من جدة إلى عرفات

جميل السلحوت

[email protected]

صباح الأربعاء 25-11-2009 ارتدينا زيّ الأحرام استعدادا للانتقال الى جبل عرفات لبدء مناسك الحج، صلينا الظهر في مصلى فندق الماريوت، وعندما صعدت الى غرفتي، وألقيت نظرة على الخارج من النافذة، كانت الشوارع سيولا من الماء، وبعض السيارات تجنح الى الأرصفة أو الى الجزيرة بين اتجاهي الشارع، وتوالت الأنباء ان الطرق مغلقة، وان هناك فيضانات أورثت ضحايا، والطائرات المروحية تجوب السماء في محاولات للإنقاذ، وتواردت أنباء عن أن المياه غمرت بعض المساجد وبعض المساكن، فقد وصل ارتفاع المياه الى ثمانية امتار في منطقة (الحويزة) في جدة، وهكذا تبدى الوضع عن نكبة خلفت خسائر في الأرواح والممتلكات. وذكر أبناء المنطقة ان جدة لم تشهد مثل هذه الأمطار منذ ثمانية وعشرين عاما، ويبدو ان اتساع المدينة المتسارع كان له دور في ذلك، فمدينة جدة كانت مساحتها في العام 1947 كيلو متر مربع واحد، و النهضة العمرانية الهائلة التس شهدتها المملكة السعودية منذ العام 1970 ولا تزال أوصلت مساحة المدينة الى خمسمائة وسبعين كيلو متر مربع، وان شبكة صرف المياه اكتمل 80% منها فقط، أيّ انها غير مكتملة، يضاف اليها البناء العشوائي في المنخفضات وبجانب الأودية، مما أدى الى ارتفاع الخسائر في نبكة طبيعية نادرة الحدوث، واستمرت الأمطار ثماني ساعات متتالية .. ونحن في انتظار ان توقف السماء غضبها وان تحجب دموعها التي أغرقت المنطقة،مع ان المنطقة التي كنا فيها– فندق الماريوت- –والمنطقة المحيطة كانت آمنة، ولم تلحق بها اضرار، الا ان شوقنا ولهفتنا لآداء مناسك الحج كانت هي هاجسنا الأكبر، مما جعل أحد الأخوة السعوديين يقول: سبحان الله ... هذه طبيعة الحياة ... ناس يموتون ... وآخرون معلقون بين الحياة والموت ، .... وآخرون يستعجلون السفر الى عرفات،لكن ليس في الأمر غرابة فهذه سنة الحياة، وما علينا الا انتظار الفرج، مع انه راودتنا شكوك بأنه ربما لن نستطيع الوصول الى عرفات،وبالتالي ستحول الأمطار الغزيرة التي تجمعت على شكل فياضانات أغرقت بيوتا، وجرفت جسورا، وأهلكت أرواحا دون آدائنا مناسك الحج، فالحج عرفة، وغدا الخميس وقفة عيد الأضحى، واذا مرّ ذلك اليوم فقد مرّ الحج هذا العام، وكما تبين لنا لاحقا، فإن بعض الحجيج لم يتمكنوا من آداء الحج حيث تقطعت بهم السبل في المناطق المنكوبة، ومن اللافت ان الأمطار تساقطت ودرجة الحرارة 22 مئوية . وفي العاشرة من مساء الأربعاء تحركت بنا الباصات تتقدمها سيارة شرطة في شوارع آمنة أوصلتنا الى مكان اقامتنا في مقصورة وزارة الثقافة والاعلام في جبل عرفات، حيث توزعنا في غرف فيها كل سبل الراحة، بعد ان التقينا في قاعة الاستقبال بحضور معالي الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجة وزير الثقافة والاعلام السعودي .

ومن غريب ما حصل في تلك الليلة ان أكادميا من ارض الكنانة قد ابدى امتعاضه من وجود الاستاذ محمد الفاضلي الجزائري، احتجاجا على احداث الشغب في مباراة كرة القدم التي جرت في العاصمة السودانية الخرطوم بين فريقي مصر والجزائر، حتى وصل به الأمر عندما دخل وكيل وزارة الثقافة اليمنية وسأل مازحا: هل بينكم حوثيون؟؟ أن اجاب ذلك الأكاديمي: نعم ها هو وأشار الى الأستاذ الفاضلي، غير ان آخرين من البعثة المصرية أحسنوا وفادة الاخ الفاضلي .

ومن جميل ما رأينا ان أخا تونسيا عجوزا في التسعينات من عمره، وهو مقيم في فرنسا، قد أوكل المضيفون السعوديون أخا يمنيا لمساعدة ذلك العجوز، وتوفير كل سبل الراحة له. وفي صباح الخميس – وقفة عرفة – كان الجو دافئا ومعتدلا ... وكان في الخاطر أن نزور بعثة الحج الفلسطينية، لكن ذلك تعذر لأن الطرق مليئة بالحجاج، فقد تجمع على عرفات حوالي الثلاثة ملايين حاج، من ثلاث وثمانين دولة كما صرح بذلك الأمير خالد الفيصل أمير مكة ، وأمير حج هذا العام .

وظهيرة ذلك اليوم صعدت الى سطح بناية مكونة من خمسة طوابق لإجراء مقابلة تلفزيونية، وعندما تلفت حواليّ رأيت على امتدادا البصر غابة من البشر المرتدون الزيّ الأبيض، وأدهشني حسن ترتيب خيامهم ومعسكراتهم، فتنظيم الحجاج، وتقسيم المعسكرات على وفود الحجاج، لكل حجاج دولة مكان مخصص، وهناك مواقف باصات التي اصطف فيها حوالي خمسون الف باص، وتوفير الماء والطعام، والحمامات والخدمات الطبية أمر لا تقوى عليه دولة اخرى غير السعودية التي اكتسبت خبرة عبر السنين، فهذه الدولة تسهر على راحة الحجاج وتنظيمهم، وتسهيل آدائهم لمناسك الحج، وتطور أدواتها عاما بعد عام حسب المستجدات. لكن تبقى مشكلة الحجاج غير المنظمين، أيّ الذين يأتون الى الحجيج فرادى، وخارج وفود بلادهم، فهؤلاء يفترشون الأرصفة، أو يعتلون الصخور، ومع ذلك فإن المسؤولين السعوديين يتكفلون برعايتهم وحسن ضيافتهم دون ان يتذمروا من ذلك.

ومما يلفت الإنتباه هو وعورة جبال مكة ومحيطها، فهذه الجبال المكونة من صخور سوداء لا تربة عليها، جبالها شديدة الوعورة، ويبدو انها مخلفات براكين من غابر الأزمان، غير ان السعوديين قاموا ولا ويزالون بتجريف وتوسيع وتسهيل الأماكن التي يرتادها الحجاج.

 وعندما نظرت جبال مكة بما فيها عرفات والمزدلفة ومنى، هالني انها جرداء، وعرة، يصعب تسلقها، لا تربة فوق صخورها، سوداء محروقة ، فعدت بذاكرتي الى الأزمان السابقة، وكيف كان يعيش اهل مكة قبل الحقبة البترولية؟ فالمنطقة قاحلة، لكن حيرتي لم تطل فمكة مركز تجاري عبر التاريخ، كانت قوافل التجار تمر من مكة، والبيت العتيق أول بيت بُني، بين بنائه وبناء المسجد الأقصى أربعون عاما كما اخبر خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه، والبيت العتيق كان مقدسا قبل الاسلام وكان الناس يحجون اليه، وجاء الاسلام وفرض الحج على المسلمين، ومن شعائر الحج الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في عرفات والمزدلفة، ورمي الحجرات في منى، وهذا ما جعل من مكة مركزا تجاريا هاما يؤمه الملايين سنويا، يتقربون الى الله بآداء فريضته الحج، ويبتاعون من مكة لوازمهم ففي الحج عبادة ومنافع اخرى.

وعند أذان مغرب يوم الخميس– وقفة العيد– طلبوا منا الصعود الى السيارات في الطريق الى المزدلفة، كانت سيارات الشرطة تفتح امامنا الطريق، حيث وصلنا الى مقصورة وزارة الثقافة في المزدلفة في اقل من ربع ساعة، والمقصورة تتكون من ثلاث قاعات، تتوسطها ساحة مفروشة بالسجاد، صلينا المغرب والعشاء جمعا وقصرا، وباقامة للصلاة قبل كل صلاة، كما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم،

وبعد منتصف الليل بدقائق استقلينا السيارات في طريقنا الى الحرم المكيّ للطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة.

يتبع