رحالة مغربي من القرن السابع عشر

رحالة مغربي

من القرن السابع عشر يكتب عن الصحافة الأوروبية وطريقة اختيار البابا

أولى الصدمات الحضارية في الرحلة العربية إلى أوروبا

شاكر لعيبي

بعد رحلة ابن فضلان 921م التي واجهت آخرَ مختلفاً عن النموذج العربي ـالإسلامي، توالت الرحلات إلى أصقاع العالم.

لقد كان يُرى إلى النماذج المختلفة، من السلوكات والمجتمعات البشرية، من وجهة نظرِ حضارةٍ حققتْ تفوّقاً تاريخياً نسبياً على صعيد (نظرية المعرفة)، كما على صعيد تطوير تقنيات عصرها وحيله الميكانيكية والهندسية وآلاته المختلفة.

إحدى طرقِ عملِ ذلك التفوّق كانت تقوم على وجود ترابط داخلي، عضوي بين التطورات المادية، لنقل التقنية، وبين نظريةٍ للمعرفة السياسية كما كانت سائدة يومئذ.

لقد كانت التقنيةُ موضوعةً يومئذٍ في سياقٍ أشمل: معرفيّ، نظري، وفي سياق حاجات اجتماعية وإنسانية محددة، مهجوسة ومستوعبة بدرجات كبيرة.

هذا الجدل لن يحكم الوعي العربي ـ الإسلامي المتأخر الذي سيواجه الغرب، ويرى إلى تقنياته، بشكل أخص، بوصفها التمظهر الأكبر لحداثته.

تعكس الرحلات العربية إلى أوروبا، منذ القرن السابع عشر الميلادي، مفارقة كبيرة سوف نحددها كالتالي:

لقد كان يجري تعاطي التقنية في نصوص الرحلات (كما في نصوص أخرى غيرها)بوصفها الحداثة بالضبط ومن دون شرط نظري ووعي فلسفي بفكرة الحداثة. هذه الأخيرة، من دون شك، ليست التقنية، إنما منظومة مشتبكة من الرؤى والأفكار النقدية الجديدة المترافقة مع تطورات علمية باهرة.

إن (العصر الحديث) هو، حسب القاموس (Le petit Larousse)، العصر الذي افتتحته الثورة الصناعية. عندما دخلت الصفة (حديث) Moderne في القاموس الفرنسي في القرن السادس عشر الميلادي، كانت تعني فحسب (الوقت الحاضر) مقارنةً (بالوقت القديم)، أي بالحقبة الإغريقية ـ الرومانية. وحتى القرن الثامن عشر كانت الصفة (Moderne) توضع بالتعارض مع (القديم) بذاك المعنى، وكانت هذه هي أول الإشارات في تاريخ الفكر التي تُعرّف ما هو (حديث) بالتباعد عن القديم، وبأن (القطيعة المعرفية) بين تاريخين ووعيين هي المفهوم الجذري الذي يسمح للإنسان بالتفكّر في التاريخ وفي نفسه. وبشكل إجمالي كان (القدماء) يُعتبرون أنصاراً للتقليد الموروث من العصور الماضية (الأنيكيتية)، وبهذا المعنى سوف تأخذ تعبيرات مثل (العمارة الحديثة) ـ كما عند فورتيير Furetiere ـ ومصطلح (التاريخ الحديث) العائد لسنة 1791م، معناها من تلك المقابلة البسيطة الجذرية.بدءاً من نهاية القرن الثامن عشر عَرَف مفهوم الحداثة توسّعًا كبيراً، ومسُّ جميع الحقول: الدولة، التقنيات، الفنون، الأخلاق، الأفكار....الخ. وامتد إلى العالم أجمع وصار نوعًا من بداهة ثقافية. في الحقل الأدبي تصلح مقالة (حداثة Modernité)، في الموسوعة إنسكلوبيدس أونفيرسالس Universalis، التي كتبها عالم الاجتماع الشهير جون بودريارد Jean Boudrillard، كما كتاب هنري لوفيفر (مقدمة للحداثة) ـ الذي ترجمه كاظم جهاد إلى العربية تحت عنوان (ما الحداثة؟) ـ أن يكونا مرجعين معقولين في معرفة مفهومة (الحداثة) يُعرِّف بودريار الحداثة بحدودٍ سالبةٍ ويقول إنها: (ليست مفهومَاً سوسيولوجيًا، ولا سياسيًا ولا تاريخيًا، ولكنها نظام حضارة يأخذ أشكالاً جغرافية ورمزية متنوعة. هذا الفهم مع ذلك يفرض نفسه واحدًا ومتماثلاً،

مشعّاً على النطاق العالمي انطلاقاً من الغرب...). إنه يشتغل بالنسبة إليه بصفته أسطورة مستمرة عبر تنوّع أشكاله بل تنوع مضامينه. ويذكر أن: (ليس للحداثة قوانين ولكن لها وجهات فحسب، إنها ليست نظرية ولكن يوجد منطق للحداثة). ثم أن بودريار يعرّفها على أنها: (التقليد مرة أخرى)... وإن (أصلها يقع ـ بالطبع ـ في الثورة العقلية للقرن السادس عشر لكنها انتشرت في أوروبا على نطاق واسع بدءاً من القرن التاسع عشر). من طرفه يذكر آلان تورين Alain Touraine في مقالته:

(الأيديولوجية والحداثة): (إن فكرة الحداثة تُحِلّ في قلب المجتمع العلمَ مَحَلَّ الدِّينِ، تاركةً المعتقدات الدينية تعمل في داخل الحياة الخاصة على أفضلٍ وجه). وبالعودة إلى تمظهرات قضية الحداثة في أوائل الرحلات العربية المتوجهة إلى (العالم الأوروبي الحديث)، سنرى، في التحليل الراهن، أن وعي الرحّالة العرب مازال، جوهرياً، وعيًا دينيًا. إن الأوصاف التي يقدمها لنا الرحّالة عن (التقنية) الحديثة وكأنها التجلي الأبرز للحداثة لا تمتلك الوعي بشروط الأخيرة، وتتقدّم للقارئ كنمطٍ مباشرٍ من أنماط الاستلاب والانبهار إزاء تقدُّمٍ تقني في المقام الأول، وإزاء آليات عمل (مؤسسات حديثة) كان يراها الرحّالة في كل مكان من أوروبا.

ويذهب الأمر أبعد من ذلك عندما كان الرحالة ينظر بدهشة إلى التقنية ولا يرى إلى ازدهار الكائن الذي اخترعها، أو عندما لم يكن الرحّالة واعياً بأن وعياً غربياً جديداً هو من يُنتج هذه التقنية ويزدهر بها. لم تكن حصة الكائن الأوروبي في أسوأ الاحتمالات سوى الازدراء بوصفه كافراً (نصرانياً)، والتجاهل المُلتَبِس في الأغلب، أو مزيج من الاحترام الشديد ـ غير المُعْلَن عنه صراحةً ـ والازدراء.

ما كان يغيب دوما لدى رحالتنا هو ما سأسميه (وعي الحداثة) بصفتها أمراً أوسع من التقنية. هذا الوعيُّ لم يكن ممكناً من الزاوية الموضوعية.

في رحلته المعنونة (رحلة الوزير في افتكاك الأسير) التي قام بها المغربي محمد الغسّاني الأندلسي سنة 1690 ـ 1691 إلى مدريد، لاحظنا الموضوعات التالية التي توقف الرجل أمامها ملياً : (التزلّج على الجليد)، (المطعم)، (الوصفة الطبية ـ الرايشيته)، (بناية البريد الحدث)، (الصحافة)، (مبدأ الانتخاب وأسلوبه).

وفي جميع هذه المستحدثات الحضارية التي لم يكن قد رآها من قبل نستشف انبهاراً وحيرةً وعدم قدرة على وضعها في سياق أعمّ من سياقها التقني المباشر. إننا نقرأ:

(وقد رأيت البعض من النصارى يمرون على الجليد بهذا الوادي: بأن يقف الرجل على رِجْلٍ واحدة ويرفع رجله الأخرى ويقيم نفسه مستقيماً بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين، فيمر كالبرق) (ص85-86).وعن المطعم نقرأ: (إن من عادة النصارى ألا يخبز أحدٌ منهم بداره، وجميع مونته إنما هي عالة على السوق من كل شيء. وبالسوق عدة حوانيت لطبخ الطعام وصنعه للغرباء والضيوف، والمسافرين، الذين ليس لهم موضع معهود، فيدخل الرجل للحانوت فيتحكّم على المرأة التي به، ويطلب منها الطعام ما يشتهيه، لحماً أو دجاجاً أو حوتاً أو غيره مما يحبه وتطلبه شهوته، ويشرب ويدفع للمرأة ما يجب عليه من ذلك) ص88.

في ثنايا النص لا يكفُّ الغسّاني عن تسمية الآخر (بالنصراني)، لأنه كان بالنسبة إليه نصرانياً في المقام الأول، وقبل أيّ مقام، الأمر الذي، ربما، كان يمنعه من رؤية أفضل لطريقة عمل ثقافته وأساساتها الفكرية والنظرية الموازية لقضية تطوّره التقني.

في مكان آخر من رحلته يصف الغساني الأمر التالي عن وصفة طبيب في مستشفى مدريدي:

(فإذا دخل الطبيب على المريض وجسّ يده وعرف حالته يكتب بطاقة يدفعها للقيم على

المرضى وهو يدفعها للقيمة على الطبخ، ويحضرون له ما أمره به الطبيب) ص91 ثم يصف بناية البريد: (وبسوق مدريد أيضاً موضع للرسائل والبراوات (أي البراءات وهي الرسائل بالمصطلح المغربي) الواردة من جميع البلدان والأقاليم والأقطار، فإن في كل يوم من أيام الجمعة ترد رسائل بلد من البلدان، فمن كان يرتجي ورود براءة يمضي إلى الحوانيت المعدة لذلك، وينظر هل أتاه شيء أم لا، فإذا وجد براءة يعطي عليها جُعْلاً معلوماً (..) وكذلك من يحب بعث رسالته إلى بلاد يكتبها أيضاً ويطرحها في الموضع المعلوم، ولا يعطي عليها شيئا، فإن الذي يتسلمها هو الذي يخلص كراءها) (ص93).

أما وصفه للصحافة المستحدثة حينها في أوروبا فيستحق وقفة. يقول: (وبمدريد شيء آخر زائد في الأخبار عن البراءات، وذلك انه إذا كان خبر من بلدان بعيدة نائية فإن فيها قالب الكتابة (يقصد كليشهات الطباعة)، وهو على يد رجل واحد قد تحمل لذلك مُكْسا للطاغية على رأس كل سنة. فمهما سمع بخبر أو طرقه خبر، وبحث عنه، يجمع من الأخبار ما يجمع ويفرغ عليها قالباً يطبع عليه آلافا من القراطيس ويبيعها بأقل ثمن، فتجد الرجل في يده منها شيء كثير ينادي عليها ويقول: من يشتري أخبار البلاد الفلانية، والبلاد الفلانية، فمن أحبَّ الاطلاع على ذلك يشتري منها قرطاساً، ويسمونها الكاسيطة، أي caseta ) (ص94(.

إننا أمام رجل لم يطرق مسامع ثقافته مبدأ الصحافة، ويقف مبهوراً أمامها. الأمر ذاته يتعلق بطريقة الانتخاب، وبانتخاب البابا، على وجه الخصوص: (وكل واحد من المذكورين يكتب من القراطيس على قدر من يختاره ويضع القرطاس في محله المعدّ له، فإذا انقضت الأيام المعلومة لذلك، وانقضت الكتابة والاختبار، اجتمعوا وجعلوا ديواناً، وفتحوا الصندوق وقرأوا القراطيس، فأي اسم من الأسماء وجدوه أكثر تعدّداً في القراطيس، اتفقوا عليه وولوه تلك المنزلة..)( ص95).

نحن كذلك أمام ثقافة لا تعرف صناديق الاقتراع ولو أنها عرفت (الاجماع) و(البيعة) و(الشورى) وما إلى ذلك من الأشكال. ثمة التباسٌ شديدٌ في المواجهة مع ثقافة الغرب، لأن الرحّالة كان، في الحقيقة، أمام أشكال ممارسةٍ وتقنيّات غير معهودة من جهة، ويجهل، من جهة أخرى أصول التقنيات وطريقة تطورها ومراجعها العلمية والثقافية والفكرية وأساساتها النظرية.