدتهم بالسيف ... أما التطرف وعدم التسامح اللذان سادا في العالم الإسلامي في يومنا هذا، فهما رد فعل على المشكلات السياسية المستحكمة، مثل النفط، وفلسطين، واحتلال أراضي المسلمين ... و"المعايير المزدوجة" في الغرب، وليس انعكاساً لنزعة دينية متأصلة .. إذا نظرنا إلى العنف في العراق وفلسطين ولبنان، الذي نتحمل قسطاً من مسؤوليته، هناك ما يغري بإلقاء اللوم كله على "الإسلام". إذا كنا نغذي التعصب لدينا بهذه الطريقة، فإننا نعرض أنفسنا للخطر. فالعالم الإسلامي الذي تحتل بعض بلدانه جيوش غريبة ليس بحاجة إلى تذكيره بلغة الصليبيين. ففي عالم يعاني من التآكل البيئي والفقر والجوع والقمع، يختار البابا أن يهين مؤسس عقيدة أخرى".

لم يكن المسيح إلى جانب المسيحيين ضد الآخرين، بل إلى جانب الناس ضد أولئك الذين كانوا يقمعون الناس ويسلبون ما لديهم. ومع أن النزاعات تأخذ أحيانا أشكالا تبدو وكأنها بين مسيحيين ومسلمين او بين مسلمين ويهود، أو أي شكل آخر، فان النزاع الحقيقي عبر التاريخ كان بين الناس والمجتمعات من جهة، وأولئك الذين يريدون الهيمنة عليهم من جهة أخرى. ولعل الحديث عن صراع الحضارات أو حتى الحوار بين الحضارات ما هو إلا إلهاء عن المشكلة الحقيقية . فالقضية الجوهرية هي الاختيار بين أن تكون إلى جانب قيصر أو إلى جانب الناس، بين الناس والمجتمعات من جهة، والقوة والسيطرة والفوز والجشع من جهة أخرى. قال يسوع: "إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" (متى 19 :24). فأولئك الذين خدعوا بحيث أصبحوا يفكرون انه صدام ديانات أو حضارات، يجب أن ينظروا بعناية أكبر: القوى التي تحاول سحق الإسلام اليوم كانت تسحق نيكاراغوا في الثمانينيات، وهي بلد الأغلبية الساحقة فيه ليست مسيحية فحسب، بل كاثوليكية أيضاً! وقبل ذلك، تم تدمير المنطقة الواقعة ضمن جنوب شرق آسيا (لاوس، كمبوديا، فيتنام وغيرها) ذات الأغلبية البوذية على يد القياصرة أنفسهم. وقبل ذلك بكثير أبيد سكان ثلاث قارات وحضاراتها بشكل كامل تقريبا (ولم يكونوا إلا شيوعيين ولا مسلمين) فالهجوم هو على الشعوب والمجتمعات، وليس على دين او مجموعة معينة، على الرغم من أنه يأخذ هذا الشكل أحياناً. إن رسالة يسوع الجوهرية هي "ليحب بعضكم بعضاً". وقد قالها لكل الناس وليس للمسيحيين فحسب. وعندما كان على الصليب، طلب من الله أن يغفر للجندي الذي كان يطعنه بالسكين، لكن موقفه كان مختلفا اتجاه المرابين في المعبد، حيث تناول سوطاً وطردهم إلى الخارج. بالنسبة لي، إن المغزى الأكثر ثباتا لرسالة يسوع أنه اختار على الدوام أن يكون إلى جانب الناس. وكان ذلك هاجسا عبر عنه بطرق عديدة: أحبوا بعضكم بعضاً؛ أحبوا أعداءكم؛ إذا قلت بأنك تحب الله، ولكنك تكره جارك فأنت كاذب؛ انظر وقوّم ما هو خطأ فيك قبل أن تشير إلى الخطأ لدى الآخرين؛ إذا ضربك احد على خدك، أدر له الآخر؛ من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر، ... وهكذا. لهذا السبب بالضبط، أدين المسيح من جانب كل القوى في زمنه؛ سواء القوى المحلية أم البعيدة. نحن لا نعرف عن قوة واحدة في زمنه لم تشأ أن تراه مقتولاً. وهذا هو الحال في يومنا هذا، فمن يقف إلى جانب الشعوب يدان من كل القوى كما رأينا في حالة لبنان. باختصار، ببساطة، وبشكل ملموس، كانت القضية بالنسبة ليسوع واضحة: إما أن يختار المرء أن يكون إلى جانب قيصر، وإما إلى جانب الناس. عبارتك، عزيزي البابا بندكيت، كانت، ولسوء الحظ، لصالح قيصر. كنت آمل أن يختار الفاتيكان طريقا معقولا ، فالعالم بحاجة إلى أصوات تجلب له الاتزان ، وليس إلى أصوات تدين الضحايا. كنت آمل أن اسمع صوتا مختلفا آتياً من مصدر مسيحي يدعو إلى إنهاء الحروب، وليس إلى تبريرها ومنح الدعم لإثارة مزيد من الحروب – على نحو ما اشعر ما وفره كلامك لكل من بوش وبلير وأولمرت. إن محاولة تفسير كلامك بشكل آخر كما قلت من قبل – إنما يضيف إهانة للجروح التي سببتها هذه الحروب. ومع ذلك، ليس الوقت متأخراً لاغتنام الفرصة الراهنة واستعادة روح المسيح، الذي أعلن عن موعظته على الجبل: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (متى 5: 5).

إن القضية الجوهرية هي الشعوب مقابل القياصرة .فالأسماء تتغير، ولكن المنطق يبقى نفسه. يتركز الهجوم في يومنا هذا على الشعوب العربية والإسلامية، وقبل عقود عدة من الزمن كان منصباً على شعوب أميركا الجنوبية والوسطى وجنوب شرق آسيا والسود في أفريقيا واليهود في أوروبا. وقبل ذلك بكثير كان الهجوم منصباً على شعوب القارات الثلاث (الأميركيتين واستراليا) حيث تمت إبادتهم إبادة شبه كاملة. إن الوقوف إلى جانب الشعوب أمر خطير، كما تثبت قصة المسيح، لكنه الطريقة الوحيدة لاستعادة الإنسانية والمعقولية إلى العالم.

أود أن أتطرق إلى جزء آخر من الاقتباس في خطابك: "أرني ما هو الجديد الذي أتى به محمد ...." فيما يلي سأحاول أن أنقل ما أشعر بأنه من سمات الإسلام على وجه التحديد، وكان له إلهام كبير في حياتي.

المرة الأولى التي وعيت فيها المعنى الحقيقي والروح الحقيقية للجامع كانت خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 – 1991). إذ عندما أغلقت إسرائيل جميع المؤسسات في غزة والضفة الغربية، استعاد الجامع فوراً معناه ووظيفته الأساسين: مساحة عامة ومكان للتجمع (المعنى الحرفي ل "الجامع" في اللغة العربية). فتحويل الجوامع إلى مساحات مفتوحة لكل الناس، تحت سيطرة الناس لا يزال يلهمني كثيراً. لم أمر في حياتي بخبرة أخرى بالنسبة لأية بنية أو بيئة أو إطار اجتماعي (لا جامعات، ولا كنائس، ولا نوادي، ولا جمعيات) كان يشبه ما شعرت به في الجوامع خلال الانتفاضة الأولى. لقد أصبحت الجوامع، بشكل تلقائي ومباشر، أماكن ترحيب التقى فيها الناس من كل الخلفيات والأطياف وأداروا شؤونهم؛ سواء احتاج الناس إلى مكان للتعليم أم الاستشفاء أم إعلام الناس بما يحصل أم العناية بالجرحى أم توزيع الطعام، كانت الجوامع أماكن للقيام بهذه المهام بطريقة طبيعية. في المقابل، لم تتحول الكنائس إلى مثل هذه المساحات، ربما لأن الكنائس تنتمي إلى طوائف وليس إلى الناس.

سمة أخرى تلهمني في الإسلام هي فكرة الاجتهاد، تكريس الجهد لفهم آيات في القرآن في ضوء حياة الإنسان وتجاربه والواقع الذي يعيشه.

إنها تشير إلى حق كل مسلم وواجبه في التحقق من المعاني بشكل مستقل وشخصي، الأمر الذي أرى فيه مبدأ رائعاً في ممارسة التعليم.

أما الإلهام الثالث، فهو الحج، الذي هو تجمع دولي سنوي يجري منذ حوالي 1400 سنة، فالناس غير مدعوين من لجنة منظمة أو سلطة، وإنما من الله شخصياً! لا أحد يحضر مندوباً عن آخر، فكل شخص يمثل نفسه، كما أنه ليس هناك وفود. وبارتداء ملابس متواضعة ومتماثلة، يفقد الناس جميع الإشارات التي تدل على المكان الذي قدموا منه أو على مراتبهم، ويصبحون بالتالي وببساطة، أنفسهم دون ألقاب ومراتب. منذ 1400 سنة تقريباً، يلتقي ملايين الناس كل عام على قدم المساواة ويتفاعلون وبطريقة حرة وصادقة. من الجدير بالذكر إن أول مرة يحدث خلل بهذه الروح كان نتيجة مفاهيم وبنى حديثة، كالمؤسسات، والمنظمات، والحكومات القومية، التي بدأت جميعها تتدخل في حرية تحركات الناس، وتفاعلهم بشكل صادق لا خوف فيه. كم هو مختلف مثل هذا التجمع عما نختبره في المؤتمرات الدولية في العصر الحاضر! كم أود أن يضع منظمو المؤتمرات الدولية جهداً لمحاولة تجسيد هذه الروح في مؤتمراتهم!

سمة أخرى تلهمني في الإسلام، وبخاصة في مواجهة نمط الحياة السائد في عالم اليوم، هي الصلاة الإسلامية، إذ تحرر المرء خمس مرات في اليوم من روتين الحياة المعاصرة، وتربطه بالله والكون وبعالمه الداخلي. توحد الصلاة الإسلامية بين الممارسة الروحية والجسمانية (على نحو يشبه إلى حد ما تمارين اليوغا). كم مثل هذا الأمر ضروري للإنسان في العالم المعاصر، وبخاصة بالنسبة لأولئك الذين يجلسون طوال اليوم على المقاعد في المدارس، والمكاتب، أو أي مكان شبيه آخر.

أما السمة الخامسة التي أحببتها في الإسلام خلال نموي، فكانت الدعوة للصلاة في الصباح الباكر. وبسبب عمري، عشت سنوات عديدة استمع إلى الدعوة الصباحية من خلال أصوات بشرية. كانت دعوة جميلة ورقيقة وروحانية. وفي رأيي، ما أثر سلباً في تلك الجمالية والروحانية هو التكنولوجيا التي حلت من خلالها مكبرات الصوت محل الأصوات الإنسانية.

لعل أكثر سمات الإسلام التي أسيء فهمها هي الجهاد. لو بحثنا في أدبيات الإسلام المبكرة لما وجدنا مفهوم الحروب المقدسة كالحرب ضد الديانات الأخرى جزءاً من مفهوم الجهاد. إن الصليبيين هم الذين أحضروا معهم هذا المفهوم. عندما سئل النبي محمد عن أفضل شكل للجهاد أجاب بأنه قول كلمة حق في وجه سلطان جائر. وبلغة اليوم، يعني قول الحقيقة في وجه السلطة والقوة. بهذا المعنى، جسد المسيح روح الجهاد في مواقف عدة: في تحديه للفريسيين في القدس، وفي مواجهة المرابين في المعبد، وفي مخاطبة الموجودين في السلطة بالمرائين.

ومن السمات الأخرى (التي يتشارك فيها الناس في معظم المجتمعات التقليدية) هي حقيقة عدم قيام أيًّ من العائلات المسلمة التي أعرفها بوضع أحد أفرادها في ملجأ للعجزة. فالكبير في السن يمنح مكاناً مركزياً في البيت، حيث يصبح مركز اهتمام وحب وتقدير واحترام.

سمة أخرى تلهمني في الإسلام – التي أتمنى لو أنها كانت في الكنائس هي كيف أن الجوامع القديمة في المدن الكبيرة مفتوحة لكل الناس كأماكن ضيافة، حيث يستطيع الناس إضافة إلى الصلاة أن يجلسوا ويقرأوا ويناقشوا، وحتى أن يناموا إذا كان الشخص متعباً والجو حاراً في الخارج، وحيث تحضر العائلات أطفالها للعب في ساحة الجامع . لقد خبرت هذه الروح في الجامع القديم في دمشق، وفي جامع القرويين في مدينة فاس في المغرب. وكان ذلك صحيحاً بالنسبة لجامع الأقصى في القدس قبل أن يحتل البريطانيون فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، ويضعوا أنظمة حيث تم بموجبها تخصيص أيام للمسلمين وأخرى للمسيحيين وأخرى لليهود. وتعمقت هذه الممارسة في ظل الاحتلال الإسرائيلي.

سمة أخيرة أود ذكرها ... عندما تحقق المسلمون بأنهم سيخسرون في غرناطة/اسبانيا، عرضوا على الأسبان أن يغادروا المدينة بطريقة تحتفظ بجمالها. لا تزال غرناطة جميلة! في المقابل، عندما غادر الإسرائيليون ياميت العام 1981 (وهي مدينة بنوها في سيناء بعد احتلالهم لها العام 1967)، دمروها تماماً. كذلك، عندما تأكد الأمريكيون من خسارتهم في فيتنام، سمموا أكبر قدر من الأرض هناك . هل يوحي لك هذا بشيء عن الإسلام، يا عزيزي البابا بنديكت؟ ربما يكون من الجدير ذكره أيضاً أنه من خلال 1300 سنة من الحكم الإسلامي، تم تطوير العديد من الأشياء باستثناء الأسلحة. وهذا صحيح بالنسبة لمعظم الأمم خارج أوروبا ( والغرب الحديث).

ما ورد أعلاه يمثل بعض ما خبرته كسمات ملهمة وأصيلة أتى بها الإسلام. وهناك بالطبع سمات أخرى خبرها آخرون. فليس ثمة حضارة ليس فيها جمال (وبالطبع بعض السلبيات أيضاً). إن عدم رؤية ما هو جميل في الآخرين يقول شيئاً عن المشاهد أكثر مما يقال عما يشاهد.

أريد الآن أن أعود إلى وعد تعهدت به سابقاً: أن أروي قصصاً تظهر روح المسيح كما كانت متأصلة في عالم والديّ. والقصة الأولى هي عن والدي عندما اتفق مع عمي في عقد الثلاثينيات على فتح محل بقالة في القدس. كان شرط والدي الوحيد – آنذاك – عدم بيع السجائر أو الكحول. رفض بيعها ليس لأن ثمة قانوناً يحظر بيعها، وليس لأنها كانت ضد ما يفعله الناس أو بسبب أبحاث علمية وقتها تؤكد ضررها، بل لأن إيمانه منعه من التسبب بأذية الناس. فمشاهدة المدخنين وهم يسعلون، نتيجة للتدخين، كان كافياً ليرى مدى أذاه. حاول عمي أن يقنعه بغير ذلك، لكنه فشل.

القصة الثانية حصلت بعد ذلك بمدة طويلة، في العام 1978، حيث عاد والدي بعد مظاهرة في رام الله وقد شاهد اثنين من الجنود الإسرائيليين يمسكون بصبي صغير من شعر رأسه ويهشمون وجهه على أحد الجدران. أوقف والدي السيارة وترجل منها، فصوب أحد الجنديين ببندقيته عليه وأمره بالعودة إلى سيارته ومغادرة المكان. قدم والدي إلى البيت وهو منزعج جداً وكان وجهه مصطبغاً باللون الأحمر. لن أنسى تعليقه بعد أن أبلغنا بما رآه: "هؤلاء الجنود لا يمكن أن يكونوا يهوداً". بمعنى آخر، كان يدافع عن اليهودية ضد سلوك الجنود الإسرائيليين!.

أما القصة الثالثة، فتتعلق بممارسة كانت سائدة بين نساء فلسطينيات مسيحيات من القدس، ممن لم يستطعن الحمل، كنّ يذهبن إلى مدينة الخليل (مدينة إسلامية) للصلاة تحت شجرة إبراهيم (رمز يهودي) للصلاة للمسيح! إن تجسيد الديانات الثلاث في ممارسة واحدة هو شاهد على علاقات جمالية منسجمة في حياة الناس، وهي ممارسة مختلفة جذرياً عن مفهوم هوية "نقية"، وهو مفهوم حديث يبعد الناس بعضهم عن بعض. لا يوجد شخص "نقي"؛ إذ أن كل شخص هو عبارة عن شبكة فريدة من "عوالم" عديدة، وكل شخص يمكنه لن يكون موطناً لعوالم عديدة تعيش مع بعضها بطريقة فيها توافق داخلي لدى الشخص.

القصة الرابعة تتعلق بقرية "الخضر" قرب بيت لحم. "الخضر" اسم قديس كان يوقره المسلمون والمسيحيون على حد سواء في فلسطين. القرية يسكنها مسلمون، لكن فيها كنيسة تحمل اسم القديس. وقد اعتاد المسلمون والمسيحيون أن يحتفلوا بيوم الخضر داخل الكنيسة. وبعض المسلمين لم يتورعوا حتى عن تعميد أطفالهم كشكل من أشكال التبريك. وتلك الممارسة مثال جيد على الاحترام والاعتراف بالآخرين أفضل من التسامح والتفاهم الشكليين أو العقليين. لقد تفاعل الناس بعضهم مع بعض بطريقة تجاوزت الاختلاف فيما بينهم دون تحويلهم إلى "وحدة" شكلية لا معنى لها. إنه مثال جميل على العلاقات المتناسقة. فكل شخص احتفظ بمعتقداته، ولكن عندما يلتقون كان يجمعهم الكثير. الكنيسة لم تخص مجموعة واحدة، بل كانت مكاناً لتعميق علاقات منعشة بين الناس، [ولكن، لسوء الحظ، أخذت هذه العلاقات والممارسات بالاختفاء وأصبح التفكير بها وكأنه إشارة إلى تخلف، وهذا الرأي بدأ ينتشر بين المسلمين والمسيحيين المتعلمين على حد سواء، والذين رأوا في مثل تلك الممارسة إشارة على الأمية والجهل!].

أخيراً، أود أن أقول كلمة عن السبب الذي يجعلني اعتقد أن الإسلام يبدو في عالم اليوم أكثر حيوية وإلهاماً وجدوى من المسيحية أو اليهودية لدى الكثيرين من الناس. السبب – كما أراه ببساطة واختصار – يعود إلى أن الإسلام يُنظر إليه في أماكن عديدة في عالم اليوم على أنه يقف إلى جانب الناس، في حين تقف المسيحية واليهودية إلى جانب القياصرة. (وهذا ما يفسر أيضاً لماذا كانت الشيوعية شائعة بين عامة الناس في الخمسينيات والستينيات، إذ كان ينظر إليها على أنها في صف الناس). وكما ذكرت سابقاً، من الجدير التمييز بين إسلام/مسيحية/يهودية/ شيوعية الناس وبين إسلام/مسيحية/ يهودية/شيوعية المؤسسات. أما الخبرات التي ساعدتني في فهم ديانات الناس، فقد نجمت عن كيفية تجسّد المسيحية في حياة أناس مثل أمي، وعن كيفية تجسّد الإسلام في الانتفاضة الأولى. في كلتا الحالتين، لم يكن الناس بحاجة إلى مهنيين لإرشادهم؛ لقد شعر الناس بحرية ووثقوا بأنفسهم للفهم والفعل. فالدين عني لهم أن الارتباط بالله والعمل الحسن لا يحتاجان إلى وسيط. إن الإسلام المرتبط بالناس في عالم اليوم يلهمهم على الصعيد الشخصي والمجتمعي، وهو الدين الأقل ارتباطاً بمراكز السيطرة والسلطة في العالم. هذا هو سر حيويته وإلهامه والرجاء/الأمل الذي يتوخاه الناس منه. فهو يمنح المؤمنين به حرية الاجتهاد والتفسير في ضوء الواقع الذي يعيشونه. في المقابل، فإن الناس الذين يحملون روح المسيح في حياتهم ويحاولون إيجاد معنى للمسيحية في سياق حياتهم اليومية (أي أولئك الذين يقفون إلى جانب الناس) قد سلبوا من كل قيمة، وتم قمعهم أو قتلهم أو إغراؤهم من جانب مراكز القوة التي تحاول احتكار المسيحية. ولعل أوسكار روميرو يُعد أحد الرموز العظيمة للحب والتضامن المسيحيين. "فهو كرئيس للأساقفة في سلفادور، كان مصدر قوة وأمل للفقراء والمضطهدين من بلده، حيث عمل معهم ولأجلهم جاعلاً من كفاحهم قضية خاصة به. وقد كتب الأب روميرو وتحدث بشكل عاطفي عن حاجة المسيحيين للعمل من أجل العدالة وواجه مراراً وتكراراً تهديدات وخطراً من أولئك المعارضين لأفكاره. وفي الرابع والعشرين من شهر آذار العام 1980، أثناء الاحتفال بالقربان المقدس، أطلقت النيران على رئيس الأساقفة روميرو وقتل على مذبح الكنيسة على يد زمرة مستأجرة من القتلة. وبسبب وقفته الشجاعة من أجل العدالة، أصبح شهيداً ليس فقط من أجل السلفادوريين الفقراء، ولكن أيضاً من أجل كل الناس الذين يكافحون للتغلب على الاضطهاد والفقر. اليوم تقرأ عظاته كرسائل تذكير قوية بالتزام المسيحيين بالنضال من أجل مجتمع عادل. إن نموذج حياة روميرو الشجاعة وموته لا يزالان يلهمان أولئك الذين يكافحون من أجل الكرامة الإنسانية والعدل . ثمة شخص آخر جسّد في حياته مسيحية الناس هو القسيس ارنستو كاردينال في نيكاراغوا الذي كان مكروهاً من وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) ومن الكنيسة لنشاطاته مع الفقراء، وبخاصة من خلال شعره الذي عبر فيه عن حبه للناس وأعطى صوتاً لمن لا صوت لهم. أما الشخص الثالث فهو القسيس ليوناردوبوف من البرازيل، الذي أسكتته الفاتيكان بشكل رسمي لمدة أحد عشر شهراً في أواسط الثمانينيات نتيجة نشره كتباً فيها انحياز أيدولوجي للاهوت التحرر، والذي تطور في أعقاب المؤتمر الثاني لأساقفة أميركا اللاتينية العام 1968، ودعا الكنيسة للانخراط في النضالات السياسية والاقتصادية للناس الفقراء.

لقد ذكرت سابقاً كيف أبيدت مسيحية الناس عملياً في فلسطين. كذلك حدث لليهودية التي كانت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر صوتاً رئيسياً إلى جانب الناس، إذ فقدت تلك الروح مع بروز الصهيونية، حيث يُعتبر اليهودي المستقل والحر في تفكيره، في الوقت الحاضر، يهودياً كارهاً لذاته! وينطبق ذلك على أي مسيحي يقف اليوم إلى جانب المسلمين الذين هم ضحايا الجيوش "المسيحية" أو "اليهودية"، بحيث يوصف في أفضل الأحوال بأنه مضلل. إن الحركة الفلسطينية التي كان يُنظر إليها طوال عقود من الزمن، على أنها في صف الناس خسرت إلهاماً عندما تحولت وقبلت أن تخدم القياصرة بشكل متزايد. بعبارة أخرى، تكمن حيوية الإسلام وإلهامه في العصر الحاضر في حقيقة أنه يُنظر إليه – من جانب أناس تهيمن عليهم جيوش أجنبية – كدين يقف في صف الناس. من هنا، لا يرتبط "سر" انجذاب الناس لدين بمهارات تسويق وتجنيد أو حوافز مادية، بل فيما إذا كان ينظر إلى الدين على أنه جانب قيصر أو جانب الناس. فالناس يستطيعون أن يدركوا الفرق بسهولة. ومما يجدر ذكره أن يسوع شعر بألم الناس، حيث عاش وسطهم، وشعر تماماً بما يكابدونه. لم يعش أبداً في برج عاجي. وأي مسيحي يحمل روحه اليوم سيكون في صف المسلمين الذين يعيشون تحت وطأة المعاناة والدمار كثيراً في الوقت الحالي على أيدي أولئك الذين يزعمون بأنهم حراس المسيحية واليهودية.

لو ذهبت اليوم إلى الجوامع، ستراها محتشدة بالناس (رجاء، أنظر الصورة المرسلة عبر البريد الالكتروني لمسلمين يخاطرون بحياتهم وهم يتسلقون جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل حول الفلسطينيين من أجل الذهاب إلى المسجد الأقصى في القدس والصلاة فيه في رمضان).

وعلى النقيض من ذلك، تجد الكنائس مهجورة بشكل متزايد، والسبب لا يعود إلى أن المسيحيين أقل اهتماماً، وإنما لأن ما يصبح مؤسسة يصبح منفراً. جزء كبير من الإسلام، وبخاصة بين الشيعة ، لا يزال غير خاضع للهيمنة المؤسساتية، إنه يسكن في قلوب الناس أكثر من المؤسسات. إن مأسسة الدين تؤدي إلى تجريد الناس من كرامتهم، لأن الكرامة والسيطرة لا يمكن أن تسيرا جنباً إلى جنب. وفي عالم اليوم، يوفر إسلام الناس الكرامة للكثيرين من الناس.

حان الوقت للشعوب الغربية أن تدرك وتقبل الحقيقة الأكثر سطوعاً في العالم اليوم (حقيقة أساسية لإعادة الأمان والسلام إلى العالم) ألا وهي أن الحضارة الغربية تمثل إحدى الطرق في العيش، وليست الطريق الوحيدة، وبالنسبة للكثيرين ليست الطريق المثلى. إحدى الخطوات التي يمكنك اتخاذها، عزيزي البابا، في هذا الصدد وكبداية، هي العودة إلى المبادرات الحوارية بين الإيمانات المختلفة، التي أطلقها سلفك جون بول الثاني، وهذا أمر نحتاجه بشدة في عالم اليوم. خطوة أخرى باستطاعتك اتخاذها في هذا الصدد، هي أن تضم صوتك ضد الحروب التي تحاك حالياً.

ما جاء به المسيح قبل ألفي عام هو المحبة والحرية والإيمان بالناس، والمسؤولية (بمعنى الشعور الوجداني مع الآخرين ورفض إيذاء أي شخص أو أي شيء) وكلها أمور لا تنسجم مع منطق المؤسسات والمنظمات الضخمة. فالحرية التي دافع عنها يسوع كانت خالية من القواعد والقوانين غير الإنسانية التي تشكل أذى للناس، والتي تحرسها عادة المؤسسات والمهنيون. والحب الذي تكلم عنه كان "ليحب بعضكم بعضاً" إنها وصية لجميع الناس، وهي أسمى من أي وصية أخرى. لكن الحب والحرية والمسؤولية لا معنى لها إذا لم يكن لدى المرء إيمان بالناس، فشروط يسوع بالنسبة للحرية ليست قوانين دولة أو قواعد مؤسسة، وإنما سيادة المحبة والمسؤولية بين الناس، إن تغذية ذئب الحب والسلام والعدل داخل كل واحد منا هو التحدي الذي نواجهه وتواجهه على الأخص الكنسية إذا أرادت أن تستوطن مجدداً قلوب الناس وحياتهم اليومية.

              

* د. منير فاشة- متخصص في مجال التربية والتعليم، وأنشأ مؤسسة تامر عام 1989، كما أنشأ الملتقى التربوي العربي وأداره في جامعة هارفرد مدة عشر سنوات.