في رحاب السلط 1

في رحاب السلط

(الحلقة الأولى)

زياد جيوسي

[email protected]

شهور طويلة لم أتمكن فيها من زيارة عمّان الهوى، فمنذ شهر أيلول في العام الماضي مررت عبر عمان إلى دول أخرى مرور المسافر، فلم يتح لي فيها لقاء الأصدقاء ولا التمتع بالأمسيات العمّانية، وفي هذا العام لم تكتحل عيناي بالكحل العمّاني، إلا حين وصلتها في الخامس من حزيران للمشاركة في حفل زفاف عثمان ابن شقيقتي، وإنجاز بعض من قضايا العمل، وحين زرتها مررت بطريق وادي شعيب، عبر بلدتي الفحيص وماحص، فشاهدت من البعيد جبال السلط فثار الحنين لذاكرة قديمة ورغبة متجددة لزيارة السلط، ووصلت عمّان التي غمرتني بحنوها ودفئها وأمسياتها الثقافية والأدبية، فمن حفل توقيع ديوان (أنثى الفواكه الغامضة) للشاعر عاطف الفرايه في المكتبة الوطنية، إلى مسرحية (حلم ليلة ربيع عربي) حيث تألق الأصدقاء نادرة عمران وزهير النوباني، إلى أمسية شعرية للشاعر جميل أبو صبيح ومشاركة الدكتور عبد الفتاح النجار في قراءة نقدية، مع ملتقي الحدث الثقافي وفي تاج الثقافة في جبل اللويبدة، وبعدها أمسية شعرية في نفس المكان للشعراء جروان المعاني وحكمت العزة من الأردن، ونازك دلي حسن ومحمد طكو من سوريا، وليكون ختام حضوري الأمسيات العمّانية قراءة قصصية للكاتبة حنان باشا، وقدمتها عبر قراءة جميلة الكاتبة والقاصة المبدعة جميلة عمايرة، ولأختتم زيارتي للأردن الجميل، بتلبية دعوة لأمسية قدمني فيها بجمالية متميزة الشاعر جميل أبو صبيح حول المكان والتراث في فلسطين، وذلك في رابطة الكتاب الأردنيين في مدينة الزرقاء، تحدثت فيها عن العديد من الأمكنة في فلسطين، مع عرض صور التقطتها عدستي أثناء التجوال في ربوع الوطن ضمن سلسلة مقالاتي: صباحكم أجمل..

 كانت السلط تمثل في ذاكرتي مكاناً ساحراً يعود لمروري فيها فترة الشباب المبكر، وفي جولاتي المتعددة، وفي عدة مقالات لي أشرت إلى خيط سحري جميل يربط بين مدينة السلط العريقة وأحياء دمشق التراثية، وبين نابلس في فلسطين وبين المباني التراثية في مدينة عمان، وفي حواريات أدبية عبر المراسلة مع الكاتبة جميلة العمايرة، أشرت إلى ذلك وتحدثت معها حول ذاكرة الطفولة لكل من مدينة السلط وبلدة الرميمين وبلدة زي، لتفاجئني هذه الزهرة السلطية حين وصلت عمّان بترتيب دعوة وجولة لزيارة هذه الأمكنة الثلاث، فأثارت الحنين في تلافيف الذاكرة والذكريات.

 

 الخميس الثالث عشر من حزيران كانت الجميلة جميلة والأخ خالد عمايرة يرافقانني من خلدا حيث أقيم إلى السلط، فاتجهنا غرباً حيث عبق السلط يتمازج مع عبق فلسطين التي تشاهد بوضوح من تلال السلط، وما أن تجاوزنا الجامعة الأهلية حتى بدأت الذاكرة تتفاعل بقوة، فالمتغيرات كثيرة جداً، بدءاً من الطريق الواسعة التي لم تكن هكذا، مروراً بحجم المباني على التلال التي لم تكن إلا تلال حرجية وصخرية، فهمست لنفسي بالعبارة المألوفة: (سبحان الله،كون بده يعمر)، حتى كانت إطلالتنا على مدينة السلط، ولولا الكثافة العمرانية التي غطت التلال، فلا شيء في المشهد المواجه للمدخل من البعيد قد تغير، لذا شعرت بانشراح في صدري، وشعرت بالسلط تنثر عبقها على روحي، وتذكرت زيارتي الأولى لها في بدايات سبعينيات القرن الماضي، حين غمرتني بالفرح وغمرني أهلها بالكرم.

 

 مباشرة توجه بنا الأخ خالد للمنطقة الواقعة خلف المسجد في قلب المدينة، فنـزلت والكاتبة جميلة من السيارة حيث المباني الجميلة والتراثية المرممة ومنها مبنى المعشر الذي بني العام 1900م، ومبنى مديرية السياحة الجميل، والعديد من المباني التي ما زالت تحمل عبق التراث والجمال، وتروي الحكايات عن قصص الأجداد والجدات بلون حجرها الأصفر المتميز بطبيعته، وبعد تجوال في بدايات السحر السلطي الجميل مشينا باتجاه متحف آثار السلط، والذي كان في الأصل بيتاً بناه علاء الدين طوقان، حين قدم من مدينة نابلس إلى مدينة السلط في نهاية القرن التاسع عشر، وبني على نفس النمط العمراني الذي ساد في تلك الفترة في نابلس والقدس، وهو نمط جرى نقله من خلال العائلات ذات الأصول الشامية التي استقرت في فلسطين وخاصة في نابلس، ثم انتشر في بلاد الشام من سوريا إلى لبنان وفلسطين والأردن، وفي المتحف لوحة فيها مشهد بانورامي لمدينة السلط مع حكاية وتاريخ للبيت، والذي بقي سكناً لآل طوقان حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، ليتحول إلى مدرسة، وفي منتصف الثمانينيات أصبح البيت مهجوراً، فجرت عملية ترميم له في التسعينيات ومنح لبلدية السلط، ومن ثم تحول إلى متحف تاريخي يروي حكاية السلط منذ بدايات التاريخ.

 

 يقال إن اسم السلط جاء نسبة لاسم القائد اليوناني بسالتوس الذي فتحها في عهد الأسكندر المقدوني، وفي فترة الرومان أطلقوا عليها اسم سالتوس وتعني أرض العنب والتين، ونلاحظ مدى التقارب بين بسالتوس اليوناني وسالتوس الروماني، وعبر الزمان تحرف الاسم إلى السلط، وكانت السلط مركزاً لأسقفية تتبع بصرى في حوران، ثم صارت تتبع البتراء في فترة البيزنطيين، وكانت السلط هدفاً لكل الغزاة بحكم موقعها وسيطرتها على الطريق المؤدي للأغوار وفلسطين، فاحتلها المغول ودمروا قلعتها التي بناها السلطان المالك حوالي 1220، على آثار تشير إلى أن أصل القلعة فترة البيزنطيين، وأعاد الظاهر بيبرس بناء القلعة العام 1266، وفرض الصليبيون على السلط الضرائب المرهقة بفترتهم، وبقيت قلعة السلط قائمة حتى دمرها مجدداُ إبراهيم باشا العثماني العام 1840م، ومن ذلك الوقت لم تعد القلعة قائمة لأن الدمار نالها من أساساتها.

 الآثار التي وجدت تشير إلى أن السلط كانت موجودة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، فهي من بدايات المدن المسورة في التاريخ، والتي لجأت لبناء الأسوار لتحمي المدينة، فقد لجأ سكان المستوطنات السكانية لبناء الأسوار للدفاع عن مدنهم أولاً، ولفرض السيطرة على المناطق المحيطة ثانياً، وفي السلط كانت منطقة تلة الحمام وتل الخندقوق الجنوبي من أوائل المستوطنات البشرية المسورة، وفي داخل أسوارها المباني السكنية ومغازل النسيج ومواقع صناعة الفخار.

 

 ما أن أنهيت تأمل مبنى متحف آثار السلط من الخارج والتقاط الصور، حتى دخلناه وقطعنا تذاكر الدخول وبدأنا التجوال، وفي كل قطعة تأملتها كنت أستحضر تاريخ وحكايات سيكون لها لقاء في الحلقة القادمة من رحلتي للسلط والرميمين وزي.

 صباح رام الله ناعم النسمات اليوم مع غيوم تتناثر في الجو، ما يوحي بجو معتدل الحرارة فحمدت الله، فهذا سيتيح لي زيارة الأقصى الذي يحرمني الاحتلال من زيارته إلا في أيام الجمعة من رمضان بحكم السن، بجهد أقل، فالإجراءات الاحتلالية مع الألوف المؤلفة التي تزور القدس يوم الجمعة في رمضان، تجعل الإرهاق والتعب ينال مني، وخصوصاً مع المشي تحت أشعة الشمس لمسافات طويلة نسبياً في ظل الصيام، فتذكرت ما مشيته كطائر محلق أثناء رحلتي للسلط وتجوالي فيها، وحجم الفرح الذي انتابني وانتفى من خلاله أي شعور بالتعب، فبدأت مع حديث الذاكرة وزيارة السلط أستمع لشدو فيروز وهي تشدو: (على ذرى أردننا الخصيب، الأخضر العابق بالطيوب، الساحر الشروق والغروب، سمعتها تقول يا حبيبي، صبية حسناء من بلادي، سمعتها بلهفة تنادي، يا مالك الوجدان والفؤاد، أردن يا أردن يا حبيبي).

 وحتى نلتقي في الحلقة الثانية من حكاية السلط وتجوالي فيها، إن كتب الله لنا ذلك، سأعود إليكم بعبق القدس والتاريخ والجمال، وأهمس لكم الآن من رام الله: صباحكم أجمل...