بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

يومياتي في أمريكا:
بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

(1)

من الأمثال التي تتردد كثيرا  فى عالم الكتابة  يقال  " إنه كالعنوان يكتب آخرا ويقرأ أولا " .

ولكن عنواني هذا " في بلاد الكلاب والخضرة والآيس كريم " قصدت وتعمدت أن يكتب أولا ، ويقرأ أولا ..  وما قصدت به إلي الإثارة ، ولكن لإبراز ما رأيت على مدى المدة التي  قضيتها فى الولايات المتحدة – وهي عام وأيام . وإن شئت فقل إنها كانت معايشة أكثر منها رؤية ومشاهدة .

ثم إن هذه الثلاثية : الكلاب .. والخضرة ... والآيس كريم تمثل عناصر سلوكية ثلاثة تهيمن على المجتمع الإمريكي .

أولها : حب الكلاب  ، واقتناؤها  ، والاهتمام بها: ظاهرا وباطنا : فمظهر الكلب لابد أن يكون لطيفا  .. جميلا ، وللكلاب " كوافيرات " خاصة تقوم  للكلب بعملية الحلاقة ، وتصفيف الشعر والتجميل .

وللكلاب أركان كبيرة واسعة لعرض للأطعمة فى محلات البقالة  " والسوبر ماركت "  .

وهذه الكلاب تخضع لنظم دقيقة فى تناول طعامها ، كما تخضع للعناية والكشوف الطبية والعلاج،  وأشهد أنني لم أر كلبا مما نسميه فى مصر " الكلاب الضالة ، تلك التي يطاردها رجال البلدية  ، ويقتلونها فى الشوارع بالسم ، أو بإطلاق بنادق " الخرطوش عليها "  أو " القبض عليها بسلسلة آخرها خيَّة تضيق على عنق الكلب ، ويحمل بهذه السلسلة الحديدية  ليوضع فى سيارة صندوقية ضخمة إلى حيث يعدم فى ساحة بعيدة عن المساكن .

والكلاب فى أمريكا أشكال وألوان – فمنها الضخم ... ومنها الوسط ... ومنها الصغير جدا الذي  لاتلد أنثاه إلا بعملية قيصرية ، ولكل نوع هواته ومحبوه .

والكلاب  تؤدي مهماتها فى المجتمع ، فهناك كلاب الحراسة ، وهناك كلاب الصيد ، وهناك كلاب الجليد التي تقوم بإنقاذ ضحايا العواصف الثلجية , أو تحديد مكان من دفنه الجليد .

    وفى مدينة " نيوهافن " التي عشت فيها تجد الأشجار يومي السبت والأحد تحمل إعلانات عن فقد كلاب .. والإعلان غالبا ما يحمل المضامين الآتية :-

أ‌-  فصيلة الكلب وشكله الخارجي : طولا وقصرا ولونا ... وأحيانا صورة للكلب مع الإعلان .

ب‌-  ذكر عنوان صاحب الكلب ورقم هاتفه

ج‌-  وعد بجائزة لمن يعثر على الكلب ، ويقدمه لصاحبه . والجائزة غير محددة أحيانا كأن يكتب " جائزة أو جائزة قيمة  وأحيانا تكون محددة مثل : مائة دولار لمن يعثر عليه .. الخ .

ومن منطلق الاعتزاز بالكلاب مايجريه الأمريكان من عروض لها ،  ومسابقات فى الجمال ، ومسابقات فى الجري ، وقد شهدت أمام مسكني فى مدينة نيوهافن  عددا من الطلبة والطالبات .. يجرون مسابقة بين كلابهم وقد علا الجليد فى الأرض إلى قرابة نصف متر ، وخلاصة المسابقة أن يقذف  حكم المباراة بعدد من العملات المعدنية  فى الهواء ، فتغوص فى الجليد فى مربع مساحته قرابة 200 متر مربع ، وتطلق الكلاب فى وقت واحد ، وكل منهاينبش بسرعة ونشاط لاستخراج العملة  من باطن الجليد ، والكلب الفائز هو الذي يستخرج أكبر عدد منها ،

ومن الأمريكان من يكتب فى وصيته جزءا كبيرا من ثروته لكلبه بعد مماته .

واذا مات الكلب دفنه صاحبه بحديقة منزله فى قبر رخامي رائع الجمال .

واعتزازا بالكلاب  قامت مظاهرات صاخبة ضد المسئولين الذين أجازوا إجراء  تجارب على الكلاب فى مجال الطب وأثر العدوى . وخصوصا بالنسبة للأمراض والآفات الواردة من الخارج .

واعتزازا بالكلاب كذلك تطرح دور النشر عشرات بل مئات من الكتب التي تعرض أنواع الكلاب ، وخصائص كل نوع ، والطريقة المثلى لتربية الكلاب .

**********

وثمة سؤال يلح علي أحباب الكلاب , وهو :  لماذا خصوا بحبهم وولائهم الكلاب دون غيرها من الحيوانات الأخرى ، وخصوصا القطط ؟.

وكان الجواب : لأن الكلاب ساعدت  الآباء الرواد الذين عاشوا فى أمريكا ، وساحوا فيها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.

ولأن الكلاب  أذكى من الحيوانات الأخرى وأكثر ولاء وإخلاصا لصاحبها .

وتروي بعض الكتب مظاهر متعددة لهذا الولاء منها : انتحار الكلاب بعد موت أصحابها .

   كما أن الكلب مطيع دائما , فهو ملازم لصاحبه , ويسايره ويسير معه فى الأماكن التى يريدها . بعكس القطط مثلا فالقطة وديعة هادئة لكنها تنفر من الناس ، ولا تعرف  حبا لأحد ، ويعجز صاحبها عن جعلها تسايره وتمشي معه في الطريق ، بل إنها تهرب إذا سنحت لها الفرصة .

ومن أشهر الكتب التي قامت بتقديم الكلاب وعرض أنواعها وخصائصها والطرق المثلي لتدريبها وإعدادها للمسابقات :      ENCYCLOPEDIA OF DOG.

ومن الافتراءات التي يروج لها الغربيون أن العرب والمسلمين قساة القلوب في التعامل مع الحيوانات الأليفة . وهذا كذب بواح ؛ فمن يقرأ باب الرثاء يرللحيوان فيه حظا وافيا . فالشاعرأبو الأنوار السجستاني يرثي حماره بقصيدة طويلة , منها قوله :

أقولُ وفي نفسي الكسيرة كربة            "كذا فليجل الخطبُ وليفْدح الأمرْ

ولو صح أن تفدي فديتك طائعًا            وقلتُ فداك المالُ والنعمُ الحمر"

وأبو نواس يقول في رثاء كلبه " خلاب "

يا  بؤس  كلبي   سيد  الكلاب         قد كان أغناني عن العقابِ

يا عينُ جودي لي علي خلاَّبِ          من للظباء  العفر والذئاب؟

ونلتقي بأحد الشعراء، وهو في هم عميق، فقد رشَق صبيَّـان قطه الأثير حتى قتلاه، وكان يسمى قطه "الخناق"؛ لأنه كان للفئران والثعابين في منزله بالمرصاد. فقال راثيًّا مهددًا قاتلَيْ قطه:

قضى الخناقُ يا لهفي عليه           ألا ما شدَّ  حاجتنا  إليه

يروع  فأرَها،  ويقطُّ  أفعَى          سأثأر عاجلا من قاتليْه

***

وأولى من ذلك بكثير رثاءُ الشاعرِ أبي الحسن التهامِّي لقطه الذي سقط في بئر عميقة ومات، يقول الشاعر التهامي:

ولما طواك البينُ، واجتاحكَ الردَى              بكيناكَ ما لم نبْكِ يوما على قط

ولو  كنتُ  أدرى  أنَّ بئرا تغولني               بمثواكَ فيها لاحتبستك بالربط

ولكن   أيدي   الحادثات  بمرصد               إذا أرسلت سهم المنيةِ لم تحط

وإذا كان القط قد حظى بحظ وافر من الرثاء، فإن الشاعر القاسمَ بن يوسفَ لم ينْس أن يرثي هرته التي كان هو والجيرانُ يحبونها، ويأنسون إليها. يقول الشاعر:

          يقولون كانت لنا هرةٌ               مربـية عـنـدنا تالـده

         وكنا بصحبتها حامديـ             ـن وكانت بصحبتنا حامدة

          فعنَّ لها عارضٌ للردى           فأمـست بتـربتها هامـدة

وللقاسم بن يوسف كذلك قصيدةٌ طريفةٌ يرثي فيها عنزهُ السوداء التي وافتها منيتها فجأة، وهي قصيدة لم تَخْلُ من طوابع غزلية. ونقتطف من هذه القصيدة قوله :

عين  بكِّى لعنزنا  السوداء                كالعروسِ الأدماء يوم الجلاءِ

أذن سبـطة، وخـد أسيلٌ                وابتسامٌ عـن واضحات نقاءِ

***

ونرى لأبي بكر العلافِ قصيدة في "رثاء هر" . كما نقرأ في العصر الحديث قصيدة للعقاد في رثاءِ كلبه الذي كان يسميه "بيجو" وحتى لا تضيق بنا الجولةُ في ديوان العرب، نقفُ لدقائقَ أمام ما قاله بعضهم من رثاءٍ في الطيور، " فالأصفهاني يرثي ديكه الذي سماه (أبا النذير).

            فكأنما نوبُ الزمانِ محيطةٌ             بي راصداتٌ لي بكل طريقِ

           ذهبت بكل مصاحبٍ ومؤانس             وموافقٍ ومرافقٍ وصديق

           حتى بديكٍ كنت آلفُ قربه              حسن إلى من الديوك رشيق

ثم يلتفت الأصفهاني إلى ديكه "أبي النذير" فيوجه إليه حديثه الباكي ويقول:

           لهفي عليكَ أبا النذير لو انه            دفع المنايا عنك لهف شفيق

          أبكى إذا أبصرتُ ربقك موحشًا           بتحنـن وتأسف وشهيـق

وعلينا أن نشيرَ إلى أنَّ هذا الغرضَ الشعري، ينم على عاطفة إنسانية بمفهومها الشاملِ عند الشاعر العربي، ولا عجب، فالرحمة في ديننا تتسع للحيوان كما تتسع للإنسان.

وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن يتخذ المسلمون الحيوانَ الحيَّ هدفًا للتدريب على رمي السهام. وهو القائل "في كل كبدٍ حَرَّى أجْر" . وهو القائل "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتتْ جوعًا، فلا هي أطعمتْها، ولا هي تركتها تأكلُ من خَشَاشِ الأرض" أي من حشراتها.

وينقل لنا التاريخ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يزحف بجيش المسلمين من المدينة   إلى مكة لفتحها رأى (كلبة) تُرضع أولادها، فخشى أن يَسحقها الزاحفون دون أن يشعروا، فأمر "جعيل بن سراقة" أن يقوم حذاءها ؛ حتى لا يعْـرِض لها أولأولادها أحد من الجيش  ، وأمر المسلمين أن يدخلوا مكة بروح الموادعة والرحمة والمسالمة بلا قتال .

**********

والأمريكان يقدرون – بل يقدسون – الخضرة ...  وهي تفرش الشوارع فى كل مكان ، كما أنهم يفضلون المساكن ذات الحدائق أكثر من غيرها ، بل إن المنزل ترتبط قيمته بمساحة حديقته ، وأنواع الأشجار والخضرة التي تضمها حديقة المنزل .

    وهم يهتمون بزراعة الأشجار والورود والزهور فى بيوتهم وفي الحدائق العامة وفي الأرصفة . ومن كثرة ماكنت أرى من الخضرة اشتقت أن أرى قطعة أرض صحراوية صفراء .

ولا أنسى حينما توجهت من مدينة نيوهافن إلى نيوجرسي مررت على أطراف نيويورك فرأيت عجبا : تلالا من الخضرة  منظمة منسقة بشكل يأخذ النظر , وعجبت من ذلك وقلت كيف يستطيع الإنسان أن ينظم الصخر بهذا الشكل ويستزرعه ؟!!!   قال صاحبي " البركة فى الزبالة " وأخبرني أن هذه التلال العالية من صنع الدولة والتربة هي الزبالة التي تجمع وتدق فى هذه التلال , ويتحكم المسئولون  في ارتفاع هذه التلال  بدق الزبالة فيها , ثم بعد ذلك يضيفون إليها تربة طينية وتزرع . ويخيل للناظرين إليها أنها تلال طبيعية  ضمت غابات ونباتات خضراء .

وهذه الصورة صورة عامة منتشرة فى كل أرجاء الولايات المتحدة .

**********

أما الأمر الأعجب الذي لا أستطيع أن أعلله حتى الآن فهو : حرص الأمريكان على التهام الآيس كريم فى عز البرد القارس ، وقد تكون درجة الحرارة 20 تحت الصفر ، ومع ذلك يحرص الأمريكان على التهام الآيس كريم  ومداعبته بأفواههم وألسنتهم ، ولا يعد من قبيل العيب أن ترى شابا  أو رجلا مسنا وقد أمسك بعبوة آيس كريم يأكل منها "ويلحسها "  أمام الناس جميعا .

إن هذه الثلاثية : الكلاب ، والخضرة ، والآيس كريم هي من أظهر الملامح التي رأيتها للشعب الأمريكي من خلال إقامتي هناك .

وأعتقد أن ما رأيته  يعتبر من أهم الملامح الأمريكية التي رأيتها طيلة حياتي ، فلا مبالغة إذن حينما حكمت على أمريكا بأنها " بلاد الكلاب ... والخضرة ... والآيس كريم " .

ومن الأسبوع القادم – إن شاء الله – نلتقي مع يومياتي  ابتداء  من توجهي لهذه البلاد العجيبة ، وانتهاء بعودتي إلى مصر الحبيبة . والله ولي التوفيق.