غرناطة، حكاية الزمكان

يسري الغول*

[email protected]

الرابعة والنصف فجراً بتوقيت القاهرة.

أقوم للصلاة، أتجهز للخروج إلى المطار، تسبقني عمتي في الاستيقاظ، تحضر طعام الإفطار، نجلس معاً، نتحدث، أرى في وجهها شوقاً لغزة، يطول الحديث بانتظار أحد السائقين الذين تم الاتفاق معهم على الحضور، لكن للأسف لم يأت أشرف (السائق) كما لم يأت جودو.

أخرج من المنزل، أجر حقيبتي على رصيف القاهرة المغبر، وعند نادي الترسانة أتوقف قليلاً، ثم أركب العربة، أتحدث بلهجة مصرية كي لا يقوم السائق باستغلالي، وبعد أن تنجح حيلتي ونتفق على 50 جنيهاً، أتحدث حينها باللهجة الغزاوية (القُح).

السائق طيب جداً، ولطيف شأنه كشأن المصريين جميعاً، وجوههم وقلوبهم تكتظ بالحب. شوارع القاهرة خالية، لأن حظر التجوال ما يزال مفروضاً، يسألني السائق:

-       أنت أمورك تمام يا باشا، لو وقفنا الجيش.

-       أكيد أموري تمام.

السائق يشرح لي الأماكن بينما أقوم بالتقاط بعض الصور، المتحف المصري، مبنى الحزب الوطني (المدمر)، متحف رمسيس، وغيرها من الأماكن، ربما استثارني مكان واحد غريب وهو قصر كان يُعبد فيه الشيطان من شباب كُثر، ويمارسون البغاء والشذوذ، فيتحدث السائق بأنهم من أبناء الـ (High class) أي أبناء المتنفذين في الدولة وما إلى ذلك من أحاديث متفرقة، إلى أن أصل مطار القاهرة الجديد.

وفي المطار، أتنقل إلى أكثر من مكان، لأن رحلة الخطوط الاسبانية فيما يبدو مشتركة مع الخطوط المصرية، (الخطوط الأجنبية دوماً في تيرمينال 1 وتذكرتنا تيرمينال 3)، وبسبب ذلك يزداد توتري، لأن البعض ينصحني بأن أذهب إلى (Terminal 1) بخلاف ما هو مكتوب في التذكرة (Terminal 3) إلى أن يشرح لي موظف الاستعلامات بأن الرحلة مشتركة مع خطوط الطيران المصري وأنني في المكان السليم، فأدخل في بعض إجراءات التفتيش وتسليم الجواز وختمه.

أمام صالة (G7) أجلس على أحد المقاعد بانتظار أن تفتح الصالة للتجهز لركوب الطائرة، خلال ذلك، أتعرف على شابين من نيجيريا، سيسافران إلى دبي، نتحدث كثيراً حول الأديان، واستغلال الدين من أجل القتل والتدمير، وسبب ذلك الحديث هو أحد أفلام اليوتيوب الذي يظهر حرق النيجيريين المسيحيين لبعض المسلمين وهم أحياء، فنتحدث ونتحدث، لكنني وبصراحة لم أفهم سوى القليل القليل من صديقي النيجري بسبب لهجته المتعسرة على الهضم.

تفتح الصالة (G7)، ندخل، ومنها إلى الطائرة، مع بعض الإجراءات الروتينية، تأتي خلال ذلك المضيفات إلينا بالترحيب، والمساعدة، يجلس إلى جواري إفريقي، وهو بالمناسبة مهندس طيران، ندردش قليلاً إلى أن تقلع الطائرة، وبعد أن تستوي الطائرة في جو السماء، أقوم بتصوير الأرض في الأسفل. شعور غريب ينتابني، شعور مخيف فعلاً، الكثيرون قضوا في حوادث الطيران، تراودني حينها إحدى قصص بهاء طاهر التي تتحدث في الموضوع ذاته خلال مجموعته (أنا الملك جئت) فيما أذكر.

للمرة الأولى، ورغم زيارات متكررة للقاهرة أشاهد الأهرامات بينما تميل الطائرة بنا قليلاً، كنت سعيداً بذلك، لأنني أنظر إلى حضارة عريقة من أقدم الحضارات على الأرض.

الهدوء يعمر الطائرة بعد ذلك، البعض يتصفح الجرائد والبعض الآخر يغط في نوم الموات، أما أنا فلا يتركني ذلك القلم المجنون، أكتب وأرسم وأضع خططاً لما سأفعل، خمس ساعات ونصف والطائرة تحلق في بلاد لا أتبينها، نعلو على السحب، فأشعر بأن الطائرة تتعرض لمطبّات خفيفة، ثم تنزلق بنا إلى الأسفل قليلاً، أبدأ حينها في الدعاء. أتنقل بين الشيخ عبد الباسط، والأدعية الإسلامية وصولاً إلى أصالة نصري وغيرها، وصوت الطائرة يضج فيصم الآذان.

أخيراً، نصل مطار مدريد بسلام، الذي لم يكن بجمال مطار دسلدورف في ألمانيا البتة، أو حتى مطار القاهرة (وهذه وجهة نظري الشخصية، كي لا يتحامل عليّ المدريديون).

ننزل، نعبئ البيانات المطلوبة، ثم نجد سارة الإسبانية الجميلة بانتظارنا، نركب الحافلة المتجهة إلى غرناطة، حيث تستمر الرحلة لأكثر من خمس ساعات.

تمتد بنا الطريق، نسير قرابة الساعتين والنصف، ولا شيء سوى الفراغ، أشجار العنب والزيتون على الجانبين، ننزل في أحدى المدن التي لم أفكر بالسؤال عن اسمها، نرتاح قليلاً، ثم سرعان ما نلبث أن نعود لنواصل رحلتنا إلى غرناطة (Granada)، وطوال الطريق أحاول النوم لكن دون فائدة، أفكر بالتقاط بعض الصور، فلا يوجد ما يستثيرني، أشعر بالبرد قليلاً، فألبس سترتي، وأتمدد.

الأربعاء ذاته،

الساعة 11:30 ليلاً بتوقيت غرناطة.

أكثر من 6 ساعات بالحافلة، وصولاً إلى (الكامبوس بارتي)، أقرر بعد وضع حقائبي، الجلوس في مكان هادئ، أنام وأغط في سبات عميق.

في الساعات الأولى من ذلك الصباح الخريفي الجميل، أشرع بتجهيز بعض الحاجيات، ثم أذهب إلى الـ(Catering) لتناول طعام الإفطار، وهو عبارة عن حلويات مغلّفة، وعصائر وحليب ونسكافيه وقهوة. هناك أجلس مع مجموعة من الأشخاص من جنسيات مختلفة، لبنانيين، جزائريين، مغاربة، تونسيين، والمفارقة أنني حين تعرفت على أصدقائي التونسيين وهما شاب وفتاة، كان اسميهما يشكلان إلى حد ما اسمي: يسرا وقيس الغول، فقلت أنا يسري الغول… (blending)، ضحكنا، دردشنا ثم قمنا لحضور افتتاح الكامبوس بارتي. وهناك كان البرنس الاسباني ووزير السياحة أيضاً، وبعد انتهاء الاحتفال، تعرفت على (منى حسن) من القدس، ولقد كانت سعيدة جداً بتعرفها عليّ، فهي تعترف بأنه أخيراً قد التقت بأحدهم من غزة، وحين تحدثت عن مشروعها (Open street map) وعن قسوة المحتل، وتمزيق الضفة والقدس، تحدثت عن غزة وكيف بأنها لم تزرها ولم تعرف أياً من أبنائها، وفي النهاية قالت كلمات صفق لها الجميع، فقد قالت بحزن:

-       شكراً لاسبانيا لأنها جمعت أبناء الوطن الواحد في هذا المكان، شكراً للكامبوس بارتي حقاً.

كانت منى رائعة رغم أنها كانت متوترة قليلاً، وكنت أشير لها أثناء عرضها لمشروعها بأنها ممتازة فكانت الفتاة الإسرائيلية تنظر نحوي بغضب وتقوم بعمل حركات تنم عن حقدها الأزلي، (علماً بأنني لم ألتق بأي من الإسرائيليين، عدا تلك الفتاة الرِخمة).

والحقيقة بعد الاحتفال والـ(round table) أصابني الملل، فذهبت لأحد المحال التجارية هناك، مجمع كارفور، وحاولت الاستعانة بأحدهم، إلا أنني لم أجد أياً من الأسبان يستطيع التحدث بالانجليزية وهو ما كان موجوداً في معظم البقاع الاسبانية التي زرتها، وقد راودني حينها سؤال: إذا كانت كل دولة تعتز بلغتها، اسبانيا وفرنسا بريطانيا وغيرهما: متى سيعتز العربي بلغته وتصبح لغة تدريس الطب والرياضيات وغيره؟ ومتى سيدرك العالم أهمية هذه اللغة وسيتعلمها الغرب والشرق والشمال والجنوب كما نفعل مع اللغات الأخرى؟؟!

الثامنة صباحاً

الجمعة 14/10/2011

السماء ما تزال تغمض عينيها نعساً، تتثاءب قليلاً، فنتثائب داخل خيامنا، أذهب لتناول طعام الإفطار، والصالة ما تزال شبه فارغة، أجلس مع مهند وبهاء المصريين وضرار من رام الله، فيبلغني بأنهم ذاهبون إلى منطقة سييرا نيفادا (Sierra Nevada) للتنزه والمشي بين الجبال، فأقرر الذهاب معهم، نتناول طعام الإفطار، نأخذ بعض الشوكولاته والفواكه ثم ننطلق، نسير، نجري لأكثر من 6 كيلو متر وصولاً إلى محطة الحافلات، نصل قبل موعد انطلاق الحافلة بقليل، ومن هناك نتوجه حيث جبال سييرا نيفادا.

نسير، نهرول، نجري، ورغم أنني لم أكن ألبس حذائاً رياضياً أواصل السير، الأمر الذي أرهقني جداً، ورغم ذلك كنت مسروراً بين تلك الجبال، إلى أن كدنا نتوه، من أين بدأنا وكيف نعود، ضرار الجريء يريد أن يقتحم أحد الأسوار في الأعلى رغم أنها تأمرنا بأن نعود أدراجنا لكن مع إلحاحنا وخوفنا عدنا، سار معنا كلب تائه، مررنا بجسور في غاية الروعة، مشينا على أطراف أصابعنا كي لا نقع في النهر الجاري بين الجبال، جلسنا، مشينا، أكلنا، شربنا، والضحك ضجيج الرحلة التي ستخلدها ذاكرتي إلى أن أموت، أكثر من ثماني ساعات بين الجبال، والمناظر الخلابة تأسرنا، تأمرنا بالبقاء معها، ثم بعد أن نصل نقطة البدء، نجلس، نستمع إلى موسيقى هادئة (I relax) حوالي الساعة إلى أن تأتي الحافلة، ومن هناك نعود إلى الكامبوس بارتي… ولا أخفيكم سراً، فقد تورمت قدامي، وشعرت بانفصالهما عن جسدي.

وحين أعود لا ألبث أن أخرج مرة أخرى، حيث منطقة البايثين (Albayzín) وهي منطقة أثرية جداً ورائعة، تجولنا في دروب المكان، قمت بتصوير قصر الحمراء من خلالها لأنها تطل على الحمراء، الغجر كانوا يملئون المكان، يرقصون، يغنون، التراث أيضاً كان هناك، وعبق التاريخ، وحكايا دولة الموحدين، وسقوط غرناطة، وروايات (ليون الإفريقي) لأمين معلوف و(غرناطة) لرضوى عاشور و(هذا الأندلسي) لبنسالم حميش، كل ذلك كان حاضراً معي، في مخيلتي، وحين سرنا في الدروب والأزقة تسللت لجسدي تلك الرائحة الأندلسية الرهيبة، لكن الوقت لم يسعفنا، فقد جاءتنا العتمة كعادتها، فعدنا إلى المدينة والشوارع الأوروبية الجميلة، تقودنا الحافلة مرة أخرى إلى حيث النقطة الأولى.

الثامنة والنصف صباحاً،

السبت 15/10/2011

أتوجه برفقة أصدقائي الجزائريين إلى الحمراء (Alhambra) وتحديداً إلى قصر الحمراء، فبعد تناول الإفطار على عجالة، نتجه أنا ويوغرطة وجلال (الجزائريين) إلى محطة الحافلات، وقبل أن نصل بلحظات تغادر الحافلة ملتهمةً السكون، أجري في محاولة بائسة لإيقافها، لكن دون جدوى، فيأتينا من البعيد رجل إسباني، يصرخ فينا، يضحك بسخرية، كأنه مجنون أو هو مجنون فعلاً، يرشدنا للطريق، بصوت مرتفع جداً، يأخذنا نحو محطة أخرى وحافلة جديدة برقم آخر، يقف يوغرطة وجلال لمعرفة رقم الحافلة من خلال خريطة سير الحافلات، أما أنا فأتطوع بتصوريهم، نتأكد من أن الحافلة رقم واحد ستأتي، وتأتي، نركب الحافلة وخلال الطريق تحاصرنا الدهشة. نصل، يتطوع صديقي جلال بإحضار تذاكر الدخول، يهديها لي من أجل عيون فلسطين وأهلها، وننتظر حتى الساعة 3:30 لدخول الأماكن الغير مسموح بمشاهدتها إلا بتذكرة، هناك، نتنشق عبق الرائحة الأندلسية، وهناك تجد الزمكان (الزمان والمكان) يعودان بنا إلى الوراء، قبل نحو 800 عام، وأمجاد المسلمين البائدين، وسقوط دولة الموحدين، وسقوط دولة بنو نصر، تشتم رائحة الدم التي تخثرت في تلك البقاع، ووجوه القشتاليين تحدق بصلافة في عروبتنا، وهويتنا المسلمة.

هناك نمشي كثيراً، يلتقط لنا البعض صوراً بحركات مجنونة، يقلدنا الأجانب تماماً، تقف فتاة أمامنا وتمارس حركاتنا، نكتشف بأننا نصدِّر ثقافتنا المجنونة في رفع شارات النصر ورفع الأيدي كالأرجوزات، ونسير، تتورم الأقدام وهجير الشمس يقدح في أجسادنا، بينما يتبادل معي صديقي الجزائري إسماعيل شايب الأدوار حين أطلب منه إمساك حقيبتي ونظارتي الشمسية قليلاً، يتحدث معي كأنني إسماعيل، يقول:

-       إسماعيل، أنا ما أفهم شو تقول، إحكي عربي يا أخي

متابعاً والضحك يملأ المكان:

-       إحنا بفلسطين، بغزة، ما نفهمكم، حرام عليكم.

كم هو رائع إسماعيل هذا، يلبسني، أتقمص روحه، أتحدث بفرنسية مخربشة مع قليل من العربية، كأنني هو، أقول:

-       شو يا يسري، تي باغل لا فغونسي.

الضحك ومتعة اللقيا والصحبة لأناس يعشقون فلسطين أروع بكثير من أن تكون مع أي من الآخرين. نذهب بعد ذلك لتناول الطعام في أحد المطاعم العربية. نأكل ثم نعود. وحين يأتي الموعد، ندخل:

-       يا الله، من ذاك الذي ترك أمجادنا للقشتاليين. وصوت أمه تقول:

-       إبك كما تبك النساء على مُلك ضيعته يداك.

دمعات تطفر على وجنتي حين أبصر عظمة المكان، وروعة الزمان. أتذكر كيف ضاعت أمجاد العرب والمسلمين اليوم، ذلك التطور الغير مسبوق، الموجود في بهو الأسود، حيث تصب المياه من فم الأسود السبعة بانتظام، تخرج المياه من فم كل أسد لمدة ساعة ثم تنتقل  إلى الأسد الذي يليه، وحين حاول الأسبان والأوربيون بخبراتهم اكتشاف السر، وعبثوا بمحتويات البهو، توقف كل شيء وعجزوا حتى عن إعادة ذلك النظام إلى الحياة مرة أخرى. ونحن اليوم نعجز عن أن نتطور. لماذ؟!

بعد الانتهاء من زيارة الحمراء، أقرر التوجه إلى المدينة لشراء بعض الهدايا لزوجتي وأبنائي، رغم فحش الأسعار الباهض. يعجبني شعار قصر الحمراء (ولا غالب إلا الله) فأشتري عدداً من الملابس الموسومة بذلك الشعار.

مساء السبت ذاته،،،

ربما هو يوم القُبل العالمي، أو بإمكانكم تسميته (يوم الأحضان الدافئة)، حيث أنني حين كنت أفكر بتدوين ذلك من شدة وهول ما أرى لم تكن الحكايات تنتهي. في المصعد، في الشارع، في الحديقة، حالة من الحب التي يفتقدها الكثيرون في بلادنا، كم هي حميمية تلك اللحظات التي يلتقي فيها أحدنا مع من يحب. وبصراحة كنت أتمنى أن يكون هناك حالة من الحب في بيوتنا الغزية والعربية كما هو الحال في إسبانيا، بدلاً من التوجه نحو المحاكم للفصل والطلاق.

أعود مرة أخرى لشراء بعض الحاجيات، من مجمع ليدل التجاري (lidl)، أجد فتاة اسبانية تتحدث الانجليزية صدفةً، ربما هي الأولى التي تتحدث الانجليزية معي منذ مجيئي إلى هذا المكان، ساعدتني كثيراً وكانت بشوشة الوجه، لطيفة، تمنيت لو التقطت لها صورة لكنني لم أفعل، ربما بسبب تأخر موعد الشراء، حيث كان المجمع التجاري يوشك على الإغلاق، ولأنني سأتوجه في الصباح إلى مدريد. وبصراحة، لا أعرف سبب تعلق تلك الفتاة بي، حيث كانت تنتظر مني فقط أن أحدثها كي تأتي على عجالة، لذلك سارت معي في أرجاء المكان وتحدثنا وضحكنا كثيراً، ربما كان ذلك بسبب رغبتها بممارسة الانجليزية، أو ربما لأنها تعشق الغرباء الذين يذوبون في قاموس الذاكرة بعد عودتهم إلى ديارهم، لكنني لا اعتقد أنها تعشق وجهي العربي (فعقدة قصة بالأمس حلمت بك لبهاء طاهر ما تزال موجودة لدى الغربيين فيما أظن).

فجر الأحد 16/10/2011

استيقظ الساعة 3:30 فجراً، أحاول إيقاظ أعضاء الوفد، أجهز حقائبي وحاجياتي، آخذ الـ(sleeping bag) من فداء، تلك الحقيبة التي أحضرتها معي من غزة، وحين وجدت بأن فداء (أحد أعضاء الوفد) لم تحضر معها تلك الحقيبة، أعطيتها إياها، وآثرت النوم بطريقة أحتفظ فيها لنفسي طوال تلك الرحلة.

أتمدد على أحد مقاعد الكامبوس بارتي في الخارج، إلى أن تأتي الحافلة الساعة 5:30، ننطلق باتجاه مدريد في رحلة تجاوزت 5 ساعات. وحين وصلنا أرض المطار، كان علينا الانتظار لساعتين، وحين تم استلام الحقائب توجهت مع غيري للحصول على تذكرة الطائرة، فرفضوا استقبال حقائبي  لأنني لا أملك فيزا لمصر، تحدثت مع الشخص المسئول إلا أنه طلب مني وزميلي الانتظار لحين وصول المخول بأمرنا، وانتظرنا، لمدة تزيد على النصف ساعة، وحين جاء الرجل ويبدو أنه من المخابرات المصرية، سألني: إلى أين أنتم ذاهبون، فأخبرته بأننا نريد التوجه إلى غزة، المهم وافق وانتهى الأمر، كان ذلك الشخص يذكرني بالروائي المصري الكبير جمال الغيطاني حيث أنه يشبهه إلى درجة كبيرة. وبصراحة عادت بي الذاكرة إلى ما جرى معي قبل سنوات في مطار دسلدورف بألمانيا، حين طالبتنا شركة الطيران المصرية بالتوقيع على ورقة، نلتزم فيها بعدم مطالبة الشركة بإعادتنا إلى ألمانيا حال رفض اليهود إدخالنا إلى غزة، للأسف كان حالنا مريراً ومؤلماً كما هو اليوم.

ونطير، معلقين بين السماء والأرض، حتى نصل مطار القاهرة، وهناك يطالبنا الشرطي بالانتظار أيضاً لأننا لا نملك تصريحاً لدخول مصر بينما يدخل الأجانب بكل سهولة، فأتذكر لحظتها فلم (عسل اسود) لأحمد حلمي، ونظرة المجتمع للعربي ذاته، وأنتظر لأكثر من ساعة، حتى كرهت السفر، وكرهت حياتي كلها، تراودني الهموم (ألهذه الدرجة وصل بنا الحال)، (ألهذه الدرجة تهان كرامة الفلسطيني في كل أرض). وخلال تلك التهاويم ينادي عليّ أحد الضباط ويأمرني بدخول الغرفة، وهي غرفة الحجز، التي يتم فيها احتجاز الأفارقة واللصوص وأصحاب الجوازات المضروبة أو المزورة. يستقبلني بعض الفلسطينيين القادمين من عدة دول، يحضرون لي ولزميلي طعاماً كانوا قد أحضروه لهم فأعتذر شاكراً إياهم، في الزاوية عدد من الأطباء الفلسطينيين القادمين من تركيا، وآخرين، كلهم ذوو كفاءات، لكن ما باليد حيلة، (مكتوب على الفلسطيني أن يظل يعاني حتى يموت)، ولقد كانت رائحة تلك الغرفة منتنة حد الجنون.

أجمل ما في غرفة الحجز أنني تعرفت على صديقي صهيب، ذلك الشاب الفلسطيني اللبناني، القادم من الدنمرك لمصر لإبرام صفقة عمل، كم كان رائعاً ذلك الشاب، أحببته كثيراً، أحببته كأني أعرفه منذ الخليقة، المهم كانت لدي رغبة عارمة بالحصول على صورة معه، إلا أنني آثرت الهدوء كي لا أتعرض للإهانة كما جرى مع البعض، ولعل ما زاد من حنقي حينها هو إدخال اثنين من الفلسطينيين القادمين من السعودية، وهما معاقين جسدياً وعقلياً، وكان بانتظارهم أحد أعمامهم في الخارج، لكنهم باتوا معنا تلك الليلة أيضاً في غرفة الحجز، وقام شباب غزة الرائعون بكل واجب، فقد أحضروا لهم الطعام والشراب وقاموا بفرش غطاء أرضي لهم و..و..و. (يا الله ما أروع غزة بأهلها). خلال ذلك كنت أتبادل أطراف الحديث مع صديقي صهيب ومعاناته، ففوجئت بأن معظم الشبان المحجوزون هنا لديهم فيزا لدخول مصر لكنهم رغم ذلك يتم ترحيلهم لشيء يعلمه الله وأرباب السياسة العرب.

الغرفة تشعرني برهبة مخيفة، هي زنزانة والجلاد، فما هو مكتوب على الجدران من كلمات وجمل تحمل في معانيها الكثير الكثير من الألم والهم، فمكتوب مثلاً (رحل مبارك وما زلنا نرّحل/ عاشت سوريا/ لا للترحيل/ تحيا الثورة الليبية/ ابتسم أنت في أم الدنيا) والطريف في ذلك أن أحدهم كتب على الجدار رقم هاتف لأحد المطاعم واسم صاحبه، كي يتواصل المحتجزون معه لإحضار الطعام للمحتجزين الذين يأتون وهم جوعى، فالطعام الذي يحضره المصريون سيء إلى أبعد الحدود.

الساعة الثامنة صباحاً، يأتي مندوب سفارتنا الغراء، يتطاول علينا كأنه ليس فلسطيني، يشتم ويصرخ، والحقيقة أنني ظننته في البداية مصرياً، لكنني عرفته بعد ذلك بكرشه الممتلئ بخطايا أهل غزة، وبنغمة هاتفه المحمول (عليّ الكوفية عليّ ولوّح فيها) والكوفيه تلعنه ألف ألف مرة.

 لقد كان دور السفارة تماماً مثل البوسطجي الذي يستلم المجرمين، عفواً الفلسطينيين لإعادتهم إلى معبر رفح، مع استغلالنا قليلاً، حيث أن كل شخص مضطر لدفع 120 جنيه للحافلة كي يصل المعبر بسلام، وهنا يجب أن أعرف: من المسئول عن هذه المهزلة بحق أهل غزة، مصر أم إسرائيل أم حماس أم فتح أم أبو مازن أم أمريكا أم من؟؟!

رحمك الله يا أبا عمار، فقد كنت تطمح لأن نكون مستقلين عن الدنيا كلها، دون الحاجة للآخرين.

رحمك الله يا أبا عمار فقد بنيت لنا مطاراً أضعناه بأيدينا.

                

*عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين