الرحلة الأند

نوال السباعي

[email protected]

 "1"

"الموريسكيون..حقيقة تاريخية ودرس انساني موجع"

هذه هي المرة الاولى منذ ثلاثين عاما التي أقصد بها منطقة الجنوب الاسباني آتية من مدريد ، وبالقطار ، وهذه هي المرة الاولى التي اعيش فيها هذه التجربة الغريبة ، مواكبة خطوط سير سكان شبه الجزيرة الإيبيرية من المسلمين الذين طردوا من هذه البلاد واستؤصلوا عن بكرة أبيهم منها ، وهذه هي المرة الاولى التي استمع فيها وخلال ثلاثين عاما في اسبانيا الى برنامج اذاعي مدته ساعة ونصف بالتمام والكمال يتحدث جملة وببعض التفاصيل عن حياة "الموريسكيين" ، ومعاناتهم ، والطرق القذرة البشعة التي اتبعتها محاكم التفتيش لإبادتهم واجتثاثهم من أرضهم ودينهم ووجودهم الإنساني والحضاري ، تلك الطرق التي نجحت فيها مملكة" قشتالة "-حيث لم تكن اسبانيا في حينها تسمى اسبانيا أصلا ، ولم تكن حدودها الانسانية والثقافية والجغرافية معروفة كما هي عليه اليوم- أيما نجاح في إبادة شعب كامل ومحوه من الحاضر والمستقبل  ، وإلى درجة أن قررت فيها الامبراطورية القشتالية بقيادة الكنيسة الكاثوليكية في حينها  تجربة حظها مع شعوب أمريكا الجنوبية وبنفس الطرق "الناجعة " التي اتبعتها مع مسلمي البلاد والذين كانوا سكان هذه المنطقة من العالم خلال ثمانمئة عام لاأكثر ولا أقل!! أي عشرة أجيال !، هكذا استطاع الاستعمار القشتالي القضاء على حضارة" المايا"  كما حضارة" الأندلس" ، وبطريقة فريدة من نوعها في التاريخ ! ، حيث لم يستطع أي استعمار أو استيطان أو غزو أو سمه ماشئت وعلى مر التاريخ استئصال العنصر الإنساني الديني الحضاري لشعب من الشعوب على الطريقة "القشتالية" كما حصل في كل من الأندلس وأمريكا الجنوبية ، لقد تجاوزت أعداد الذين تمت إبادتهم على يد هذا المستعمر المتوحش المسلح باسم الدين والرب سبعين مليوناً في أمريكا التي أصبحت اليوم تسمى باللاتينية ، كما تم تحويل وقتل وإجلاء الملايين من المسلمين من الأندلس في حينه !.

في الطريق من "ألكانتة" إلى "بنيدورم" أحد أهم المنتجعات الاسبانية شرقي اسبانيا على شواطيء المتوسط ، كانت الاذاعة الوطنية الاسبانية الاولى – راديو ناثيونال1- تقدم برنامجا وبالوثائق التاريخية ، وباستعراض آراء العدديد من المؤرخين اليهود  والاسبان والفرنسيين والانكليز ، عن "الموريسكيين" ، وهم المسلمون واليهود الذين بقوا في الأندلس بعد أن سقطت بيد القشتاليين ، ومعانتهم خلال ثلاثمئة عام .. ثلاثة قرون ، تحدث المذياع عن ذلك الارهاب المنظم الذي كان يمارس ضد الناس لإرغامهم على تغيير أسماء أولادهم وحاراتهم وشوارعهم ومدارسهم ، ارهاب بقوانين حكومية تدعمها الكنيسة يحمل الناس على تغيير ملابسهم ..ألوانها وأشكالها ، يجبر الناس على ترك عاداتهم الدينية ، فلاختان ، ولاأعراس إسلامية أو يهودية ، ولاغسيل للموتى ، ولادفن على الطريقة الاسلامية أواليهودية  ، ولاغسل من جنابة أو حيض أو نفاس ، ولاصلوات علنية ولاسرية ، الأبواب يجب أن تبقى مفتوحة ليُراقب كل ما يجري في بيوت القوم ، ولاتكفي العين والأذن  للاتهام والريبة والشك ثم تقديم البلاغ ، فلقد دخل الأنف كذلك حيز العمل في المخابرات القشتالية تلك ، فكل من تفوح من بيته رائحة القلي والطبخ والنفخ بالزيت هو مسلم أو يهودي لامحالة ، لقد صدر أمر بإرغام الناس على الطبخ بدهن الخنزير وحسب ، وكل من يُضبط متلبسا بالطبخ بغير هذا الدهن يُساق الى محاكم التفتيش ليُحرق في الساحات ، لقد حُرّمَت في مملكة قشتالة كل روائح العطر والطيب سواء خرجت من طعام أو إنسان أو دار ، وعاشت مملكة الرعب تلك على رائحتين فحسب رائحة دهن الخنزير ورائحة شواء اللحم الإنساني !!.

لاعتب على المستعمر الأمريكي في غونتانمو أن لجأ إلى حرمان المعتقلين من حواسهم الثلاثة ، ولكن لم يبلغ به الحال أن حرم الناس من حاسة الشم والذوق ، فهذه طبقة من التوحش لم نسمع عنها إلا في مملكة قشتالة التي كان ملوكها قد وقّعوا على وثيقة "شرف" يوم تسليم غرناطة بحماية أعراض الناس ودينهم وعدم الاساءة إليهم في عاداتهم المعيشية والحضارية ! لقد كان حبر الغدر على ورق النصر !!.

قرأت كثيرا عن محاكم التفتيش الكنسية في مملكة قشتالة  ولكن أن تسمع تلك المعلومات في الراديو القومي الرئيسي ولمدة ساعة ونصف في تحقيق علمي موثق ، فهذا أمر آخر مختلف تماما !، يقال أن مدينة ألكانتة الاسبانية الشرقية السياحية سُميت بهذا الاسم بسبب رجل مجنون  يدعى "علي"  كان يتجول مؤذنا في الشوارع فظنه المستأصلون مُغنيا ، وسميت البلدة باسمه ، "ألي كانتِه" ، تعني بالاسبانية "علي غنِ" ، لاأريد أن أحرف الأسماء على الطريقة الليبية فأنسب كل لغات الأرض إلى اللغة العربية ، ولكن مما لاشك فيه أن 11% بالمائة من الكلمات في اللغة الاسبانية الحالية المعاصرة هي كلمات عربية باللفظ والمعنى ، وحتى منتجع "بنيدورم" السياحي على الشاطيء يحمل اسما عربيا صرفا "بني دورم" ولو أنني لاأعرف أصل اشتقاق " الدورم" هذه ، وأترك هذه المهمة للباحثين المشتغلين في هذه الآثار اللغوية والكنوز المعرفية التي تمنحنا بين الحين والحين مبررات حقيقية لاستئناف التفكر والتدبر في موضوع التاريخ الاسلامي في الأندلس ، نشأته ، قيامه، انحساره ، ومن ثم سقوطه واستئصاله بأبشع طريقة ممكنة .

هل ُتُعلمنا هذه الاكتشافات شيئا ؟ هل نفيد مما نتعلمه؟ هل استطاع "العرب" إدراك ذلك الدرس التاريخي الرهيب ؟! وماعلاقة ذلك التاريخ بنا اليوم ، ومازلنا وبعد مرور خمسمئة عام عليه نعيشه وكأنه ماثل اليوم بأشخاصه وأحداثه في ضمائرنا لايكاد يغيب عنها؟ ، لفت نظري كثيرا ماكتبه الدكتور زروق في العرب القطرية يوم الثلاثاء 642010 تحت عنوان "رمزية المكان بين العقل والعاطفة" إذ قال:"ان مسجد قرطبة الذي نشبت فيه مشادة بين سائحين من الشباب النمساويين المسلمين وبين قوى الأمن الاسباني ليس ءاولى القبلتين ولاثالث الحرمين"!! ، لقد صدق في هذه الملاحظة التاريخية الى درجة وجب معها أن نقف لديها وقفة مراجعة شاملة مع أنفسنا في زمن لايتجرأ فيه مسلم غير فلسطيني على اختراق الحصار الاسرائيلي الصهيوني والاقدام على الصلاة في اولى القبلتين وثالث الحرمين الأسير !،و في وقت  زالت فيه مملكة قشتالة وأصبحنا نعيش واقعا تاريخيا مختلفا عن ذلك الذي كان سائدا قبل مئات الأعوام، كثير من الكنائس القديمة أصبحت اليوم مساجدا ، وكثير من المساجد القديمة صارت اليوم  كنائس ، بفعل الأعراف الحربية التي كانت سائدة  في حينه على الرغم من أن عمر بن الخطاب كان قد تنبه قبل 1500 عام إلى هذا الخطأ الإنساني الفاحش ، فرفض أن يصلي في كنيسة القيامة خشية أن يتخذها المسلمون مسجدا من بعده فيغصبون النصارى حقا تاريخيا دينيا!. لقد تبدلت أجيال وأجيال من بني البشر ، فلا الاسبان اليوم هم جند قشتالة ولارجال دينها القساة المتوحشين ولاشعبها الخانع الذليل المصفق للطغاة المجعجع للغالبين الواشي بالضعفاء والمساكين، ولا المسلمون المقيمون فيها هم من الموريسكيين الذين غُلبوا على أمرهم ، وساقتهم أقدارهم إلى مصير يستعيذ من مثله أهل الأرض جميعا !.

لماذا حدث ماحدث في قشتالة بعد سقوط غرناطة؟! ، أظن أن هذا هو السؤال الذي بقي يتردد منذ خمسمئة عام على أذهان كثيرين جدا ومن مختلف أصقاع الأرض ، من مختلف الانتماآت الدينية والعرقية والقومية ، ولعل هذه الحال من الألم التاريخي الموجع لدى المسلمين كلما ذكروا الأندلس تتعلق بعدم وجود إجابة شافية واضحة على هذا السؤال !، لقد اكتشفت في رحلتي هذه كثيرا من الأشياء التي لاأستطيع معها أن أسمي هذه الحالة "حالة أندلسية" ، إنها "ألم أندلسي" قديم ، اختلط فيه الحابل بالنابل ، فلاندري ونحن نتحدث عنه عن ماذا نتحدث بالفعل؟ ، عن استئصال ذلك الشعب؟ ، عن إبادته عن بكرة أبيه؟ ، عن توحش الانسان باسم الدين وتغوله إلى درجة تحوله إلى مصاص دماء يقوم بجرائمه بتفويض من السماء؟ ، أم عن الحرب الأهلية الاسبانية التي أحيت ماأحيته من آلام وجراح ووحشية بين الأخ وأخيه في نفس المقاطعة الاسبانية الجنوبية التي تحمل اسم "أندلوثيا" – الأندلس-؟ ، أم أننا نتحدث عن فلسطين اليوم التي نعيش مأساتها دقيقة فدقيقة وعلى الهواء مباشرة في حال من العجز والوهن والخذلان تشبه الى حد بعيد ماواجه به المسلمون قبل خمسمئة عام محنة اخوانهم في الأندلس؟ ، تغير الزمان وتغير المكان ، ولكن المرض لم يتغير ، مرض تسليم الأخ أخاه إلى الذبح صمتا وخذلاناً.

تحكي الوثائق التاريخية أن بعض الموريسكيين بذل كل مايملك من مال لتغيير اسم عائلته وتاريخ شجرتها ، حتى لايعرف له أصل ولافصل يمت إلى الاسلام أو إلى اليهودية بصلة ، ولكن وعلى الرغم من ذلك فان الكنيسة لم تشفع له ولا لذريته ، وبعد مائة عام استُأصِلت تلك الأسر التي ٌيشتبه في أنها من أصل غير كاثوليكي من البلاد ، وطرد الناس عبر معابر مخصصة عن طريق بلنسية وألكانتة وجبل طارق ، ولما تم الخروج الكبير والأخير  الذي احتفلت به مقاطعة "بالنثية" قبل أشهر باعتباره عيدا وطنيا ، خرجت إليهم في الطريق عصابات منظمة من القشتاليين من قطاع الطرق واللصوص لتغتصب نساءهم وصبيانهم وتذبح أطفالهم ورجالهم ، ثم أغرقت السفن التي استطاع البعض أن يستأجرها بشكل سري ونهبت الأموال ، وتم خطف الاطفال الذين تم بيعهم الى الأسر القشتالية لاحقا .

يتحدث التاريخ عن فظائع البربر والمغول والرومان والأتراك والقياصرة سابقا ، وعن مذابح اليهود والصرب ووالانكليز والفرنسيين والأمريكان والهوتو في حاضرنا الأليم ، يتحدث عن الجند الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا عالي أهلها أسافلا ، فهل يمكن للتاريخ أن يحتمل قدرة الانسان على إعادة الخطأ ألف مرة ، قاتلا ومقتولا ، ظالما ومظلوما ، طاغية وراضخا للطغيان ، رحم الله المورسكيون ، وغفر لهم ، وأعاننا على استيعاب الدرس التاريخي الأليم الذي يحلو للبعض أن يدندنوا به متلاعبين بعواطف الجيل المعاصر الذي يجب عليه أن يقرا التاريخ قبل أن يبحث عن مكان له فيه في المكان الخطأ والزمان الخطأ.  

كانت هذه أول محطة لي مع "الرحلة الأند...."  والتي لاأستطيع أن أسميها "الرحلة الأندلسية" ، لأنها كانت أي شيء إلا أندلسية!!.

-يتبع-