يومياتي في أمريكا

يومياتي في أمريكا

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

الحلقة ( 36 )

الطريق إلى كندا...

الجمعة  27 من أغسطس  1982

سبق أن عقدنا النية على رحلة إلى كندا أنا والأخوان سعيد بدران ، ومحمد مختار ، والأول طالب جامعي سعودي حضر إلى الولايات المتحدة لاستكمال تعليمه ، والثاني مصري كان يعمل في أحد المطاعم ، وبجانب ذلك يحاول الحصول على بكالوريوس الصيدلة ، وكان طاقة طيبة من النشاط ، وقوة التحمل ، وتزوج بإحدى الأمريكيات ، وعاش موفقا في حياته الزوجية كما كان يخبرنا .

وجزاه الله خيرا الأخ إبراهيم المعتاز( السعودي ) إذ حضر إلي في مسكني بمدينة نيو هافن  بسيارته في الساعة السادسة صباحا ، وانطلق إلى مدينة "  بريدج بورت " حيث كان الأخ سعيد بدران في انتظاري للذهاب إلى نيويورك للحصول على تأشيرة الدخول إلى كندا من السفارة الكندية .

كانت مدينة نيويورك ــ كالعادة ــ تموج بالحركة والنشاط ، والازدحام . الشوارع في حي منهاتن مرقمة ، وعلى لافتات الترقيم كتبت الحروف التى تدل على الجهات الأصلية الأربع  ( الشرق والغرب والشمال والجنوب ) ( S . N . W . E   ) . وخلال ساعة انتهينا من أجراءات استخراج التأشيرة ، وهي صالحة للدخول إلى كندا وسارية المفعول إلى آخر نوفمبر 1982 ، وعدنا إلى بريدج بورت في الثانية مساء ، وتناولت غداء خفيفا مع الأخ سعيد بدران ، وحضر الأخ محمد مختار ثالثنا في الرحلة الميمونة إن شاء الله . لقد كلفناه باستئجار سيارة للرحلة ، فاستأجر سيارة فارعة ، واسعة الأرجاء ، موديل 1982 .

وعدنا إلى مدينة نيو هافن لاستحضار حقائبي ، كنت مجهدا غاية الإجهاد . وبدأنا  المسيرة من نيو هافن في السادسة مساء .

الطبيعة ساحرة ... ساحرة ، الخضرة تغطي كل مكان ، الجو معتدل ، والشمس ساعة الأصيل كانت تواجهنا ، ثم بدأت تغيب وراء الجبال الخضراء ... على البعد أشباح قمم ، وعلى القرب سفوح وقمم . كنا نصعد بالسيارة جبالا عالية ، ولا نحس بهذا العلو الشاهق إلا إذا نظرنا إلى الوديان من تحتنا ، مررنا بأنهار ، ومررنا ببحيرات تحيط بها الخضرة في صورة عجب .

ورأينا الغابات الشاهقة التى ينطلق فيها صيادو الغزلان والأرانب البرية  . ومن أعجب ما رأينا مدينة جبلية ... الجبل على يميننا ينحدر بشدة ، ومئات البيوت قائمة كأنما قد شبكت ، أو ألصقت على السفح كالصور الحائطية ... منظر عجيب ، وساءلت نفسي  : يا لله !! كيف استطاع هؤلاء الناس  أن يبنوا هذه البيوت ؟ ، وكيف تمكنوا من صناعة هذا السحر؟ .

حل المساء وعشرات بل مئات من السيارات تنطلق ... الطرق واسعة واللافتات على الطريق تحمل رقم الطريق ، والمخارج ، وأسماء المدن ... الخ .

أما الطرق فكأنما قد فرشت بالحرير ، وتبادلنا المقعد الخلفي أنا والأخ سعيد بدران ، ونمت ساعة أو بعض ساعة في السيارة .

الساعة الآن تقترب من منتصف الليل ، وعزمنا على أن نبيت ليلتنا في أحد "الموتيلات " ، والموتل هو فندق صغير على الطريق ، ثم نبكر بالانطلاق ، وبحثنا كثيرا وطويلا فلم نجد مكانا خاليا . وأخيرا عثرنا على حجرة بسريرين ، أضيف إليهما ثالث . وكان ذلك في موتيل ( Holliday Inn  )  ،  وأجر الغرفة خمسون دولارا . الحجرة فاخرة نظيفة ، ذكرتني بحجرات فندق هيلتون بمدينة " سبرنج فيلد " .

وصلينا المغرب والعشاء جماعة ، نمنا أنا والأخ محمد مختار على السريرين الكبيرين ، ونام الأخ سعيد بدران على السرير الصغير .  وجلست ساعة ، أو بعض ساعة على سريري  ....   كنت متعبا جدا ، وقد أثقل الإعياء جسدي وعيني ، وأخذت أستعيد مظاهر الجمال الرباني الخارق التي شهدناها في مسيرتنا : الجبال ... الوهاد ... الأنهار ... الأشجار ... الغابات ... البحيرات ... البيوتات القليلة التى بناها أصحابها في الغابات .

في هذه الغابة أرى بيتا ضغيرا جميلا ، يذكرني بالبيت الذي كان " بطلا " لحلقات تليفزيونية عنوانها " بيت صغير في البراري "  ، وهي حلقات كانت تحبها لمياء بنتي الحبيبة في صغرها . وقلت في نفسي : لو كنت أملك أنا وأسرتي بيتا كهذا وحوله هذه الطبيعة الساحرة الفاتنة ما نقصنا من الدنيا شيء .

إن هذه البقاع هي جنة الله في الأرض حقا ، ولا أنسى أن أسجل أن بعض الغابات التى مررنا بها كان أمامها لافتة على الطريق تحمل رسم غزال يثب في قوة ونشاط . إنها غابات مشهورة بكثرة غزلانها ، ويسمح للناس بالصيد فيها في أوقات محددة ، وبتصريحات رسمية.

واللافتة تحمل تحذيرا للمارة حتى لا يصدم أحدهم غزالا وهو يعبر الطريق إلى الجانب اللآخر من الغابة .

واليوم هو السبت 28 من أغسطس 1982   .

نمنا نوما عميقا ولكننا استيقظنا في نشاط ، وصورت بعض المناظر الجميلة أمام الفندق ، وتناولنا فطورنا في الحادية عشرة في مطعم صغير يديره أمريكي عجوز وابنته . والوجبة كانت : من قهوة وخبز وزبد وبيض مقلي بطريقة معينة . وعلينا الآن أن ننطلق إلى شلالات نياجرا ... أمامنا قرابة مائة ميل ... الطبيعة تنطق بالجمال والسحر والفتنة .

ووقفنا لتسجيل بعض هذا السحر في لقطات تصويرية . يا سبحان الخالق ، تباركت قدرته ، وعزته وجلاله !!

**********

ووصلنا إلى منطقة شلالات نياجرا ، وكان علينا أن "نركن" السيارة بعيدا عن الشلالات بقرابة خمسين مترا . وقبل أن ننطلق إليها على أقدامنا تناولنا طعام الغداء في مطعم فاخر ، وكانت الوجبة فاخرة كلفت كلا منا سبعة دولارات . إلى الشلالات إذن سيرا على أقدامنا هذه الأمتار الخمسين ، ورأيت الإبداع والجمال الرباني الساحر ... فلأول مرة في حياتي أشاهد شلالات نياجرا ... الماء تندفع شلالاته لتسقط من عل ٍفي دفعات متدافعة متواصلة لا تنقطع ، ولها هدير رهيب ، كأن هناك ألف أسد يزأرون مرة واحدة وبطريقة متواصلة .

لون الماء أبيض  وذلك من قوة الاندفاع وتتابعه . والرذاذ يصنع موجات بيضاء تعلو في الهواء  كأنها موجات من الدخان الأبيض . ووقفت كالمسحور أمام هذا الجمال ، ومن جسر عال ٍ يقابل الشلالات سجلت مزيدا من الصور . وملأت عيني من هذا الجمال من زواياه المختلفة . صخور الجبل صماء ، والسفلي منها صامد أمام الانحدار الرهيب لقوة الماء العاتية.

نحن نرى الشلالات الآن من الجانب الأمريكي ، من آخر بقعة في الحدود الأمريكية ، وعلي الجانب الآخر كندا . وبقية الشلالات لا تستطيع أن تراها عن كثب إلا من الجانب الكندي . كما أن الشلالات في الجانب الأمريكي ترى بشكل أحسن إذا رأها الإنسان من الشاطئ الكندي . وهذا جزء من برنامجنا إن شاء الله .

ركبنا قاربا بخاريا كبيرا يتسع لقرابة سبعين فردا ، التذكرة بدولارين ( مع ملاحظة أن مسئولي الجولة يوزعون على المشتركين في الجولة معاطف جلدية يستردونها بعد انتهاء الجولة ) ، ارتدى كل منا المعطف الجلدي الأسود الثقيل ليقيه موجات الرذاذ ، لأننا سنقترب  من الشلالات ... من أقرب نقطة ممكنة في مساقطها  . كان المنظر أبهى وأكمل ... مزيدا من اللقطات لهذا السحر ، واستعنت بعدد من الركاب لالتقاط صور العمر لنا ... واقترب القارب البخاري الكبير من مساقط المياه ، كان الرذاذ قويا وعاتيا ، ولو لا هذه المعاطف لغرقت ملابسنا بالماء .

كان الأصيل يزحف ...  هذا هو قوس قزح ... كنت أملأ عيني من هذا السحر ، وكأنني في حلم من الأحلام ، حقا لقد تجلت قدرة الله فيما نرى . وعدنا إلى الشاطئ . ومن محل بجانب الشلالات اشترينا بطاقات تحمل صورة الشلالات ، و (تليفزيون لعبة )  في حجم الكف يضغط عليه الناظرضغطات متتابعة ، فيبين عن  مناظر الشلالات .

**********

والآن علينا أن نعبر الحدود بسيارتنا إلى كندا . من بوابة تقف عليها فتاة عبرنا ، نظر الموظف المسئول في جوازات السفر وختمها ودعا  لنا بالسلامة ، وطيب الإقامة . وانطلقنا إلى مدينة " تورنتو " في كندا .  لم تكن الطبيعة في طريقنا بجمال الطبيعة الأمريكية ... لم يكن هناك الجبال والوهاد والتلال التى تأخذ  بالأبصار كما رأينا في أمريكا . إننا هنا أمام طبيعة مسطحة . وبعد ساعة ونصف في المساء وصلنا إلى مدينة تورنتو ، المدينة ضخمة شامخة المباني ، رائعة النظام ، نظيفة الشوارع .

**********

وأسجل هنا أننا قبل مسيرتنااسترحنا على الشاطىء الآخر التابع لكندا وتناولنا الغداء ، ونظام المطاعم أنه لا يدخلها إلا من له مكان ، بمعنى أن يستوعب المطعم العدد المطلوب ، ويقف الباقي في طابور وأمامهم سلسلة فإذا انتهى أحد من تناول طعامه يدخل من أصابه الدور من الواقفين أمام السلسلة . إلى أن جاء دورنا وجلسنا لنمتع عيوننا    بــ " حدوة الحصان " . و تعني منظر الشلالات من الجانب الكندي وهي تصنع حدوة حصان في شكل عجيب أجمل بكثير من منظر الشلالات ونحن نراها من الجانب الأمريكي .

هذا ،وقد لاحظنا أن  كل من يقدم الطعام للزبائن من الجنس الآخر ، سألنا إحداهن عن مرتبها الشهري .  فابتسمت ، وقالت : لا شيء ، ولكني أتقاضى مرتبي من حصيلة " البقشيش " الذي يدفعه الزبون ، يجمع ثم يقسم بعد ذلك على العاملات .                     وأسجل هنا حقيقة غريبة تتعلق بهذه الشلالات ،  وهي أن  بعض المغامرين  يدخل برميلا من الكاوتشوك السميك ويغلقه إغلاقا شبه تام على نفسه ، ثم يلقي بنفسه قبل بداية الشلال ، فيأخذه الشلال إلى الأسفل ، ويرتطم بالصخور التحتية ، فإذا عاش ظل يفخر بهذه المغامرة التي تدر عليه دخلا طائلا ، من وكالات الأنباء ، والصحف ،والسينما  ، وغيرها . وإذا لاقى مصرعه يكون له أجر المغامرين ، وإن شئت فقل " المنتحرين "   !!!!!!!!!

واتصل الأخ محمد مختار ـ هاتفيا ـ بصديقه محمود جمعة الذي يعمل في أحد مطاعم تورنتو ، وانتظرنا في أحد المقاهي ، وحضر أصدقاء محمد ، ودعانا صديقه محمود إلى أن ننزل عنده ضيوفا ، ونبيت معه ، ولكننا أصررنا على المبيت في فندق أو في موتيل . وأنفقنا قرابة ساعتين بحثا عن حجرة خالية ، بلا جدوى ، وأصر الأخ محمود على المبيت في شقته واضطررنا إلى النزول على رغبته .

الشقة فاخرة في الدور العشرين من إحدى العمارات الضخمة ، وهي تكشف مدينة تورنتو ، وتناولنا عشاء فاخرا التهم كل منا فيه نصف دجاجة مشوية . وأثناء تناولنا العشاء حضر الأخ محمد شريك محمود في السكن . وجلسنا حتى الثانية صباحا . الأخ محمد يعمل هنا في أحد المطاعم غاسل أطباق ( Dish Washer )   مع أنه حاصل من مصر على مؤهل عال . وهو يعمل بجد ونشاط بالساعة ، ومقابل الساعة أربعة دولارات ونصف دولار . وهو ذو خلق رفيع ، لا يشرب الخمر ، ولا  البيرة  ، وعاطفته الدينية قوية ، تحدثت إليه في الدين والسياسة وبلغ من تأثره أن فاضت عيناه بالدموع .

وغدا  لنا استكمال ، آمل أن يكون مفيدا .

الجمعة  27 من أغسطس  1982

قطرات نفس

كلمات عن الإمام الشهيد حسن البنا

لا أبالغ إذا قلت إن الإمام الشهيد لو تفرغ للأدب بمفهومه الاصطلاحي لكان واحدا من عمالقة الأدب والنقد في العربية، ولكن من فضل الله على الإسلام والمسلمين أنه لم يحقق للإمام الشهيد هذا التفرغ.

وإذا كان الأفغاني قد أدى دوره في الإيقاظ العام لمشاعر الأمة لمقاومة الاستعمار. وأدى الإمام محمد عبده دوره في إيقاظ عقل الأمة، ومقاومة الجمود الفكري فيها، وقام العلامة رشيد رضا بعدهما بدور كبير غير منكور في التجديد والتأصيل الشرعي لمسيرة الإصلاح، فإن الأمة –كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي- كانت تفتقر إلى جيل جديد من ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ ﴾[الأحزاب:39]... جيل يحسن فهم الإسلام، ويؤمن به، ويعمل به، ويدعو له، ويجاهد في سبيله، ويعمل على صبغ الحياة العامة بصبغته ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾[البقرة:138].

ولا يقدر على تربية هذا الجيل، وإعداده للمهمة الجليلة المنوطة به إلا رجل رباني، نذر نفسه وفكره وجهده وحياته لله رب العالمين، وكان الرجل المنتظر هو حسن البنا، الذى اصطفته العناية الإلهية ليكون للمتقين إماما.