العبقرية لا تؤمن بالهامش

fgfggfb1052.jpg

لم أكن أعرف مكانا إسمه بوهودة بإقليم تاونات، ولم يحصل لي أن سمعت به من قبل إلا لحظة تعييني أستاذا في هذه المنطقة.

حينما وصلتها أول مرة أحسست بأنني أعرف المكان جيدا، لقد شعرت بأنني فعلا ابن هذا الفضاء، لا إحساس بالغربة ولا شعور بالكآبة ولا حنين إلى أمكنة ماضية، وكأني عشت فيه زمنا ما ! أو ربما هذا الشعور انتابني لأنه يذكرني بموطني الأصل. حيث البيوت وطرق العيش والناس والأطفال والنساء متشابهات. تملؤهم العفة، يملؤهم الخجل والحياء الطبيعي، على وجوههم تجاعيد تنم عن إنسان مقهور سلم أمره للخالق دون من عاداه.

في سنتي الأولى بهذه المنطقة المنذورة للحب المجبولة للعطاء، كان الغرض هو التعرف على تلاميذها وتلميذاتها، كما يفعل كل أستاذ فمعهم إما أن تكون أو لا تكون، وفعلا حصل التعرف الأول.

لقد وجدتهم بسطاء، أغلبهم ينتمون إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة، بل حتى الأغنياء منهم متشبعين بالبساطة في العيش، لا شيء يذكرك فيهم بعنجهية برجوازي المدينة الموحشة.

بهم وقار الرجل لزوجه كما يحكي لنا الأجداد، وتقديس الزوج لزوجها قبل أن تصير المرأة غنيمة مربحة لتجار القوانين والمراسيم وكأنها العبدة في صورة قديسة، أو الجارية في صورة الأميرة، إنها فعلا الوطن كله، حينما توزع عليها أموال النفط الخليجي، وذهب ومعدن الصحراء، وكل هذا، باسم المساواة والحرية التي انعدم أصل اشتقاقها وانعدمت البنية الحاضنة لها في واقع يجلي بالكارثة.

تشعر حينما تكون في القسم بأنك أمام عباقرة بهم فطنة وذكاء لا حد له، يعرفون الصالح من الطالح، يقرؤون في عيون الأستاذ مدى حبه لهم، أو مدى عدم مبالاته، وكأنه يفكر فقط في نفسه وفي القوانين التي جعلت منه الرجل الذي يتحدث عنه القاصي والداني.

حتى الذين لا يبالون بالدراسة، أولائك الذين نسميهم في سيرتنا مشاغبون أولئك الذين امتلؤو وهم فتية بمشاكل العيش ومشاكل الأسرة، الآتين من دواوير يصعب على الجمل قطع طريقها، ترى فيهم المسرحي الفذ والعالم والشاعر والمربي... غدا أو بعد غد لا يهم فكم كنا مشاغبين لا مبالين نضحك لأننا أطفال نضحك لأننا لا نعرف ونثير الضجة لأنها موطن إبراز ذواتنا إلى آخره إلى آخره.

ذات يوم وأنا ألقي الدرس وفق الطريقة المنمطة التي تعلن عنها التوجيهات الرسمية، سألت التلاميذ ما هي هواياتكم المفضلة؟

فأجابوا فرادا (كرة القدم، كرة السلة، السباحة، السفر...) ما عدا تلميذين صغيري السن والحجم، كانت إجابتهما مختلفة تماما، حيث نطق الأول قائلا:

  • أنا يا أستاذ هوايتي هي الفزياء وقدوتي هو إينشتاين.

وأجاب الثاني:

  • أنا يا أستاذ هوايتي هي البرمجة.

فتساءلت مع نفسي، كيف يمكن أن يحصل هذا؟ أين عرفتما هذه الأشياء؟ وهل فعلا التلميذ يعرف ما لا يعرفه الأستاذ؟ وهل يعقل أن تجد تلميذا وصل عقله من التجريد ما لم يصله وزير التعليم نفسه؟ لقد بقيت الإجابات الأخيرة عالقة في ذهني تماما، إلى أن عدت إلى المثل القائل: "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر" أداوي النفس وأبرئ الجرح لمعتقدات تنخر أجسامنا وتقتل الإبداع فينا قبل أن تصير بذرة تفوح رائحة زكية.

وقفت قرب السبورة متأملا وجوه التلاميذ، لحظة، سألت الفزيائي هل يمكنك أن تشرح قليلا ماذا كان يقصد إينشتاين بالنسبة؟

قام إلى السبورة بكل ثقة وكأنه أستاذ جامعي خبر الفيزياء لسنوات طويلة، كتب بعض الرموز الرياضية فهمت منها أنها الصيغة العامة للنسبية، قال كلاما لم أفهمه ولم يفهمه أحد من الحاضرين، شرح شرحا مطولا ذكر بعض الأسماء الشامخة في علم الفيزياء وعاد إلى مكانه منتشيا، شكرته وقلت في سري، هناك أمل دائما.

فكم من العباقرة والمبدعين عاشوا وتربوا وتعلموا في الهامش، ليخبروا العالم بأن المستحيل مجرد اعتقاد، وبأن الهامشي مبدع خلاق.

وسوم: العدد 1052