رحلة إلى الحرمين الشريفين

رحلة إلى الحرمين الشريفين

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

كانت رحلة العمرة موفقة – والحمد لله – ذهاباً وإياباً ، فقد كان الباص جديداً ومريحاً ، وكان العُمـّار متجانسين ثقافة ، وكان جلهم من الأصدقاء أوالجيران . فقد جهدنا أن يكون المعتمرون من حي واحد  وعلاقة اجتماعية طيبة ، حتى إننا اشترطنا على المدخن منهم أن يمتنع عن التدخين في الباص ، ولا مانع أن يفعل ذلك حين ينزل في الاستراحات لتناول الغداء أو العشاء أو أداء الصلوات ، وهكذا كان ...

انطلق الباص في رحلته من الزرقاء – فأغلب المعتمرين هناك في حي " وادي الحجر " وأكثر قاطنيه " سبعاويون " من بير السبع ، وقد عهدنا فيهم الشرف والمروءة والشمائل الحميدة . ومن " حي جناعة " المتصل بذلك الحي ، فكأنهما حي واحد .

أما واعظ الرحلة فالنائب البرلماني السابق الشيخ الفاضل " ذيب أنيس " والحقيقة أنه حمل من اسمه الصفة الثانية فقد ، فقد كان أنيساً ولطيف المعشر . وقد تعرفت عليه عام ثمانين وتسع مئة وألف – منذ سبعة وعشرين سنة – حين لجأنا إلى الأردن المضياف من سطوة الظلم والإرهاب للنظام السوري . ويضاحكنا حين يقول : صحيح أنني ذيب ، لكنني أنيس .

قال لي الشيخ في زيارة له : ألا تود الاعتمار يا أبا حسان ؟ - وكنا في أواسط شهر أيار – مايو- من هذه السنة 2007 ، أي قبل شهرين من توثيق الرحلة . قلت أود ذلك – والله – وأنتظر الفرصة في أوائل الشهر القادم بعد أن أجدد جواز سفري – وقد ظللنا من عام ثمانين وتسع مئة وألف إلى عام ألفين وخمس دون وثائق ، فقد حاربنا النظام السوري حتى في الوثائق ، ثم بدأ بعد ضغط الحكومات الغربية يعطينا جوازات السفر – معشر المعارضين لظلمه وإرهابه – بعد خمسة وعشرين عاماً – سنتين فقط ، تجدد سنتين أخريين وفي كل تجديد يغصبني أربع مئة دولار .. إنه نظام وطني أليس كذلك ؟ !! وكثير من العرب مخدوعون بهذا النظام العفن ، يصدقون كذبه مما يدل على أن الكثير منهم ضائع في متاهات هذا النظام الذي يتنازل للجميع ، إلا لشعبه فهو يكويه بأفانين العذاب .

قال الشيخ أبو محمد : بل كن رفيقنا في رحلتنا إلى الديار المقدسة .

قلت : وهل أرى خيراً من صحبتكم يا شيخنا ؟

انطلق الباص بنا ظهر الخميس الواقع في الخامس من تموز " يوليو " ينهب الطريق مسرعاً نحو الجنوب ، ودعا الجميع وراء الواعظ دعاء السفر .

استرحت للسائق " أبي إسلام " فقد كان له من اسمه نصيب ومعاونه " أبي ثائر" فقد كان هادئاً ودوداً على غير اسمه ، وقد بدأا يتعاوران القيادة ، وإذاعة الباص تسمعنا بعض الأناشيد الإسلامية أو تلاوات بعض السور ، وقد يقوم  شيخنا أبو محمد بين الفينة والأخرى بإلقاء بعض الأحاديث المشوقة ذات الفائدة ، وقد يطلب إليّ أن أحدث الإخوة المعتمرين ، فأفعل ذلك .

توقفنا في القطرانة الأردنية نصلي الظهر والعصر جمع تقديم ، ثم نستمر في الاتجاه جنوباً حتى نصل إلى الحدود الأردنية " المدوّرة " فتنتهي معاملة الخروج منه في ساعة من الزمن ، وكان الجو حاراً على عكسه يوم كنا في العاصمة الأردنية عمان . وأجابوني حين استفسرت عن تغير الطقس : إننا في مكان منخفض عن عمان ، بل إننا بدأنا نُصحر ، وجو الصحراء حار في النهار ، لطيف في الليل .... ثم ندخل الأراضي السعودية ، لنبقى ساعة أخرى ، ثم يُسمح لنا بالمسير دون تفتيش يُذكر .

كانت شمس الأصيل ترسل أشعتها  على الرمال فتتوهج توهّج الذهب الأصفر المائل للحمرة ، وتخترق زجاج الباص ، فتخفف من برودتة الاصطناعية ، فترتاح الأعصاب ، وتهدأ النفوس إلى هذا الجمال الطبيعي فتلهج الألسن بذكر الله تعالى الخالق المبدع . ولم تمر ساعة حتى بدأت الشمس تنحدر خلف الجبال البعيدة تودعنا متجهة إلى الغرب ، وهذا دأبها منذ أن خلقها الله تعالى ، ولن تخلف هذا المسار إلا حين يأذن الله تعالى لها أن تخرج من مغربها حيث يُغلق باب التوبة ، اللهم تب علينا وتقبل منا حبنا وعبوديتنا ، واجعلنا لديك من المقبولين  يارب ..

صلينا المغرب والعشاء جمع تقديم في إحدى الاستراحات جنوب " تبوك " هذه المدينة السعودية التي تبعد عن الحدود الأردنية السعودية تسعين كيلو متراً ، وهي المدينة التي زحف إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثين ألف مقاتل من أصحابه يتحدى مئتي ألف من جند الروم الذين فكروا أن يهاجموا مدينته المنورة ، فنصره الله تعالى بالرعب ، فانسحب ذلك الجيش الذي يفوق جيش المسلمين بسبعة أضعافه إلى الشمال الأردني غير راغب بقتال المسلمين . وكيف يجرؤ على قتال ثلاثين ألفاً وقادة الروم لا يزالون يذكرون أنهم لم يستطيعوا النيل من ثلاثة آلاف من المسلمين في غزوة مؤتة وقد كان الروم آنذاك أكثر من مئة ألف مقاتل – وهذا يعني أن مسلماً واحداً صمد أمام ثلاثة وثلاثين رومياً – وكان المسلمون بقيادة سيف الله خالد بن الوليد ، وهم الآن بقيادة بطل الأبطال وسيد ولد آدم وخير الخلق عند الله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ؟! . وتذكرت قصة أبي ذر رضي الله عنه  لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى سواده من بعيد : كن أبا ذر ، ثم يقول : رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده .

ليت المسلمين يتمسكون بدينهم ويعودون إلى ربهم ، ويفيقون من سباتهم – فقد طال رقادهم – ليعودوا سادة الأمم وقادتها ، فالدنيا أضحت ظلاماً ، والظلم شريعة الغاب .. ليت المسلمين يعرفون مكانتهم في ريادة العالم فينقذوه من وهاد الفساد ومستنقع الضلال !

والجميل في كل استراحة في الأراضي السعودية أنها تحوي مسجداً للرجال وآخر للنساء وموضئات كافية نظيفة ، ومطعماً ،وسوقاً كبيرة ، ووقوداً للسيارات ، وورشات تصليح لها ، وأماكن استراحة يأوي إليها المسافرون ليلاً أو نهاراً . وهي منبثة على جانبي الطريق بكثرة .

كان أكثر المسافرين نائمين حين جلست إلى السائق أسامره وقد اقترب من " تيماء المدينة " التي تبعد عن تبوك جنوباً ثلاث مئة كليلومتراً ، ودخلناها لنرى شوارعها عريضة نظيفة ، وعلى جانبيها وفي وسط الشارعين المتعاكسين أشجارٌ وزروع تضفي عليها الأنوار القوية جمالاً وبهاء ، وتذكرت أننا حين جئنا عمان من الجزائر عام ثمانين من القرن الماضي ، وقدمنا طلباً للعمل في السعودية عينت زوجتي معاونة للمديرة في ثانويتها الوحيدة إذ ذاك ، لكننا رغبنا البقاء في عمان سنتين اُخريين حتى عام اثنين وثمانين،  ثم انتقلنا للعمل في دولة الإمارات ، حيث بقينا فيها ستة عشر عاماً .

استرحنا في تيماء المدينة سويعة قصيرة جددنا فيها النشاط الجسمي وتمتعنا بجو المدينة الصحراوي الليلي ، بل قل : تمتعنا بليل الواحة التيمائية ، وتمنيت لو أنني كنت من سكانها لهدوئها ، ورتابة الحياة فيها ، فمن يصبح على مشارف الستين يبحث عن الهدوء والسكينة ، ويرغب في الانعزال والتوحّد .

لم يبق بيننا وبين مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أربع مئة كيلو متر، فتيماء شمال المدينة ، بينها وبين تبوك .

بدأ الباص يسارع الزمن ، فقد وعدنا سائقه في بداية الرحلة بعد تيسير الله تعالى أن يوصلنا المدينة المنورة قبل صلاة الجمعة كي نتشرف بصلاتها في مسجد الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه . وكنا نرجو أن نصل قبل الظهر بوقت أطول كي ننام ونغتسل ونتطيب فندرك الصلاة في الحرم النبوي بنفس طيبة وثياب نظيفة ، فنزور الحبيب بما يليق من علو قدر المصطفى ، فنفعل كما فعل الأشج بن قيس حين وصل إلى المدينة مع قومه ، فأسرعوا للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بثياب السفر ، أما هو فتنحى جانباً ، ثم اغتسل وتطيب ، ولبس أجمل الثياب ، وانطلق لملاقاة الحبيب المصطفى ، فأفسح المجلس له وقال : إن فيك خلتين يحبهما الله تعالى : الحلم والأناة . قال : يا رسول الله ! أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما ؟ قال : بل الله جبلك عليهما . قال : الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله .

كانت الأرض تُطوى تحت عجلات الراحلة الحديثة ، لكننا اضطررنا أن نصلي الفجر قبل الوصول إلى المدينة بأكثر من ساعة قبل أن تتداركنا شمس النهار . ثم أسرعنا إلى الهدف المنشود ... لاحت عمائر المدينة الجميلة من بعيد ، فكنت ترى المسافرين ينظرون هنا وهناك ، ودبت الحركة في الباص . ووصلنا السادسة والنصف صباحاً ، وهنا أخبرنا الشيخ أبو محمد أن غرف الفندق لن تكون جاهزة قبل الثامنة ، فماذا نفعل بالوقت المتبقّي ؟! كان الجواب أسرع إلى قلوبنا من الماء البارد للظمآن . فسينتقل الباص بنا نحو بعض المعالم البارزة في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام . وبدأ بجبل أحد وجبل الرماة ، ومقابر شهداء أحد ، رضوان الله تعالى عليهم .كان الشيخ أبو محمد يشرح للمعتمرين باختصار معركة أحد وانتصار المسلمين الذي انقلب إلى هزيمة  قتل فيها العشرات منهم حين عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .ونزلنا أرض المعركة نتعرف عليها ،  فهذا جبل الرماة الذي وقف عليه أربعون من أصحاب السهام ، وقد وصاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوه أبداً ، فخالفوه حين ظنوا المعركة انتهت ، ففاجأهم خالد وكان مشركاً بخيّالته فقتل الباقين منهم ، وانكشف المسلمون ، فمن خالف تعاليم الرسول في حياته وبعد مماته خاب وخسر ، ومن تمسك بها فاز ونجا .

وهذا تجويف بين الجبل احتمى به رسول الله وأصحابه وتجمّعوا  حين أحاط بهم العدو ، وقد انهزم بعض المسلمين حين ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل . وبين الجبلين مقبرة الشهداء البررة .

ثم انتقلنا إلى مسجد القبلتين حيث صلى المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي العصر الأوليين إلى القدس ، فلما أخبرهم أحد المسلمين ممن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنوب حيث انتقلت القبلة إلى البيت الحرام ثم جاءهم فرآهم يصلون العصر فأخبرهم وهم يصلون فالتفتوا إلى الوراء،  واتجهوا للبيت الحرام  ، فأتموا إليه صلاتهم تجاهه فسمي مسجد القبلتين .

وأخذتنا الحافلة إلى مكان معركة الخندق حيث المرابط السبعة حيث جعلوها بعد ذلك مساجد تدل على تمركز المقاتلين فيها حين أحاط مشركو قريش وغطفان بالمسلمين ، وفوجئوا بالخندق يمنعهم أن يصلوا إلى المسلمين ، ثم أرسل الله تعالى على المشركين ريحاً وجنوداً لم يروها ، فعادوا أدراجهم خاسرين خائبين ، وطهر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من آخر ملاعين اليهود بني قريظة . نسأل الله تعالى أن يخزيهم ومن يمالئهم ، وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً ليطهروا فلسطين والبلاد العربية والإسلامية من رجسهم .

ثم انتقلنا إلى مسجد قُباء ، وهو أول مسجد بناه النبي صلى الله عليه وسلم في مهاجره . صلينا فيه ركعتين تعدلان عمرة كما أخبرنا الحبيب عليه أفضل الصلاة وأتم السلام . وكنتَ ترى في كل مكان زرناه آلاف الزائرين من كل لون ولسان وجنس فتتيقن أن هذا الدين هو خاتم الأديان وان الرسول الكريم خاتم الرسل الكرام ، وأن هذا الدين  باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

ثم هلّ علينا أنوار مسجد الحبيب المصطفى حين أقبلت الحافلة تهادى نحوه حتى أنزلتنا في فندق " جوهرة مبارك " الذي يبعد عن المسجد النبوي مئة وخمسين متراً فقط .. يا ألله .. ما أجمل جوار الحبيب محمد ؟! اللهم كما رزقتنا جواره هنا  فارزقنا شفاعته في الآخرة ، واحشرنا في زمرته تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظله .

كنا متعبين جداً.... دخلنا غرفتنا في الفندق ، فاغتسلنا وصلينا ركعتين حمداً لله على سلامة الوصول ، وغرقنا في النوم ثلاث ساعات حيث صحونا على رنين المنبه يقول لنا : بقي ساعة ونصف الساعة لصلاة الجمعة ، فاغتسلنا وانطلقنا إلى الحبيب .. لم تستطع زوجتي زيارته فللنساء كما يبدو وقت خاص للزيارة لا يزاحمهن الرجال فيه ، أما أنا فقد تقدمت إلى الحجرة النبوية .. لا أستطيع أن أصف ما كنت عليه من الحب الممزوج بالهيبة لمقام سيد المرسلين وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام . أتقدم بين الجموع الكثيرة ببطء حمدت الله تعالى عليه ، فماذا كنت أفعل لو وجدت نفسي فجأة أمام مقام الحبيب ؟! لعلي كنت أتلعثم ، وأستدعي الحروف والكلمات ، فلا تسعفني ! لكنني ضمن هذا الحشد المتعاظم كلما تقدمت خطوة أستجمع في ذاكرتي الجمل والتعبيرات أقولها حين أصل إلى الحجرة الشريفة .. الناس يصلون على رسول الله .. الأصوات تخفت حين تقترب من مقامه العظيم ... يلتفت الواصلون إلى نافذته فيسلمون عليه بخفر وحياء . .. العيون تدمع ،والقلوب تخشع ، وتتلعثم الشفاه بالحروف ، ثم ترجف الأضلاع وتزداد دقات القلوب ، حتى لتكاد تسمعها بأذنيك . ويشهد المسلمون لنبيهم صلى الله عليه وسلم أنه بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ،ونصح للأمة ، وكشف الله به الغمة . ثم يسألون الله تعالى أن يشفـّع فيهم نبيه الكريم .. ويطلون على الصدّيق أبي بكر رضي الله عنه فيسلمون عليه ، ويترضون عنه ، ويشهدون له بالفضل ، ثم ينتقلون إلى الفاروق رضي الله عنه ، فيسلمون عليه ويشهدون  بفضله ، رضي الله عنهما ، وأرضاهما ... هما رفيقاه في حياته وفي الممات ،  كان صلى الله عليه وسلم يحبهما  ، وكانا يحبانه

أحاول وزوجتي أن نصلي الأوقات كلها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، إن فيه الهدوء والسكينة ونتذكر كيف بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده من الخوص واللبِن ، وكيف كان يعمل يداً بيد مع أصحابه ، وهم يقولون :

               اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ....... فاغفر للأنصار والمهاجرة

ويرونه صلى الله عليه وسلم يحمل معهم الطين فينشطون قائلين :

                     لئن قعدنا والنبي يعملُ .......... لذاك منا العمل المضللُ

ونعود بالذاكرة إلى الوراء ، فنكاد نرى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم تقوم حول المسجد ، ونراه صلى الله عليه وسلم يستقبل فيها أصحابه وغيرهم .

ونكاد نرى النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس ويتخللهم بالموعظة ،ونراه صلى الله عليه وسلم يستقبل في مسجده الوفود ، ويرسل البعوث ، ويجيّش الجيوش ... فالمسجد منارة الحياة الإسلامية،  ونسغها الذي يوزع الدماء في جسمها الحي . وهذا ما انتبه إليه أعداؤنا فأرادوا أن يجعلوا المسجد بيتاً بارداً لا حرارة فيه ، فهو  - بزعمهم - مجرد مكان لأداء العبادة الباهتة الخامدة . فهل ينتبه المسلمون لما يحاك لهم في الخفاء ، وكذلك على مرأى ومسمع ؟!

زرت أخي مروان مرات ومرات ، فهو – لحظه المتألق والحمد لله تعالى – من أهل المدينة المنورة منذ سبعة وعشرين عاماً . لم أره منذ عشرة أعوام ، أكثرت من زيارته ، فهو من الأرحام ، وعلينا أن نتواصل معشر المسلمين ، فمن أراد أن يُنسأ له في أجله ويُبسط له في رزقه فليصِلْ رحمه . والتقيت بعض الإخوان والأحباب – وما أجمل أن يتواصل الإخوان والأصدقاء في الله – فهم امتداد الفكر والقلب والهدف . رؤيتهم نعمة ، ولقاؤهم استرواح ، وحديثهم أدب وأخلاق وعلم .

في المسجد النبوي الشريف دروس فقه ودروس للتفسير ، يتصدر لها بعض العلماء ، فيجتمع للمصلين في هذه الروضة الرائعة علم وعبادة ، بل العلم عبادة . كما سررت حين رأيت الشباب يتحلقون لقراءة القرآن بعد صلاة العصر وبين صلاة المغرب والعشاء ، ولا بأس أن ترى بعض الأصدقاء متحلقين بعد كل صلاة يتحادثون بصوت خفي لا يزعج الآخرين ، فيتجاذبون أطراف الحديث ، ويتذاكرون طفولتهم أوأيام شبابهم بأدب جم .. إلا أنني كنت أرى بعض المصلين يملأ الصف الأول بدشداشة أو عقال أو مقعد أو معطف ليأتي بعض أصحابه عند إقامة الصلاة فيتخطّون رقاب الناس إلى الصف الأول ، وبهذا يمنع المبكرين من احتلال الصف الأول لحساب المتأخرين .

إلا أن الروحانية تغطي على كل شيء ، فأنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

في  ظهر يوم الاثنين التاسع من تموز كنا جاهزين للذهاب إلى مكة المكرمة ، وجاءت حافلة سعودية حملتنا إلى "ذي الحليفة " أو أبيار علي نسبة إلى علي سلطان دارفور الذي حفر الآبار وجهز المنطقة لإحرام المعتمرين والحجاج ... وهناك اغتسلنا وصلينا ركعتي الإحرام ...

تقدم مني وأنا محرم شاب نيّر الوجه باسم الثغر يسلم عليّ باسمي : كيف حالك يا أستاذ عثمان ؟

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. لعلك أحد تلاميذي في دبي !

- نعم ؛ يا أستاذ  : أنا عمر القطامي أحد تلاميذك في ثانوية دبي .. أتذكرني ؟

- كيف أذكرك يا ولدي ، وقد غبتُ عن دبي عشرة أعوام ؟ ولعلك كنت تلميذاً لي قبل ذلك بسنوات ، كما أنني أرى أمامي رجلاً ، وقد كنتَ فتىً ، والملامح تتغير .

- أجل لقد كنت أستاذي منذ خمسة عشر عاماً . وتغيرت ملامحي كثيراً ، لكنك لم تتغير إلا قليلاً يا أستاذ

- طبعاً إن تغير الرجال قليل .. كيف حالك يا ولدي ؟ أقدمت وحدك للعمرة ؟

- أنا الآن من سكان مكة وأعمل في مؤسسة كذا ... وقد تزوجت ، ورزقني الله ولداً وبنتاً .

- قالها لكنني نسيت اسم المؤسسة .

- وقال إنه يتابع ما أكتبه شعراً أو نثراً في المواقع الالكترونية .. وقال : إنه نسي الكثير من أساتذته ، لكنه لا ينسى من غرس فيه بذرة الإيمان ، ورعاها سنتين ...

- حمدت الله تعالى على ذلك ، فله الفضل والمنّ ، وسألته تعالى أن يجعل ذلك في صحائف أعمالي ، وتذكرت قول زهير بن أبي سلمى :

          من يفعل الخير لا يعدمْ جوازيه ...... لا يذهب العرف بين الله والناس

انطلقت الحافلة تنهب الطريق مسرعة ، والشيخ ذيب أنيس حفظه الله تعالى يتحدث عن أركان العمرة ويفصل فيها كي يتمكن المعتمرون من أدائها على الوجه الصحيح ، وبدأ الناس يلبون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك .. وأعجب هذا النداء وتلك التلبية حفيدنا الصغير " أحمد يمان " ابن الأربعة أعوام فأخذ يردد التلبية بجد ونشاط  حتى خشيت عليه من بحة الصوت أو ضياعه ،وشاركه في تلبيته أخته الصغيرة بنت الثلاث بأسلوبها الفصيح المتعثر ، وضحكتها البريئة ، وابنة عمتها الحلوة اللطيفة " حسناء " بنت الرابعة وهي اسم على مسمى ، أما " مصطفى عبدان " أخو حسناء ابن الثامنة فقد كان رزيناً هادئاً . والأطفال يبعثون السعادة والأنس في كل لحظات الحياة حين ينالون حظهم من النوم والراحة والطعام ، فهم العصافير المغردة ، والرياض المتفتحة .

في منتصف الطريق توقفنا لصلاة الظهر والعصر جمع تقديم ، وللغداء ، واستأنسنا لحظات بعشيرة القرود التي كانت تلاحق – عن بُعدٍ- المسافرين الذين يقربون لها بقايا طعامهم ، ويداعبونها ، ثم تتسابق في إظهار مقدرتها في القفز واللعب علها تحظى باهتمام المسافرين وأُعطياتهم . هذه القرود تعيش في الوادي الذي يطل عليه المطعم ، ومسجد الرجال والنساء ، وقد كنا – في صلاتنا – نسمع القفز على سطح المسجد ونسمع أصوات القردة وزقزقتها .

وقبل المغرب بساعة كنا على أبواب مكة المكرمة وكانت الحافلة تسير متمهلة متجهة إلى المسجد الحرام ، فعلى مسافة مئتي متر على الأكثر " فندق الملتزم " الذي نزلنا فيه . وقد لفت نظرنا أن الغرفتين اللتين شغلناهما في المدينة ومكة كانتا في الدور الثامن ، الأولى تشرف على الحرم المدني ، والثانية على الحرم المكي ، وهذا من فضل الله علينا وكرمه .وكنا قربين من باب الملك عبد العزيز .

صلينا المغرب جماعة في المسجد الحرام ثم شققنا طريقنا إلى " الحجر الأسود " ولم نستطع لمسه ، فقد كان الزحام شديداً وطال الطواف ، فالدائرة عريضة والحركة بطيئة ، ثم صلينا خلف مقام إبراهيم ، وانطلقنا إلى المسعى ...

كان المسعى مزدحماً كذلك على غير ما عهدناه في السنوات الماضية في مثل هذه الأيام من كل سنة . وأُذّن للعشاء ونحن في الشوط الرابع ، وأقيمت الصلاة ونحن في الشوط الخامس ، فأديناها ، ثم تابعنا السعي .. ثم حلقت شعري امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " رحم الله المحلّقين " ، وحلق الجميع – تقريباً – حتى الصغار  . فأسأل الله أن يرحمنا  .

أقمنا في مكة حتى عصر يوم السبت الواقع في الخامس عشر من تموز " يوليو " ويسر الله تعالى لنا صلاة كل الأوقات في المسجد الحرام ، وهذا فضل عظيم ومنّة كبيرة . وقد كان الحرم يمتلئ عن آخره حتى في صلاة الظهر وقت الحر ، فترى الصحن ممتلئاً والرواق الخارجي ، والأوسط والأخير . نسأل الله تعالى عز المسجد الحرام ودوامه .

ولعل السبب في الزحام المستمر على دوام السنة أن العمرة باتت ميسرة سهلة في كل أيام العام ، فمن الأردن تخرج أسبوعياً عشرات الحافلات ، ومن سورية كذلك ، ومن مصر . ولعل نظام العمرة هذا تجده في كل الدول الإسلامية ناهيك عن المعتمرين القادمين بالجو ..

ومما يريح المعتمر أن الحرم مكيَّف على مدار الساعة في الرواقين الأخير والأوسط . كما أنك تبترد في الرواق الأول بما يصلك من التبريد القوي في الرواقين السابقين وبكثرة المراوح . أما في الصحن المكشوف فتجد الأرض مبردة من أسفلها ، فتشعر بالراحة وأنت تطوف بالكعبة المعظمة أو تجلس أمامها  .

وماء زمزم متوفر في الحرمين الشريفين بشكل كبير يقوم على توفيره جيش من العاملين ، وكذلك النظافة والخدمات العامة . والاهتمام بأمن الحجيج والعمّار واضح ومكثف .

كنا نود أن تطول الزيارة ، ولكنْ ماله بداية له نهاية ، ويظل الإنسان مسافراً متنقلاً إلى أن يلقى ربه . ففي عصر السبت صلينا الفريضة ، وطفنا طواف الوداع ، ورجونا المولى سبحانه أن يتقبل منا ، فهو حبيبنا وسيدنا ، وخالقنا وإليه مآلنا . وانطلق بنا الباص في طريق العودة ، فعرّجنا على المدينة المنورة دون أن ندخلها ، وكان الخروج من السعودية والدخول إلى الأردن ميسراً والحمد لله تعالى . ووقفنا في العودة في الأماكن التي وقفنا فيها سابقاً . ووصلنا إلى عمان في رحلة استغرقت اثنتين وعشرين ساعة .

اللهم ربنا لك الشكر أن رزقتنا زيارة بيتك الحرام وزيارة نبيك الكريم .

اللهم ما أحييتنا فكرر هذا الرزق الكريم . ولا تحرمنا ذلك .

اللهم زد في حسناتنا ، وكفر عنا سيئاتنا ، فأنت الكريم ذو الفضل العظيم .

اللهم آمين آمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.                                                  

عبدك الفقير إلى عفوك : عثمان