رحلة إلى الجزائر (3)

د. عثمان قدري مكانسي

رحلة إلى الجزائر (3)

د. عثمان قدري مكانسي

الزيارة الأولى إلى فرنسا

من التسهيلات التي تقدم للجزائريين ومن يقيم عندهم أن من يسافر إلى فرنسا بحراً أو جواً يشتري بطاقة السفر إلى المدن الفرنسية التي يقصدها من الميناء أو المطار بالقطار بالعملة الجزائرية مساويةً للفرنك الفرنسي وإن كان الدينار لا يجاوز سعره في السوق الحرّة أربعين في المئة من سعر الفرنك، فاشترينا بطاقة القطار من مرسيليا إلى باريس ذهاباً وإياباً.

ولكن الخطأ الذي وقعنا فيه، ولم نسأل أحداً، ولم ينبهنا إليه أحد أن درجات السفر بالباخرة ثلاث، أقلّها أن تحتلّ كرسياً في إحدى قاعات الباخرة مدة أربع وعشرين ساعة هي المسافة الزمنية من الجزائر إلى مرسيليا، وهذا يتعب المسافر كثيراً فلا يرتاح ولا ينام ويصيبه الإرهاق، وهذا ما حصل لنا إذ كنا من أصحاب هذه الدرجة.. وأوسطها أن تحتل سريراً تستلقي عليه أو تنام فإن استرحت وجدت متعة في التجول في الباخرة والتعرّف على معالمها، لكنّ الدرجتين هاتين لا تتضمنان تناول الطعام في مقصف الباخرة أو مطعمها إلا بالعملة الصعبة "الفرنك الفرنسي" وعلى هذا فالمسافرون يشترون ما يكفيهم من الطعام والشراب قبل أن يصعدوا السفينة.. وأعلاها أن تحتل غرفة وحدك أو مع أسرتك الصغيرة –وإن كانت الغرفة كبيرة فمع أسرة أخرى- لكنّ نظام تقسيم الغرف يساعد على استقلال أسرتين في غرفة واحدة، ويتضمن هذا الطعام ثلاث مرات في اليوم تدفع ثمنه مع البطاقة بالدينار الجزائري.,. وفي هذه الغرف "الكبائن" وسائل الراحة والمتعة.

كانت الباخرة ضخمة، فيها ما يتسع لثلاثة آلاف مسافر على الكراسي المثبتة في قاعات ضخمة تشبه صالات المسارح أو السينما، وغرف جانبية كثيرة للدرجة الثانية، وفي الطوابق العليا نجد أصحاب الدرجة الأولى.

ولا تسل عما رأيناه في هذه القاعات وعلى جوانب السفينة وفي الزوايا من كوارث أخلاقية يندى لها الجبين، وتُنَكّسُ لها الرؤوس، وتنفطر لها القلوب المؤمنة، وتأسى لها النفس الطاهرة،.. فقد خرجوا من الجزائر، وليس لرب الجزائر وإلهها سلطان عليهم!! وهم ذاهبون إلى فرنسا بلد الحرية!! والفسق والعهر..فَلِمَ لا يتركون لأنفسهم العنان، فيتدرّبون على الفساد القادمين إليه؟! أو يمارسونه؟ أما الخمر والقمار في البارات والملاعب فحدّث ولا حرج وتذكرت قول الشاعر:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا..

ولعلَّ شوقي كان حكيماً عاقلاً، فأصاب كبد الحقيقة حين نادى فردد الكون من حوله:

وإنما الأمم الأخلاقُ ما بقيَتْ فإن همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا..

كانت السفينة كبيرة يقترب طولها من مئتي متر، وعرضها مناسب لطولها، وتحمل مئات السيارات الصغيرة والكبيرة أسفل بطنها، كانت تمخر عباب البحر كأنها الطود الشامخ توحي لنا أنها ثابتة مكينة، مما أشاع الهدوء في نفسي وزوجتي، إلى أن هبت عاصفة بحرية ضخمة أرتنا قدرة الله تعالى في هذا المخلوق الضخم، فأحسسنا أننا لعبة صغيرة جداً في بحيرة كبيرة جداً.. فدعونا الله تعالى أن يحفظنا ويرحمنا ويوصلنا سالمين.

"فإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا الله مخلصين له الدين" ونحن مؤمنون إن شاء الله تعالى نعرف لله سبحانه فضله ومنّه، ولن يصيبنا مكروه فقد دعوناه حين ركبنا السفينة "سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون" ألم نقرأ صباحاً ثم مساءً الآيات الأولى وآية الكرسي والآيات الأخيرة من سورة البقرة؟ إذاً فلنطمئن.. لكنَّ النفس البشرية خائفة وجلة، لا يهدّئ روعها إلا اللجوء إلى الله تعالى.

وصلنا قبل ظهر اليوم التالي إلى مرسيليا، فنزلنا وتوجهنا إلى أحد الفنادق القريبة، صاحبه تونسي لطيف، أخذنا غرفة ثم نزلنا إلى الشوارع نتجول فيها ونتعرّف على معالمها.. فإذا هي مدينة واسعة، كبقية المدن البحرية ليس فيها ما يشد الانتباه.. إلا أن جوّها هادئ، وحرارتها معتدلة..

ركبنا القطار في اليوم التالي باكراً متجهَين إلى الشمال.. باريس.. وكان القطار سريعاً فوصلنا عند الصباح قبيل طلوع الشمس إلى مدينة "أورانج" وفيها طبيب حلبي أحببنا زيارته، تركنا القطار بعد أن أودعنا حقائبنا في المحطة نفسها.

نحن الآن عام تسعة وسبعين، وهذه المرّة الأولى التي نزور فيها بلداً أوربياً، وفرنسا الدولة الأولى عالمياً في مواصلات السكك الحديدية.

حين تنزل من القطار تجد في الردهات خزائن حديدية كبيرة وصغيرة، تحتار ما يناسب حقائبك منها، فتودعها فيها، وتقفلها، وتنطلق خفيفاً في أنحاء المدينة فإذا حان وقت السفر عدت إلى خزانتك، ودفعت المبلغ المرسوم على عدّاد زجاجي، فأخذت حقائبك وذهبت.

طرقنا باب الرجل ففتحت زوجته الفرنسية الباب واستقبلتنا بأدب ولطف، ولغة عربية مكسّرة، لكنها مفهومة، وجاء صاحبنا فسلمنا عليه، وصلينا الفجر ولم نمكث عنده إلا قليلاً، ووعدناه بالعودة إن يسّر الله، وأفطرنا عنده، وخرجنا معاً، هو إلى المستشفى ونحن إلى القطار..

نزلنا في مدينة الزهور "ديجون" فكانت بحق، زهراء مليئة بالورود فساحاتها تضجّ بأنواع الأزاهير المختلفة الألوان.. المدينة صغيرة، ونحن نرتاح للبساطة والهدوء.

اتفقنا مع صاحب الفندق الصغير أن نمكث فيه ثلاث ليال.. ولكن حدث ما جعلنا نحزم حقائبنا في اليوم التالي.. إنهما حادثتان منفصلتان.. لكنهما دفعتانا إلى تغيير رأينا، و"تشميع الخيط" كما يقولون.

الناس في الجزائر –كما هم في كل أنحاء العالم- صالحون وطالحون.. قال أحد الأحباب منهم في بجاية "إن دعاك أحدهم إلى بيته، وعزم عليك، وأظهر اللطف والشهامة –لأنك مسلم غريب تجب مساعدتك- فلا تجبه، وانأ عنه، وإن لجّ في الدعوة فأظهر له الخشونة، فإن اثّاقل وكان سمجاً فلا تتوانَ في الاستعانة برجال الشرطة- قلت متعجباً: على الرغم أنني سأفعل ذلك دون أن تنصحني هذه النصيحة لأن العاقل هكذا يفعل، وأظنني كذلك إلا أن إصرارك ينبئ عن مصيبة أصابتك أو أحد معارفك من أمثال هؤلاء..

قال: صدقت..

قلت: فماذا يفعلون..

قال: إن المتسكعين منهم –وهم كثر- إذا رأوا زائراً اعتبروه صيداً ثميناً فهو لم يأت إلى بلاد الغرب إلا ومعه المال المناسب، فلمَ لا يسرقونه؟! ومن طرق السلب والنهب أنهم يدعونك بأسلوب منمّق وتهذيب رفيع، فتأمن لهم، ويدسّون في الطعام مخدراً.. فإذا صحوتَ رأيت جيوبك.. فارغة وانتهى الأمر.. تدرجتُ وزوجتي إلى حديقة عصر ذلك اليوم فجاءنا رجل في الخمسين من عمره يسلم علينا.. رددنا عليه السلام.. وابتسم لنا فابتسمنا له، وكلمنا بلطف وأدب، فجاريناه ونحن نذكر كلام صاحبنا ونصيحته، ودعانا الرجل إلى داره فاعتذرنا بلباقة، فأصرّ، فتشددنا، لصق بنا فأمرناه أن يدعنا، فازداد لصوقاً وسماجة، وارتفع صوته، أنا أريد التعرف عليكما وإكرامكما وأنتما تزهدان؟! ما هكذا العرب والمسلمون.. هيا يا جماعة.. وكأنه بدأ يشدني.. أمسكت به بشدة، وأمرته أن ينصرف، وإلا رأى مالا يسرّه، وسمعت رجلاً يقول له بالعربية الجزائرية: يا غليظ، دعهما وشأنهما، ليس كل الناس صيداً..

سار مبتعداً، ونظرت إلى زوجي مبتسماً، حامداً الله على النجاة منه شاكراً صاحبي على نصيحته الثمينة، داعياً له من أعماق الفؤاد.

في الغرفة المجاورة لنا في الفندق، وفي منتصف الليل كنا نسمع بكاء وأنيناً، وحركة تقترب وتبتعد، وصوت رجلين يتكلمان مضطربين، ثم وضح الأنين والبكاء، فهي امرأة.. لقد كنت مستغرقاً في النوم حين أيقظتني زوجتي خائفة مما يجري خلف الباب، فلما صحوت وسمعت هذا هممت أن أستطلع الأمر، لكنَّ خوف زوجتي وعدم معرفتي الفرنسية منعاني أن أخرج، ولا أكتمكم أن الخوف بدأ يتسرب إلى نفسي، فنقلنا السرير أمام الباب، ودعّمناه بطاولة كانت في الغرفة، وعدنا إلى النوم.

وعند الصباح رأينا بقعاً من الدم أمام الغرفة، ولاحظنا حركة رجال البوليس في الفندق.. وكنا قد دفعنا أجرة الغرفة ثلاثة أيام سلفاً، فأعادوا لنا أجرة الليلتين متأسفين لما جرى، وهذا ليس من عادتهم.. أقصد إعادة الأجرة..

كانت "ليون" قريبة من "ديجون" نزلنا في محطتها الواسعة النظيفة وهناك رأينا لأول مرة المصاعد الكهربائية، والثلاجات الأوتوماتيكية، التي تعرض أنواع الحلوى والشوكولا، والمثلجات والمشروبات، فتدفع فرنكاً وتضغط على زر معيّن، فينزل ما تريد.. أعجبنا بهذا التقدّم الرائع في بلاد الغرب، على قلّة بضاعتنا، فكأننا بدويان ينزلان إلى المدينة أول مرة، ثم رأينا أنواع المعجنات والبطاطا المقلية و"البفك" و"الشيبس" على الطريقة نفسها..

"ليون" مدينة ضخمة رائعة، يشقّها نهران كبيران متوازيان، ويشكل أحدهما غربها بحيرة كبيرة، فيها أبنية ضخمة على الطرازين القديم والحديث، شمال هذه المدينة حدثت معركة "بواتييه" بين المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي، والفرنسيين بقيادة "شارل مارتل" وما تزال آثار المسلمين في هذه المدينة وفي مدينة أورانج.. ماذا لو انتصر المسلمون؟ إن أوربا كلها ستكون مسلمة، لكنّ المسلمين الذين انتصروا أولاً كثرت بين أيديهم الغنائم والأموال، فانشغلوا بها، وتغيّرت النيّة من جهاد في سبيل الله إلى جمع تفاهات الدنيا ولعاعاتها، والركون إليها.. فكانت النتيجة انحسار مدّ المسلمين ومقتل قائدهم، وتخليهم عن الغنائم، وهروبهم الأول إلى الأندلس وهروبهم الثاني من الأندلس إلى المغرب.. آه.. لو أن المسلمين يفقهون دورهم لكان لهم شأن آخر في أوربا..

ركبنا القطار إلى باريس "عاصمة النور" هكذا يقولون، ولم أر فيها نوراً اللهمّ إلا ساحات واسعة، وشوارع عريضة، وآثاراً ضخمة، ونهر السين وبرج إيفل، هي بمعيار العلمانيين نور ساطع، فالمسارح ودور اللهو والملاهي، والصالونات الأدبيّة، وكثرة التماثيل والأصنام العارية في ساحاتها، والأسواق الضخمة التي يذهل فيها الإنسان عن نفسه، والانحلال الخلقي، والتفكك الأسري، والمواصلات الكثيرة بأنواعها: فوق الأرض، وتحت الأرض.. كل ذلك يبهر من يرى ببصره لا ببصيرته.. وبعينه لا بقلبه وعقله، فالناس يعملون لدنياهم فقط، ولأنفسهم، أما الآخرون في مستعمراتهم فلا قيمة لهم إلا ما يقدمون لهم، وأما الآخرة وثواب الله لعباده، وعقابه لعبيده فهذا ليس في قاموسهم.

"فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وما لهم في الآخرة من خلاق". لكن والحق يقال: هم يمارسون حريتهم بمستوى عال لا نرى حدّه الأدنى في بلادنا، ويعبِّرون عما في أنفسهم ويطالبون بحقوقهم دون خوف ولا وجل، ويعيشون حياتهم المادية الدنيوية بما يليق بالإنسان من حق العلم، والصحة والشيخوخة.

زرنا سجن الباستيل، فقد كان فندقنا قريباً منه، ولئن أصبح معلماً للوحشية السابقة إن في بلادنا "باستيلات" كثيرة تتوطد أركانها وتزداد عدداً كل يوم، حتى تستوعب من يطالب بحياة حرة كريمة.

مددت يدي إلى جيبي فوجدت الفرنكات الفرنسية لا تتجاوز المئتين والخمسين، فقررنا العودة إلى مرسيليا لنستقل الباخرة إلى الجزائر، وقد أعلمونا أن باخرة كل يوم تغادرها إلى الجزائر، فلا بأس أن نقضي يومين هناك قبل الإبحار..

ركبنا القطار وكان سريعاً فوصلنا بحدود الساعتين إليها، ولم ننتبه إلى أن القطار سيذهب إلى طولون، وأن علينا أن نغادره في حدود خمس دقائق إلى غيره المتجه إلى مرسيليا، إلا في الدقيقة الأخيرة، كانت الحقائب كثيرة، وقد انتفخ ما كان منها رقيقاً عند قدومنا، فزوجتي مغرمة بالتسوّق، وهذا دأب النساء كلهن، لا يهنأ لهن عيش إذا لم يشترين ما يلزم وما لا يلزم –وهذا لا علاقة له بالمعري في لزومه مالا يلزم- نظرت إلى اللوحة فجأة وقلت لها: أسرعي بالنزول.

قالت: لماذا؟

قلت: أسرعي وسأخبرك.

نزلتُ ومعي حقيبتان كبيرتان في كل يد، ورمى أحدهم بالخامسة حين تحرك القطار، ونزلت زوجتي. كنا على الرصيف الخامس، والقطار الذاهب إلى مرسيليا على الرصيف الثالث، وعلينا أن ننزل الدرج ونسرع في البهو السفلي لنصعد الدرج إلى الرصيف الثالث.

حملت الحقائب الخمس وكانت ثقيلة جداً، لا يستطيع أحدٌ وأنا منهم أن يحملها في الأحوال العادية، ولكن في مثل هذه المواقف يهبنا الله تعالى قوة غير عادية تتحمل أضعاف قدراتنا، وقلت لزوجتي عليك أن تلحقي بي، وبسرعة انطلقت نازلاً إلى الممر السفلي، ثم صاعداً، ووقفت أمام أحد أبواب القطار، وأردت أن أقذف بالحقائب داخله وأرتقي، ولكن أين زوجتي؟! إنها ما تزال تمشي "مسرعة" هيا يا ابنة الحلال، وتحرك القطار، ووصلت زوجتي في الوقت غير المناسب، لم أقل لها شيئاً فلا يفيد العتاب، ولا ينبغي قول مالا طائل له.. فقد أسرعتْ ولكن القطار كان أسرع.. وهو يصل إلى مرسيليا في الثانية عشرة ظهراً.

بعد ربع ساعة ينطلق قطار آخر، فلا بأس إذاً.. وهكذا كان.. إلا أن هذا القطار كان متأنياً في سيره يحمل البريد إلى كل قرية، ومدينة صغيرة، ويحمّل البضائع وينزلها.. ركابه قليلون.. من ذا يركبه إلا إلى منطقة قريبة، أو أناس مثلنا لا يأبهون للزمن، فليس لهم عمل يسرعون إليه.. ووصلنا الرابعة والنصف عصراً، وأخذنا سيارة إلى فندق قريب وتغدينا ثم ذهبنا إلى مكتب الشركة الجزائرية للنقل البحري، وكان اليوم الأربعاء لنثبت عودتنا غداً أو بعد غد.. فمعنا مئتان وخمسون فرنكاً دفعنا منها خمسين فرنكاً أجرة هذه الليلة.. وما بقي يكفي يوماً آخر.. هكذا فكّرنا.. قلت للموظفة: احجزي مكانين لي ولزوجتي غداً أو بعد غد إلى الجزائر.

قالت: ليس عندنا باخرة إلا يوم الاثنين القادم.

قلت: لقد سمعت أنّ هناك باخرة كل يوم.

قالت: لا، مع الأسف.

قلت: هذه مصيبة ليس معي الفرنكات ما يكفي، هل تنطلق من طولون باخرة؟

قالت: يوم السبت القادم.

فأُسقط في يدنا.. ليس معنا إلا أجرة النوم في الفندق، وسنبقى دون طعام خمسة أيام؟!! أو نستجدي الناس؟ هذه مصيبة أكبر، ماذا نفعل؟

قلت لها: متى ذهبت آخر سفينة؟

قالت: اليوم الساعة الخامسة أي قبل نصف ساعة من الآن.

قلت: أرجوك –ليس معنا من المال شيء- اسألي الميناء هل انطلقت السفينة أو لا؟

كانت الموظفة لطيفة، أحسّت بما يعتمل في صدري من حيرة وأسى، فاتصلت بالميناء فقالوا: لما تبحر، وهناك بعض المسافرين عند شباك الجوازات، فطلبتْ إليهم أن يتريثوا فهناك مسافران.

يا الله، ما أكرمك، وما أرحمك، هيا يا زوجتي أسرعي إلى الفندق نحضر الحقائب.. إنني مسرع فالحقي بي..

كان مكتب الشركة بين الفندق والميناء، فأسرعت إلى الغرفة، وحزمت من الحقائب ما كنا فتحناه، فلما انتهيت كانت الزوجة على باب الغرفة.. قلت لها خذي حقيبتك الصغيرة وانزلي ريثما أحمل الحقائب وأطلب سيارة.

وحملت الحقائب مرة أخرى، بقوة خارقة لا أدري كيف حُزتها إلا أن الله سبحانه يمنحنا القوة الزائدة في الأوقات الحرجة ونسينا بعض الأشياء في الغرفة، وانطلقت السيارة بنا..

المسافة بين الفندق والميناء كيلو متر واحد.. لكن هناك سبع إشارات للمرور.. كان نصيبنا أن نقف عندها جميعاً.. فعيونها تحمرُّ حين نصل إليها حزناً على فراقنا، ولم تَدْرِ أننا لم نكن حريصَين على البقاء، فقد نفد المال، وفرغ الجيب.

وصلنا في دقائق، ولكنه كان زمناً طويلاً ثقيلاً.. هكذا أحسسنا وحملت الحقائب في سباق الماراثون، ودخلت الميناء، وقفزت فوق الحاجز غير المرتفع.

صاح شرطي: جزائري متخلّف.. وقام لينهرني أو يدفعني فصحت فيه: بل أنت المتخلّف.. وكأن جوابي السريع فاجأه فوقف ساكتاً مبهوتاً.

سمعني رجل مسافر فهدأ من روعي وقال: تمهّل تمهّلْ.. خذ قلمي، وسأنتظرك إلى أن تنتهي... شكرته سريعاً وقدّمت جَوازَيِ السفر للواقف خلف النافذة بعد أن ملأت ورقة الخروج بقلم هذا السيد اللطيف، ثم ناولني الجوازين وحملت الحقائب وأسرعنا تتبعنا الزوجة، فلما وقفنا على الباخرة رُفع السلّم المتحرك.. وهناك تصببت عرقاً.. وشعرت بالإرهاق والتعب.. جلسنا فوق كرسيين وحولنا الحقائب نأكل بعض اللفائف الصغيرة، ومن ثم حاولت أن أبدّل الكرسيين بسريرين، فقد نالنا النصب والتعب في الرحلة السابقة، فلم يسعفني الحظ، فقضينا الليلة نائمين على الحقائب فكانت أهون من سابقتها.. ووصلنا ميناء الجزائر يوم الخميس في الساعة الثالثة عصراً..

لم يكن معي سوى مئة فرنك فرنسي حين دخلتُ ميناء الجزائر العاصمة، إلا أن لي بذمتهم خمس مئة دينار.. فلماذا؟

حين ختم على جوازي في ميناء الجزائر وأنا مسافر إلى مرسيليا قالت لي موظفة الجمارك أمعك دنانير؟ قلت: معي خمس مئة دينار. قالت: هاتها. قلت: وَلِمَ؟ أنا أحتاجها حين أعود.

قالت: أعطيك وصلاً بها، تبرزه فتسترد الدنانير.

قلت: ليتني لم أخبرك بذلك.

قالت: لو لم تخبرنا ثم فتّشناك، فوجدناها معك، صادرناها وغرّمناك ضعفيها.. ألف دينار.

وهذا ما تفعله الدول الاشتراكية ذات النظام الشمولي.. ظانّة أنها تحافظ على ثروتها.. ولو فكروا قليلاً لوجدوا أنهم بهذا التصرف الأخرق جعلوا الفرنك الفرنسي أكثر من ضعفي الدينار الجزائري... ولما عدت ذهبت إلى المرأة نفسها التي أخذت الدنانير مني، وقدّمت لها الوصل، فدلتني إلى المصرف القريب من الميناء.. والمصرف يوم الخميس يغلق أبوابه في الثانية والنصف ويفتحها يوم السبت فالأمر جد خطير.. فالسيارة في مرآب المطار، ونحن بحاجة إلى سيارة نستقلها إلى المطار، وإلى دفع أجرة المرآب، وثمن بنزين سيارتنا، وثمن الطعام الذي نحن بحاجة إليه في طريق عودتنا إلى بجاية، فالمسافة نقطعها عادة بين أربع ساعات وخمس.. سألت الله العون وتركت زوجتي مع الحقائب وهرولت إلى المصرف.. كان فيها رجلان فقط، المحاسب والمدير..

- أأغلقتما وانتهى الأمر؟

قالا: وماذا ترى؟ تعال يوم السبت.

ضربت على الوتر الحسّاس قائلاً: يا أخويّ الكريمين ليس معي دينار واحد فكيف أصل إلى بجاية؟ وليس المبلغ كبيراً إنه خمس مئة دينار.

قالا: عد يوم السبت. قلت: بارك الله فيكما أنتما رجلان كريمان وأنا سوري، والجزائري والسوري متحابان أليس كذلك؟

ابتسما قائلين: ظنناك من... وذكرا بلداً عربياً لا يحبانه.. ناولني المحاسب خمس مئة دينار من جيبه وحوّلت صَرف الوصل باسمه ليقبضه يوم السبت.. وعدنا إلى بجاية الحماديين.

الزيارة الثانية إلى فرنسا

بين الزيارة الأولى والثانية شهر واحد، فالأولى أول تموز "يوليو"، والثانية آخر آب "أوجست" واستغرقت الأولى أسبوعين والثانية ثلاثة أسابيع، لكنَّ الثانية كانت مرتبة مريحة، زرنا فيها شمال فرنسا والساحل الجنوبي الشرقي..

حجزت سريرين في الدرجة الأولى من بجاية إلى مرسيليا وحدّدت موعد الذهاب والإياب كي لا أقع فيما وقعت فيه في الرحلة الأولى، ونصحني أحد المجرّبين أن أسجل اسمينا في المطعم فور دخولنا السفينة وقبل دخول "الكابينة" المخصصة لنا، فعملتُ بنصيحته، وكان ما فعلته مناسباً، فقد بكّرت في الصعود إلى الباخرة، وانطلقت فوراً إلى المطعم، وثبّت الاسمين، فجاء موعد الإفطار والغداء والعشاء مناسباً، فلكل وجبة وقت يستغرق الساعة والنصف إلا الإفطار فساعة. وتصوّر أن الغداء من الثانية والنصف إلى الرابعة أما العشاء فمن السابعة والنصف إلى التاسعة، وكنا في الفوج الثاني وهذا يعني أن الفوج الأول يبكّر في تناول الطعام، والفوج الثالث يأكل دائماً متأخراً.

في الغرفة أربعة أسرّة، كل اثنين في طرف منفصل بشكل هندسي عن الطرف الآخر، لكن الحمام واحد.. وهناك نافذتان وأربع "كنبات" مجالس إلا أن شريكنا في الغرفة وزوجته كانا من طاقم السفينة، فلم نرهما لأنهما رغبا أن يكونا عند ربّان السفينة، فارتحنا في الغرفة..

كان منظر بجاية وأنت تبتعد عنها رائعاً، وكان لون البحر على الضفة من بعيد أخضر لازوردياً، ثم صار أزرق، ثم اغمقّ قليلاً حين بدأت الشمس تصفرّ، وكان القمر في تلك الليلة بدراً فصعدنا إلى ظهر السفينة لنرى عظمة الخالق في مخلوقه الكبير –البحر- صفحة الماء تعكس خيوط القمر الفضيّة، فتتلألأ الأمواج مرايا.. مهرجانات ممتدة عشرات الأميال فتحسُّ بالجمال ممزوجاً بالرهبة، وتنظر حولك فترى أضواء منبعثة من سفن تمخر عباب البحر قريبة وبعيدة، ويمتزج الهدوء من حولك بأنغام "الروك أندرول أو الجاز" المنبعثة من الكافيتريا وترى نفسك بين بحرين علوي وسفلي وأنت تسبح على أحدهما تحت الآخر معلقاً برحمة الله، متعلقاً بفضله ومنّه، فتصيح من أعماق أعماقك "لا إله إلا الله.. اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت".

وتستيقظ صباحاً، فتجلس بعد الصلاة لترى الشمس تشق البحر، وتخرج منه، فتحيل الجوّ ضوءاً ساطعاً أحمر، أبيض شفافاً، ثم تتوضح زرقة البحر.. وترى من تحتك أسماكاً ضخمة يتراوح طولها بين خمسة أمتار وعشرة تساير السفينة تبحث في مخلفاتها عن غذاء لها..

وترى من بعيد سفينة تعادل حجم عقلة الإصبع، فتخاف على ركابها أن يغرقوا وتحمد الله تعالى أنك على ظهر سفينة ضخمة، فتعرب عما في نفسك لأحد العاملين في السفينة، فيجيبك دون مبالاة: عقلة الإصبع تلك أكبر حجماً من هذه السفينة.. فينخلع الفؤاد خوفاً من الله تعالى لا من البحر، فتقول بلهجة الواثق: يا بحر.. ربي وربك الله.. وتقرأ قول الله تعالى: "وترى الفُلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون" وتلهج بالثناء على الخالق العظيم.

استقبلنا مرسيليا كما ودعنا بجابة، فما إن لاحت أبنيتها ودنونا منها حتى دخلنا الحمام ولبسنا ثياباً نظيفة، وانطلقنا إلى أحد الفنادق في قلب المدينة، وأخذنا غرفة ثم نزلنا نتجوّل في الشوارع، فإذا نحن في الحي العربي، كل الناس يتكلمون لغة نفهمها، ويتصرفون بعفوية العربي دون تكلّف، وأكثرهم من تونس والجزائر، وبعضهم من العراق وسورية ولبنان.

طلبت زوجتي شراء غسالة صغيرة "فضّاضة" فجبنا الشوارع من حولنا فوصلنا إلى شارع فيه أدوات كهربائية.. ورأينا حاجتنا عند رجل يتكلّم العربيّة، فلما اشتريناها سألناه عن أصله فإذا به يهودي من لبنان، قال: إنه يحب العرب كما يحب بني دينه، ويقول بلهجة الواثق: إنّ إسرائيل ستحكم العالم لأنها تفكر وتعمل، وحكامها مخلصون لبني جنسهم على العكس من العرب والمسلمين وذكر أنه سمع من أحد معارفه المقربين من الساسة اليهود أن من مخططاتهم إعادة احتلال البلاد العربية، وتقسيمها من جديد.. ولن يمر هذا القرن إلا وأكثر ما يعملون له سيتحقق.. لم أناقشه لأنني أعلم المستنقع الذي نعيش فيه، والفقر والجهل المرسومَين لنا، وأعلم حقيقة الدُمى التي تجثم على قلوبنا والضعف والاستكانة اللذين تعيشهما أمتنا، والشَّرْذمّةَ المتأصلة في أفئدتنا، والتفرّق الذي نسعى إليه قبل أن يُفرض علينا، كل حاكم قزم يتمسك بكرسيّه ويقدّم التنازلات للعدو، ويبيع أهله ووطنه ودينه كي يبقى حياته متسلطاً، علينا مع احتفاظهم بالألقاب الرنانة، والكنى الضخمة، فأشعر بالتقزز والاشمئزاز. وأذكر قول الشاعر الأندلسي في ملوك الطوائف:

مما يُزهّدني في أرض أندلس أسـماء معتمـد فيها ومعتضـد

ألقاب مملكة في غير موضها كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد

وأتذكر أبياتاً لي قصّها الرقيب من ديواني "نبضات قلب" أقول فيها:

وهُـمُ بـألقاب الفخا مة والرياسة يرفلونْ

وبكل أوصاف الزعا مـة والريادة يُنعتونْ

هـذا أمير المؤمنين وذاك حـامٍ للحصونْ

وجلالةُ الملك الهمـا م حمته أهداب العيونْ

وسمّوه جـبل عظيم يفتـديـه الحائرونْ

وفـخـامةٌ وسيـادةٌ وبغيرها لا يرتضونْ

وعـدوهـم يكويهمُ بالكره والحقد الدفينْ

وهـمُ على أعتـابه فـي ذلهم يتمرغونْ

لـو داسهـم بوقاحة ضحكوا وهم يستبشرونْ

لـو مَجَّهُمْ بصفاقـة عادوا وهم يتمسحونْ

مكثنا في الفندق ليلتين ثم قلنا لصاحبته الفرنسية ستغيب ليلة ثم نعود فقد قررنا زيارة "كان" و"نيس" و"مونتكارلو".

وأخذنا القطار إلى كان، فرأيناها مدينة حلوة جميلة، تجمع بين هدوء الحياة وصخبها، فهي هادئة في النهار على البحر صاخبة فيه وسطها، وهي تضجّ بالحركة بعد العصر على الشاطئ هادئة في الطرف الآخر.. ولا تنس أنها مدينة السينما أما نيس وشاطئ الريفيرا فليتنا لم نره إذ كان في ساعات الضحى الأولى في المكان الذي نزلناه شاطئاً للعراة.. فقد رأينا كهلين في الخمسين تقريباً، وطفلاً وطفلة لا يسترون أجسامهم مطلقاً، بهائم رتّع والتفتنا على بعد خمسين متراً فإذا شاب وصبية يزنيان ثم يعودان إليهم وكأن شيئاً لم يكن. صدمنا من هذه الحيوانية الهمجية، أإلى هذا القدر من البهيميّة يصل هؤلاء الناس، أهؤلاء هم قدوتنا في الحياة ومنتهى أمل الناعقين بالحضارة الأوربية؟!! أي حياة هذه التي لا دين فيها ولا شرف ولا عرض ولا حياء؟!! أسرعنا بعدَين عن الشاطئ نخاف أن تغور الأرض بمن فيها، فنكون مع هؤلاء إلى يوم القيامة.. أستغفرك ربي وأتوب إليك..

هيا يا زوجتي الحبيبة الطاهرة المحجبة النقيّة.. هيا نبتعد.. فوجدتها سبقتني بأمتار كثيرة، ثم نركب القطار إلى مونتكارلو، نسير إلى الجبل الذي يقوم عليه قصر الأمير وزوجته غريس كيلي التي ماتت بعد ذلك بسنين قليلة.. ونرى بعض اللقطات الفولكلورية في تبديل الحرس والجوقة الموسيقية المصاحبة لذلك، وإذا اقتصاد الإمارة وحياتها يقوم على القمار والرهان والفساد الخلقي المتأصل في أهلها، فلا نشتهي طعامهم، ولا نرتاح لأرضهم، ونسرع إلى مرسيليا فنصل بعد المغرب، لنسأل في الفندق نفسه عن غرفة فلا نجد لأننا تركناها هذه الليلة بملء إرادتنا، ونبحث عن مأوى في فنادق أخرى فلا نجد، ونعود إلى الفندق نفسه لتأخذنا إحدى العاملات فيه إلى بيت أخيها على بعد مئات الأمتار منه، فننام في غرفتها.. أتدرون أين نامت؟ على كرسي في المطبخ ولعلكم تسألون: أليس في البيت مكان تنام فيه سوى المطبخ..؟ نعم هناك أمكنة عدة، في الصالون، في غرفة أبناء أخيها.. لِمَ لمْ تنم هناك؟ تقول هذه المرأة وهي مغربية: إن زوجها يعمل في الكويت لم يستطع أخذها معه فاشتغلت في الفندق الذي ننزل فيه، واستأجرت عند أخيها غرفة أعطتنا إياها هذه الليلة، ولا يجوز لها في شرع الأخ القاسي أن تدخل غير غرفتها.. فهي –وإن كانت أخته- لا ينبغي أن تتجاوز حدودها- له أن يسألها عن وقت عملها وذهابها إليه، وعودتها منه فشرفه شرفُها، وعرضه عرضُها، والويل لها إن خرجت عن المألوف فليس لها إلا القتل شفاءً.. وهي في الوقت نفسه غريبة لا تأكل معهم، ولا تشرب معهم، وتنام في غرفتها دون أن تتدخل في شؤونهم ولا بأس أن تجلب لهم الهدايا وتلاعبهم على أن تكون معطاء دائماً..

وانطلقنا بعد أيام إلى الشمال لنمرّ على المدن "أورانج" و"ديجون" و"ليون" فنتمتع فيها دون أن نمكث كثيراً.. وذهبنا إلى الفندق المسمى بالباستيل فرحّب بنا صاحبه إذ صرنا زبونين، وقام الشاب التونسي مديره يرافقنا إلى متحف اللوفر وقصر الإيليزيه، فكان يوماً حافلاً..

وزرنا المسجد الكبير في باريس، وإمامه جزائري فصلينا فيه، وتعرفنا على كثير من المصلين والمصليات –طبعاً كل واحد منا مع بني وبنات جنسه فلا اختلاط إلا في حدود الواجب والمعقول، إلا أن النشاط المسجدي لم يكن كما ينبغي، ولعل القائمين عليه إذ ذاك لم يكونوا على المستوى الدعوي، فهم موظفون لا دعاة.. والفرق كبير بين هذا وذاك..

وقضينا بعد ذلك يوماً كاملاً في برج إيفل وعلى ضفاف نهر السين وركبنا قارباً طاف بنا شواطئه.

وكنا نحب الذهاب إلى ساحة "الكونكورد" وما حولها بُعَيدَ العصر من كل يوم، وزرنا "الجالوري" السوق الضخم المؤلف من خمس بنايات كبيرة، كل واحدة ذات أربع طوابق، فيها ما يحتاجه المرء، ومالا يحتاجه.. ولم نشتر شيئاً، فقد تعلمنا من الرحلة السابقة أن نكون مقتصدين واعين.. وجملة "لم نشتر شيئاً" صحيحة مع بعض التحفظ!! فلا يستطيع المرء أن يمتنع عن التسوّق تماماً، ومعه نصفه الأخر.

وتعرّفنا بشكل جيّد على أحياء باريس عن طريق "مترو الأنفاق" الذي يخترق العاصمة بشكل يثير العجب، فهو يعتبر بلا شك أعقد من مثيله في روما، و"أندر جراوند" ما تحت الأرض في لندن، أما نيويورك فعلى ضخامتها وعلوّ شأنها فمستوى الأنفاق عندها أقلّ شأناً من أنفاق باريس.

في مساء أحد الأيام دخلنا بقالة تبيع أنواعاً من الجبن راقية، وكنت أشتاق إلى الجبن السوري المشلشل والمكعّب، فقلت لعلي أجد بغيتي، ففرنسا يجبى إليها كل شيء، من الشرق والغرب، لكنني لم أجد ما أريد، ورآني صاحب المتجر أقلّب ناظريَّ فيما عنده، لا أستقر على شيء فأرشدني إلى جبنة فيها اخضرار –تعفّن- قائلاً إنها أرقى ما عنده من الأجبان فأخذتها، وفي غرفة الفندق وضعت قطعة في فمي فلم استسغها، ومثلي كانت زوجتي.. فقلنا: غشّنا أو هو صادق فيما فعل، وللناس فيما يتذوقون مذاهب!! عند الصباح جاء النادل لترتيب الغرفة فأعطيناه ما اشتريناه أمس، فأخذه شاكراً لا يصدّق أذنيه ولا يديه.. فعلمنا أنها عندهم جبن فاخر.. فقلنا صدق المثل القائل: لولا اختلاف الأذواق ما عمرت الأسواق..

وفي الحي اللاتيني دخلنا مطعماً مغربياً تذوقنا فيه لأول مرة "الكسكس: المطبوخ ب"الأرضي شوكي" ذي التبلة والأفاوية التي تشتهر بها المغرب، وتناولنا الحريرة المغربية، فلم أستسغها على الرغم أنها من أشهر المقبّلات عندهم، وكان الرجال والنساء يجلسون في المقاهي فأستنكر ما تفعله النساء وأقول: أمِنَ المعقول أمن نكون مثلهم في يوم من الأيام وتصير المرأة مبتذلة عندنا ابتذالها في فرنسا؟! وتجيبني الأيام بعد عشرين سنة إجابة عملية، فقد سابقتْهُنَّ نساؤنا في كل عُجَرهِنّ وبُجرهِنّ، وأصبحن يقلدنهنّ في كل ما هبّ ودبّ، إن الإنسان حين يفقد دينه ينجر إلى الهاوية، وهو يحسب أنه على شيء، فتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعُنّ سَنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه وراءهم.. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمَنْ؟

رأى الشاعر القروي في الثلاثينيات من القرن الماضي، وهو نصراني: امرأة تلبس ثوباً إلى ما تحت الركبة فقال بيته المشهور:

لحد الركبتين تُشمّرينا بربك أيَّ نهر تعبرينا؟!

ولو عاش إلى أيامنا فماذا يمكن أن يقول لها بعد أن تهاونت حتى بورقة التوت؟! لعله يقول ما أقول أنا أصالة عن نفسي ونيابة عنه، وعنكم أيضاً إن كنتم على مذهبي:

تركتِ الدينَ والخلقَ المتينا فصرتِ بضاعةً للمفسدينا

وقلّدتِ الكوافرَ دون وعي فعشـتِ مَهينةً دنيا ودينا

يتبــع