هونج كونج سنة 1957 في عيون محمود البدوي

هونج كونج سنة 1957 في عيون:

محمود البدوي*

  تحت عنوان " هونج كونج المدينة التى لاتنام " يقول محمود البدوى بعد عودته منها فى عام 1957:

     إن المثل الصينى يقول " مشاهدة واحدة تساوى ألف حكاية " .

    وإن مشاهدة واحدة لهونج كونج تساوى كل ما فى العالم من كتب الرحلات .

     إنها المدينة الصينية العجيبة القابعة فى لسان نهر اللؤلؤ ، والتى كان يحتلها الإنجليز والتى استولى عليها اليابانيون فى الحرب الأخيرة فى ثلاثة أيام وسلمت كل الحامية البريطانية التى كانت فيها !

     إنها المقاطعة البريطانية التى بينها وبين الصين الشعبية مجرد جسر لايتجاوز خمسة عشر مترا ، يقف عليه من الجانبين أربعة حراس فقط ، وأصابعهم على الزناد !

     إن هونج كونج مدينة العجائب فى الدنيا ، المدينة التى ليس لها مثيل ولاضريب .

     إنها العروس الراقدة على التل ، تتلألأ بالأنوار ، كما تتلألأ الدرر على صدر الحسناء ، ولا تغمض عينها أبدا، إنها المدينة التى لاتنام .

     إنها المدينة الحية ، تتحرك أمامى الآن بكل جمالها ، وكل فتنتها ، وكل قوتها وأنا أبرز بعض صورها على الأوراق وستظل حية فى ذاكرتى حتى ولو لم أكتب عنها .. لأنها عاشت فى قلبى ..

     إنها المدينة التى عاش فيها سومرست موم ، وبرناردشو ، ومثلت فيها جيفنـز جونز ووليم هولدن فيلم روعة الحب !.

     إنها الميناء الحر الذى تشترى منه كل بضائع الدنيا من قلم الرصاص إلى اليخت البحرى دون أن تخضع لأى مكوس .

     إنها الميناء الذى يذهب اليه الإنجليزى والأمريكى والألمانى ليشترى منتجات بلاده برخص التراب .

     إنها المدينة التى تفصل فيها " البدلة " وتلبسها بعد 24 ساعة ، والقميص بعد ست ساعات ، إن بها أحسن " ترزية " فى العالم ، إن " الترزى " هناك يملك المقص الذهبى والسرعة فى عصر الصواريخ .

*  *  *

     لقد ركبت البحر وأنا شاب فى العشرين ، ورأيت أوربا بعين الشباب وقلبه ، وهأنذا أركب الطائرة بعد الأربعين لأرى الشرق ، لأرى الهند والصين واليابان .

لقد رأيت الفضيلة فى الصين ، والشرف ، وسماحة الأخلاق ، والابتسامة المضيئة على الشفاة ، والنظام والعمل ، ورأيت السرعة وقوة الصناعة ، والحضارة الدافقة والجمال الآسر فى اليابان . والاستعمار الذى لا مظهر له والذى تميته قوة الشعب وحيويته .

ورأيت فى الهند الشعب الذى ينفض عنه الغبار ويتحرك ببطء ، ولكنه سيصل حتما إلى بغيته لأنه يحس بحريته وأصبح يعيش .

ورأيت النظافة فى كل هذه البلاد والنظام وسماحة الطبع والتـعاون ، ولم أر معركة واحدة فى الطريق ولا مشاجرة عابرة .

وجلت فى كل الأحياء ، فلم أسمـع كلمة نابية ولا لفظة تحمر لها الخدود ، ولم أر شابا يطارد فتاة ، أو يريها ميوعته وخنوعته .

لقد رأيت الجمال فى الطبيعة وفى الإنسان ، ورأيت الحضارة العريقة والصناعة الحديثة .

ورأيت الآثار الخالدة والقصور الشامخة والمساجد والقباب التى لايستطيع أن يشيد مثلها انسان .

ولقد رحلت وأنا أحمل معى كل أخطائى كبشر ، ولكننى كنت أسمو فى كل الحالات عن كل دنس .

*  *  *

ولقد هبطت الطائرة أرض المطار فى الساعة السابعة  صباحا ، ولم تفتح لنا حقيبة واحدة فى الجمرك ولم نلاق أية مشقة ، وكانت الموظفة المكلفة بالمراقبة الصحية أنيقة وجميلة وترتدى ثوبا أنصع وأشد بياضا من وجهها ، نظرت إلى الأوراق الصحية ثم تركتنا نمر بابتسامة مشرقة إلى بوليس الجوازات ، وبعد ثلاث دقائق كنا خارج المطار  .

*  *  *

     دخلنا المدينة ، عندما تدخل هونج كونج تشعر بهزة ، إنها لاتستقبلك بالدخان والفحم وعرق الحمالين ، لا ، إن المدينة ضاحكة وكثيرة الحركة ، وتشعرك بالقوة وبالحيوية الكامنة فيها بمجرد أن تتنسم أول أنفاسها .

     إن شوارعها مرصوفة ، ولامعة ، ونظيفة ، وهى ليست كثيرة الاتساع ، يشعرك بهـذا أكثر علو المبـانى من الجانبين ، وبالشوارع " التاكسى " والسيارات الكبيرة والترام ذو الطابقين ، وفى كل دقيقة تمر سيارة ، وعندما تترك مطار تادتاك ، لاتدخل هونج كونج ، وإنما كاولون ، فإن هونج كونج على العدوة الأخرى من الخليج ، ولابد أن تركب إليها الباخرة .

     وفى كاولون ترى كل أجناس الأرض ، الأمريكى والإنجليزى واليابانى والصينى .

     إنهم يسيرون فى سرعة ، وإذا عبرت الشارع خطأ فى غير نقطة المرور ، تتوقف العربات والسيارات من أجلك .

     وتتوقف حركة المرور كلية إذا خرج الأطفال من المدرسة إلى الطريق .

     إن البناية فى المدينة عالية ، والعمارات ضخمة ، وطرازها أوربى بحت ، إنها ليست كمدن الصـين . وبكاولون فنادق ضخمة ، ومسارح ، ودور سينما ، ومتاجر ، ولكن الحركة كلها فى هونج كونج بعد أن تعبر الخليج .

     إن كاولون هادئة ، تنظر إلى الحسناء الراقدة على الشط الآخر فى إعجاب ووله .

     إن حركة التجارة كلها وبيوت المال كلها فى هونج كونج ، وفى كاولون الفنادق التى تستقبل السائحين من الطائرة ومن الميناء .

     إن الحياة فى هذه الفنادق ليست رخيصة ، لكن إذا قستها بالفنادق مثيلاتها فى مصر وفى أوربا وجدتها أرخص ، لأنها من أحسن طراز .

     وأنت تستطيع أن تعيش فى كاولون شهرا أو بعض شهر ، فإنه لاينقصك فيها شىء ، ولكن لابد أن ترى هونج كونج إنك تراها فى الليل متلألئة بالأنوار ، وساهرة على سفح التل ، وبيوتها تتناثر كحبات اللؤلؤ وبعضها يسبح بقدميه فى الماء . إن هذه المدينة الجميلة لاتنام .

     وبمجرد أن تقع رجلك على رصيف هونج كونج تروعك السرعة الخاطفة للناس والسيارات والعربات .

     إن مدينة الجمال ، فيها كل ما يخطر على البال من مفاتن ، ولكن لكل شىء ثمنه .

*  *  *

     والمرأة فى هونج كونج متأنقة معطرة ، وترى فى الشوارع الجاليات الإنجليزية والأمريكية ، وأحيانا ترى الهنديات واليابانيات أيضا .

*  *  *

     وهونج كونج مدينة تجارية ، وفيها صحافة متقدمة ، ولكن ليس فيها أدب .

     لايوجد عشاق للأدب فى هونج كونج ، ولافراغ للناس للقراءة والتأمل .

     إن جامعة هونج كونج الوحيدة تقوم على ربوة عالية ، وفى مكان هادىء جميل ، وبناياتها كثيرة المعامل ، وبخاصة كلية الطب وكلية العلوم . 

     والطلبة يتمتعون بأجمل المناظر حولهم ، وبانقطاعهم عن ضجيج المدينة وضجتها وتفرغهم للعلم ولكنها جامعة واحدة ، فى بلد تعداده يقرب من ثلاثة ملايين .

*  *  *

التاجر الصينى : 

     إن الصينى فى هونج كونج من سن العاشرة يعشق التجارة ، وربحها ، إن التجارة فى دمه ، وهو أبرع تاجر فى الوجود ، ويتميز بخصال ثلاث :

     الدماثة ، والابتسامة المشرقة ، وشعوره الداخلى بأنه ليس فى حاجة إليك أشتريت أو لم تشتر سيان .

     فهو يستقبلك ويودعك بالابتسامة نفسها ، وبالوداعة نفسها ، وهذا يجعل كل العابرين يشترون حاجاتهم من هونج كونج .

     إنهم تجار والتجارة فى دمهم .

     ولهذا يتأنقون فى حوانيتهم ، ويعرضون البضاعة بطريقة فنية ، تدل على ذوق وبراعة ، ومتاجرهم متصلة فى كل شارع .

     ولكنك تلاحظ التجارة أمامك كأنها عصب الحياة فى المدينة ، على طول الشوارع الرئيسية فى هونج كونج المحال الصغيرة والكبيرة ، واللافتات مكتوبة باللغة الصينية واللغة الإنجليزية ، وكل محل من هذه المحال يبذل كل جهده وفنه فى اجتذاب الجمهور ، بالعرض الخارجى ، والأنوار الساطعة ، وبالأسعار المغرية .

     والتاجر الصينى صبور ومهذب ، فهو يقلب لك المحل رأسا على عقب ويأتى بآلاف الأشياء من الداخل لتشترى شيئا بسيطا ، أو لاتشترى على الإطلاق ، الأمر سيان ، يظل مبتسما وادعا ، وإذا قلت له إنك ستمر غدا ، أحنى رأسه ، وكذلك إذا قلت له إنك لم تغير العملة بعد .

الفنادق :

     والفنادق فى هونج كونج كبيرة ، وفيها الطعام الصينى والطعام الأوربى ، والخدمة ممتازة ، وللطعام مواعيد ، فإذا أغفلتها قد تنام من غير عشاء ، أو تذهب لتأكل فى الخارج . وإذا خرجت إلى الطريق ترى المطاعم الشعبية وبها الأرز ، والسمك ، وكل أنواع اللحوم ، والكرشة ، والشوربة ، والكبدة المحمرة .

     وهذه المطاعم كثيرة ورخيصة ومنظرها يسيل له لعابك ، وترى فى الشوارع الرئيسية المطاعم المختلفة التى تقدم كل أكلات العالم : المطعم الصينى ، والمطعم الروسى ، والمطعم الأسبانى ، والمطعم الفرنسى ، والمطعم الألمـانى ، ولكن لاتنسى وأنت تأكل فيها أن الطـاهى صينى أصيل .

     وتجد الساقية تحاول أن تبدو لك كالروسية أو الفرنسية ، وفى هذه المطاعم تسمع الموسيقى الأجنبية أو الصينية ، وترى جهاز التليفزيون أمامك يعرض مسرحية أو أوبرا .

     ومعظم الخدم فى فنادق هونج كونج الكبرى من الشبان ، والنساء قليلون جدا يقمن فقط بتغيير الفراش والعمل فى المطعم ، والصبيان يعملون فى الأسانسير ، وهم فى خفة القطط ، ويحييك فى الصباح والمساء ويده على " زر " الأسانسير .  صباح الخير ، مساء الخير .

*  *  *

     والمحال التجارية فى هونج كونج تعمل من الساعة العاشرة صباحا إلى العاشرة مساء ، دون توقف فى الظهيرة ، ودون عطلة فى يوم الأحد أو السبت . وبعض المحال الكبيرة تغلق بعد ظهر الأحد فقط ، كما أن بعض المحال تغلق أبوابها يوما فى الساعة السابعة مساء .

     والبنوك والشركات تعمل من التاسعة صباحا إلى الخامسة مساء ، وهناك فترة راحة فى الظهر للغداء .

     وتجد سيول الموظفين خارجة بعد الخامسة مساء من هذه المحال ومتجهة إلى الميناء ، وكثير منهم يسكن فى كاولون .

     ونصف العدد وأكثر منه من النساء ، وتجدهن أنيقات فى الملبس ، سريعات الحركة ، ولعل الجيب المشقوق يساعد على المشى السريع .

     والصينية لينة الطبع رقيقة الصوت حلوة التقاطيع ، أنيقة الملبس ، وهى تدير المطعم والحانة ، وتعمل ساقية ، وعاملة تليفون ، وخادما فى الفندق ، وفلاحة فى المزارع ، ومضيفة فى الطائرة ، وأما فى البيت ، وبائعة تجيد الحديث بالإنجليزية .

     كما أنها راقصة ، وممثلة فى الأوبرا ، وفتاة فى الحان .. كل هذا فى هونج كونج .

السينما :

     وأسماء السينمات متشابهة فى كل العالم : سينما الهامبرا ، وسينما برودواى ، وسينما روكسى ، وسينما أستا ، وسينما الحرية ، وسينما متروبول ، والأفلام معظمها أمريكى ، ونادر أن يعرض فيلم صينى .

     والسينما مزدحمة والكراسى مريحة ، والجمهور مهذب ، لايحدث تقبيل فتاة فى الظلام ، ولا تسمع كلمة نابية والتدخين ممنوع كلية .

حى أبردين :

     هو حى تصل إليه بعد عشرين دقيقة بالسيارة ، وهو حى الصيادين فيه 100 الف صياد يعيشون فى زوارق فى الماء ، وفى أكواخ ومنازل صغيرة على الشاطىء ، وحرفتهم صيد السمك .

     والنساء يستقبلنك بالقبعات العريضة ، والأسنان الذهبية ، وهن اللواتى يحركن المجاديف ، وينقلنك إلى الذهبية التى ستتناول فيها طعام الغداء وسط الماء .

     وتجد فى هذه الزوارق الفتيات من سن العاشرة يعملن ويربحن لأسرهن ، ويوصلنك بالزورق إلى السفينة وهى من طابقين ، ويذهب إليها السائحون للنـزهة والتمتع بمنظر الصيادين الغريب ، وتناول أكلة شهية من المطبخ الصينى المشهور بجودة طعامه فى العالم أجمع .

     إن الطباخ الصينى يستطيع أن يصنع لك مائة صنف من لحم العجول وحده ، ومائة صنف من السمك .

*  *  *

الترام الصاعد :

     إن الترام الكهربى الصاعد peak tram  يصعد بك إلى هضبة هونج كونج نظير 60 سنتا لهذه الجولة الممتعة ، ومن سنة 1888 وهذا الترام يتحرك ، إنه يريك أجمل مناظر هونج كونج . البيوت البيضاء على التلال الزمردية ، والخليج من تحتك ، والسفن تسبح كأنها مراكب الأطفال ، والهواء الحالم يصافح قلوب العشاق فى أعلى الربوة .

     إذا ذهبت هناك فى الليل فستقف مبهورا وأنت تعجب لكل ما صنع الإنسان .

      وإذا ذهبت فى النهار ، ستعتمد على السياج الحديدى فى البرج وتسبح عيناك فى بحر من الجمال ليس له أول ولا آخر ، وستلعن معى كل الذين يثيرون الحروب فى العالم وكل الذين يشوهون جمال الطبيعة وجمال الإنسان .

     وتجلس فى المقهى الصغير ، تشرب القهوة ، أو عصير البرتقال ، وأنت تحس بالدفء ، وحرارة الشمس الساطعة فى شهر ديسمبر .

     وتركب السيارة وأنت نازل من الربوة ، لترى كل معالم المدينة وكل طرقاتها الجميلة وكل المستشفيات والمدارس .

     وتمر بالشاطىء المخصص لاستحمام الإنجليز وحدهم ، وتراه مهجورا ، ليس فيه إلا إنجليـزية واحدة مستلقية على الرمال وفى فخذيها ، وساقيها الشعر ، ورجل يجلس بعيدا ، يدخن الغليون .

    تترك هذا كله وراءك سريعا وتدخل شاطىء استانلى .

شاطىء استانلى :

     إن حى استانلى فى هونج كونج هو حى الفقراء ، ضاحية تخرج لسانها فى الماء ، وسكانها صينيون خلص يعيشون على صيد السمك ، عيشة هادئة بسيطة .

     وترى القرية برغم البساطة والفقر نظيفة والشوارع ضيقة ومرصوفة ، والبيوت من طابق واحد ، وأمام كل بيت حنفية ، والماء يجرى فى مجراة صغيرة إلى البحر .

     وترى السوق ملآنة ، والدكاكين الصغيرة على جانبى الشارع فيها كل أصناف البضائع الشعبية ، وفى الشارع الرئيسى فى القرية أكثر من حانة ، وأجزخانة كاملة وبها فتاة تتحدث بكل اللغات .

     وتجد فى نهاية الصف الذى فيه البيوت النساء جالسات يغسلن ملابس الرجال ، والرجل عادة يذهب ليصيد السمك من الفجر .

     وإذا اشتهيت السمك تستطيع أن تأكل هناك وجبة شهية رخيصة من السمك المسلوق والسمك المشوى والأرز والشوربة الساخنة .

     وتركب بعد ذلك السيارة عائدا إلى المدينة .

كاولون :

     وقد تمزق جيب سترتى وأنا أخرج مندفعا من سيارة تاكسى فى كاولون ولم يكن معى بدلة سواها ، فقررت أن أصلحها فى الحال وسرت فى المدينة التى أصبحت أعرف كل شبر فيها ، وانحدرت إلى شارع جانبى حيث قدرت أن أجد " رفاء " ووجدته بعد ربع ساعة فعلا ، وكان فى مدخل إحدى العمارات ، وأريته السترة الممزقة فقال مبتسما :

     ـ اذهب إلى الفندق وأرسلها لى ..

     ـ إنى لا أقيم فى أى فندق ، مجرد سائح عابر ، خرج من المطار ليجول فى المدينة ، وسأطير إلى طوكيو بعد ساعتين ..

     ـ ستجد هناك أمهر الصناع فى العالم أجمع .

     ـ ولكن السترة تمزقت هنا وسأرتقها هنا ..

     فأشرق وجهه وقال :

     ـ إذن اخلعها وسآخذ دولارا ونصف دولار ..

     فقلت فى سرى " أى رخص " إن الدولار الهونج كونجى هو دولار أمريكى فى الواقع

     وأخرجت ما فى جيوبى وخلعتها وناولتها إياه فقال الرجل مبتسما وهو ينظر فى ساعته :

     ـ ستخلص بعد نصف ساعة ..

     ولم يكن بجوارى مقعد ولم يكن هو يستطيع أن يجلب لى كرسيا ، ووجدته ينظر إلى الداخل كأنه يبحث عن شىء فقلت له :

     لاتشغل نفسك ، سأسلى نفسى بمنظر العابرين فى الطريق ..

     فعاد إلى عمله ..

     وأخذ السكان يهبطون من العمارة ، ويصعدون اليها ، وأنا واقف فى مكانى دون أن يسترعى منظرى فضولهم. كانت النسوة يصعدن بالخضار ، وما تسوقنه من السوق ، والرجال ينـزلون إلى عملهم ..

     وسمعت حركة باب يفتح فى الداخل ، ورفع " الرفاء " رأسه ، وتحدث بالصينية مع شخص لم أره ، ثم قال لى :

     ـ تفضل استرح فى الداخل ، إن الوقفة ستطول ..

     فتلفت إلى حيث يشير ، فوجدت شابا يدعونى إلى داخل شقة أرضية ، وكان يتكلم بانجليزية قليلة ، فسلمت عليه ، وجلست فى مدخل الشقة ، قريبا من الباب المفتوح ..

     وكنت أتصور أن البيت هو سكن الرفاء ، ولكن عرفت بعد الحديث القصير أن البيت هو بيت الشاب ، وأنه ذاهب لعمله الآن فى هونج كونج ، ولهذا سيضطر لتركى مع اسرته ، وحملت إلى من الداخل فتاة فى العشرين الشاى ، ونظرت اليها ، كانت خجلى ومن عينيها يطل الطهر ، فنظرت متعجبا ، أهذه هى المرأة التى أراها فى الليل ، أم أنا مخدوع ؟ لم تكن الفتاة تعرف غير لغتها ، فابتسمت وانسحبت وهى تحيينى ، وأدركت أن هذه هى الصينية فى البيت ، ورأيت ، وأنا خارج ، أمها ، كانت قصيرة ، ولايزال شعرها أسود ، برغم كبر السن ، ابتسمت وأحنت رأسها .

     وكان الشاب قد ترك لى عنوان المتجر الذى يشتغل فيه ، فقررت أن أزوره فى هونج كونج فى اليوم التالى ..

     وارتديت سترتى وخرجت إلى الطريق ..

         

* تعريف بالقاص محمود البدوى :     

· قاص مصرى هو رائد القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى

·ولد فى إحدى قرى صعيد مصر " قرية الإكراد مركز أبنوب التابعة لمحافظة أسيوط " فى الرابع من ديسمبر سنة 1908 وتوفى فى الثانى عشر

 من شهر فبراير سنة 1986

·الكاتب العربى الوحيـد الذى تقابل مع العـالم النفسى الشهير " سيجموند فرويد " فى النمسا أثناء زيارته لها فى سنة 1934 والتصق به فترة غير قصيرة

·صور بعض قصصه خلال رحلاته إلى أوربا واليونان وتركيا والمجر ورومانيا والهند والصين وهونج كونج واليابان وبانكوك وروسيا والدنمرك وسوريا والجزائز ، وهى البلاد التى حركت مشاعره وأثر أهلها فى عقله ووجدانه . وانعكس أثر هذه الأسفار عليه ككاتب يؤمن بالإنسان ويهتم به فى كل بقاع الأرض وصوره فى كتاباته .

·اطلق عليه بعض النقاد والأدباء لقب " تشيكوف القصة العربية " ولقب " راهب القصة القصيرة وفارسها " وآخر لقب أطلقه عليه الأديب العالمى المصرى نجيب محفوظ هو تشيكوف القصة المصرية " فى الحوار الذى أجرى معه بصحيفة القدس العربى 3|1|2004  بالصفحة رقم 10"  

·منح جوائز الدولة المصرية " الجدارة فى الفنون سنة 1987 " و " التقديرية فى الآداب سنة 1986 " و  منح اسمه بعد وفاته " وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1988 "