رعب في قلب مدريد

د. حيدر الغدير

زرت إسبانيا عدداً من المرات، وتجولت فيها كثيراً، ووقفت متأملاً على عدد من آثار المسلمين وغير المسلمين فيها، حتى صارت لي معرفة طيبة بها، تعينني على أن أحسن التصرف فيها إذا كنت وحيداً، خاصة في غرناطة التي لبثت فيها مدة أطول بسبب حمرائها الباهرة، ومدريد التي طال مكثي فيها لأنها العاصمة، منها نبدأ، ومنها نعود.

ومع أني شرّقت وغرّبت، ووصلت أقصى الشمال ووقفت في أقصى الجنوب، ومررت بالعامر والمقفر، والقريب والنائي، فإنني - بفضل الله عز وجل - لم أتعرض إلا لمشكلة واحدة، وقعت لي في قلب مدريد، وأمام الناس المزدحمين، وذلك في عام 1416هـ 1996م.

في هذه الزيارة كنت حريصاً على أن أمشي كثيراً، ذلك لأنني وقفت مراراً على الآثار والمتاحف والحدائق في زياراتي السابقة، لذلك أعطيت المشي وقتي الأطول وجهدي الأكبر في هذه الزيارة، وكنت أمشي ليلاً ونهاراً، منفرداً أو مع صديق، فإذا تعبت أعطيت أول سائق لسيارة أجرة أراه ورقة فيها عنوان البيت وهو بيت الدكتور بهيج الذي كنت ضيفاً عليه، فيذهب بي إليه، فإذا استرحت عدت للمشي من جديد.

وقد أوصاني الدكتور بهيج وغيره من الأصدقاء بعدة وصايا، علي أن آخذ بها، بسبب مشيي وحيداً، وجهلي باللغة الإسبانية، وهي أن أمشي في الطرق المأهولة وأتجنب الطرق الخالية، وأن أمشي في النهار وفي أوائل الليل فقط، وأن يكون معي قدر من المال لا هو كثير ولا هو قليل، وذلك حتى إذا تعرضت لتهديد من مدمن أو لص، أدفع له المال دون جدل، فلا آسف لأن المال المدفوع كثير، ولا يغضب المدمن أو اللص لأن المال قليل، وقد يكون مستعداً لإيذائي إذا قاومته، ومستعداً أيضاً إذا كانت غنيمته قليلة.

ومضت الأمور على ما يرام بفضل الله، وصرت أزيد من مسافة المشي بالتدريج، وفرحت فقد وجدت الوزن ينقص، والنشاط يزداد، وظللت كذلك حتى وقعت لي القصة الطريفة التالية.

كنت أمشي وفي نفسي كل الوصايا السابقة، وكان الليل في أوله، وكان المشي في قلب مدريد، في شارع "جران بيا" والزحام على أشده، ولم يكن هناك ما ينذر بالسوء حتى رأيت على الطرف المقابل من الشارع امرأة تنظر إليَّ بإمعان فتخوفت.

كان الشارع يفصل بيننا، وكنا ننتظر أن تخضرّ الإشارة لنا نحن المشاة حتى يذهب كل منا في سبيله، ولما أطالت النظر إلي انسللت بهدوء من المكان الذي نقف فيه متواجهين حتى أغيب عنها، لكنها لم تلبث أن تحركت فوجدتها تقف إزائي تماماً في موقفي الجديد، وتنظر إلي بإمعان شديد، كانت تلبس بدلة رياضية بيضاء ولكنها ملطخة بالوحل، إذ يبدو أنها وقعت في أرض موحلة بسبب جرعة زائدة من الخمر أو المخدرات، بدليل أنها كانت تترنح وهي تنظر إليَّ شزراً وغيظاً وكأنها تتوعدني.

وحينما اخضرّت الإشارة مشيت بسرعة حتى أتلافاها، ولكنها أسرعت فأمسكت بي من عنقي، وأخذت تنادي البوليس. عندها أدركني رعب شديد وحياء أشد، وتخيلت نفسي وقد رآني بعض معارفي في مدريد فظنوا بي الظنون، أو أن البوليس جاء إلينا واصطحبنا إلى المخفر، وأخذ يسمع لها وهي تقول ما تشاء، وأنا لا أفهم ما تقول، ولا أستطيع إقناع المحقق ببراءتي لجهلي باللغة الإسبانية.

وأسعفتني البديهة الفورية التي تغني الإنسان في بعض الأحوال، بحل عاجل لم يكن في حسبانه، فإذا بي أدفعها فتقع على الأرض، وإذا بي أعدو في الاتجاه المضاد والرعب والحياء يعدوان معي ويعدوان بي. كنت قد نسيت العدو لكنّ الموقف أمدني بطاقة مدّخرة كانت عوناً لي، فإذا بي أركض وكأنني أرنب مذعور، وما زلت كذلك حتى وصلت ناصية الشارع حيث تقف مجموعة من سيارات الأجرة، فركبت في أولها، وأقفلت الباب، وأعطيت العنوان للسائق الذي أوصلني إلى بيت الدكتور بهيج.

وحين وصلت البيت أحسست بالأمان، وشكرت الله عز وجل شكراً عميقاً أن أنجاني من هذا المأزق المخجل، وهدأت، وصليت، وقرأت، وحين استأنفت المشي في اليوم التالي، كنت أكثر حذراً وانتباهاً، ثم إني رويت القصة بتفاصيلها لذويّ وأصدقائي، وما تزال هذه الواقعة ماثلة في ذهني تماماً، وما زالت صورة بطلتها في ذهني تماماً، وما زلت حتى الآن أتساءل لماذا فعلت بي هذه الحمقاء ما فعلت؟