بلاد الكلاب .. والخضرة

يومياتي في أمريكا:

الحلقة ( 29 )

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

صوت حبيب من كلية الألسن

و كلية الألسن هى إحدى كليات جامعة عين شمس بالقاهرة ، وهى الكلية التى كنت أقوم بالتدريس فيها قبل بعثتي للولايات المتحدة ، وهى الكلية المتخصصة في تدريس اللغات ، فكان فيها لكل لغة قسم : اللغة العربية  اللغة الإنجليزية  اللغة الفرنسية  اللغة الروسية  اللغة الصينية .

وكنت في الكلية ثروتي التى أعتز بها هي حب الزملاء ، وحب الطلاب والطالبات . وليس هناك أغلى من عاطفة الحب ، وقد جاء في الأثر : " إذا أحب الله عبدا حببه " .

ومن الزملاء الذين كنت أعتز بهم إلى أقصى حدود الاعتزاز ، وأحبهم من قلبي الأخ الدكتور إسماعيل عبد العال مدرس الفقه والشريعة الإسلامية في كلية الألسن . لذلك شعرت بالسعادة الغامرة حينما تلقيت منه رسالة على عنواني بجامعة يل فى مدينة نيوهافن ، وذلك لسببين :

السبب الأول : شدة حبي له واعتزازي به ، وهذا ينسحب على كلماته التى حملتها رسالته.

والسبب الثاني : أنه استطاع بكلماته أن ينقل لى عبق كلية الألسن وجوها الذى كنت أعيش فيه بصدقية وعفوية اشتهر بهما . أنقل من رسالته الطويلة بعض القطوف

منها " يا أبا ياسر أبعث إليك أنا والإخوة سلاما متواصلا وشوقا غامرا ، لو تحول إلى طريق ما انتهى إلا في الولايات المتحدة ، ولكن الآمر  كما تعلم  لا يقاس بالكم ولكن بحرارة الوجدان وصدق الشعور .

 ترى أمازلت تردد أبيات على محمود طه الشاعر الملقب بالملاح التائه ، تلك الأبيات التى حفظها الطلاب منك أثناء درس من دروسك في الأدب الحديث ، وأخشى أن تكون قد نسيتها ، لذلك أذكرك بها :

من عبراتي صغت هذا المقال =ومن لهيب الروح هذا القلمْ

 ملأت منه صفحات الليال = فحُملت كل معاني الألم

 يا رب ما عذبتني في الوجود =إلا بقلبي ليته لم يكنْ

 في المثل الأعلى وحب الخلود =حملته العبءَ الذي لم يهن.

وكنت  يا أبا ياسر  تسمي هذا المضمون ( الحزن الرومانسي ) ، وهو شعور اشتهرت به المدرسة الرومانسية التى ينتسب إليها الملاح التائه على محمود طه .

 تذكر أنني كنت أقول لك كيف يتفق هذا مع ما اشتهرت به من خفة الروح ، واستعمال النكات في موضعها ، وبعضها كان ذا إسقاطات سياسية لاذعة ؟.

 ولكني أوثر أن أذكرك بواقعة سميتها أنت " نكتة الواقع المر " أو " نكتة المفاجأة القاتلة " وخلاصتها أن طلاب السنة الأخيرة بالقسم الصيني في كلية الألسن  تنفيذا لنظام الجامعة  سافروا إلى الصين لتلقي اللغة الصينية من بيئتها الحقيقة ، وحينما وصلوا كان عليهم أن يستقلوا قطارا لمدة 14 ساعة متواصلة ، فتناولوا الغداء الفاخر في مطعم القطار ( وهو ما نسميه هنا في مصر البوفيه أو الكانتين ) . وكان اللحم لذيذ الطعم ، ولكننا أحسسنا بنكهة غريبة له ، وبعد انتهاء الغداء توجهنا إلى مدير المطعم ، وقلنا له أنت تعلم أننا مسلمون ، ونخشى أن تكونوا قد قدمتم لنا لحم خنزير ، فهاج الرجل وأقسم في حماسة أنه راعى عقيدتنا الإسلامية ، لذلك لم يقدم لنا لحم خنزير ، بل قدم لنا لحم كلاب من أرقي وأنظف كلاب الصين .

و الباقي معروف فقد تزاحم الطلاب والطالبات على دورة المياه ليفرغوا ما في بطونهم بطريقة وضع الإصبع داخل الفم إلى ما بعد الحنجرة .

 **********

 وإليك بعض أنباء القسم :

-   الدكتور عبد الله خورشيد صار رئيسا لقسم اللعة العربية ، وهو رجل دقيق ، حي الضمير ، يطمأن اليه ولا ينقاد لغيره ، ولا يخشى في الله لومة لائم .

-   الأخ عبد السلام عواد عاد من بعثته في شيلي ، ونحن نطلق عليه " أبو الولايا " لأن له طالبتين في كلية الألسن .

-   صاحبنا الذي تعرفه جيدا ، مازال يجد متعة في معاداة الجميع ، حتى قال أحد الطلاب " ناقص عليه يعادي البدلة التى يلبسها " . وأنت تعلم أنه حشي كبرا وغرورا ، وليس في فمه إلا " أنا " ... أنا أدبت  أنا أوقفت فلانا الأستاذ الكبير عند حده  أنا أتحدى من يدعي أن عنده القدرة للوقوف في وجهي الخ وذات يوم جئته وقلت له " يادكتور فلان هناك كلمات قيمة جدا للإمام علي  كرم الله وجهه  نصها " ضع فخرَك ، واحطط كِبرك ، واذكر قبرَك " . فكان جوابه : الكلمات واضحة وظاهرة ولا تحتاج إلى شرح .

-        ومن عجب أنه لم يفهم أنني قصدت أن أعرِّض به ، ولله في خلقه شئون .

-   طلبت في المجلس العلمي زيادة محاضرات الشريعة فرفض الطلب ، وتولى كِبر ذلك بعض المعيدين العلمانيين ؛ لأن الكلية  كما قالوا  ليست معهدا دينيا ..... نعم هي كلية وليست معهدا لدراسة القرأن الكريم والسنة الشريفة .

-   وأقول : كأن زيادة محاضرتين للشريعة في الأسبوع ، تفسد جو الكلية ، وتشوه طبيعتها !!!! وحقا : إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ، وقل ما شئت .

 **********

 وبالأمس عقدنا أنا والطلاب ، وبعض الأساتذة ندوة جعلنا عنوانها " في ظلال الإسلام " . وانطلقت الندوة من سؤال لطالب ذكي وهو " كذب المنجمون ولو صدقوا" كيف يستقيم الكذب مع الصدق هنا ؟ فأجبت الطالب بكلام خلاصته : إن المنجمين في حقيقتهم كذبوا ، وإن ادعوا الصدق . فما رأيك في هذا التفسير يا أبا ياسر . ولكن أغلب وقت الندوة استغرق في الحديث عن (الصبر ) ، ومحاولة إلقاء الأضواء على بعض الآيات والأحاديث التى تناولت هذه القيمة النفسية العليا ومنها :

 - وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .

البقرة 155 – 157

 - وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. يوسف 18

 وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ . الحجر 85

-        وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا . المزمل 10

وعن صهيب رضى الله عنه " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له .

وسألني أحد الطلاب عن وصف الصبر والهجر والصفح بالجمال . وكان السؤال حقيقة له قيمته ، ووفقني الله في إجابته . وتمثلت بقول بعض السلف :

 " الصبر الجميل هو الذى لا شكوى معه .

 والهجر الجميل هو الذى لا أذى معه .

 والصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه . "

 والحقيقة يا أبا ياسر كانت الندوة موفقة ، ولاينقصها إلا صوت الدكتور جابر .

وأخيرا أدعو أنا والإخوة والطلاب لكم بطيب الإقامة ، والتوفيق في الغربة ، متعكم الله بالصحة والعافية ، ووفقكم إلى صالح الأعمال ، إنه نعم المولى ونعم النصير ".

الثلاثاء 1 من يونية 1982

قطرات نفس

إن العدل هو البقاء

 والعدل من أهم أسس النظام الإسلامي، وهو قاعدة تلزم المسلمين جميعًا، كُلاٍّ في مجاله، وخصوصًا الحكام، يقول تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). النساء 58

والعدل في الإسلام ليس عدلاً سطحيًّا، أو شكليًّا، ولكنه عدل سليم وعميق، ولا يسمح لصاحبه أن يحيد قيد أنملة، أو يسمح لعاطفته أن تغلب عليه مدفوعًا بحقد أو نقمة أو غير ذلك. يقول تعالى: (ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة 8

وقد ذكر  سبحانه وتعالى  أن العدل هو الشريعة التي قامت عليها رسالة محمد  صلى الله عليه وسلم  وقامت عليها النبوات السابقة، والكتب المنزلة جميعًا، كما نرى في قوله تعالى: ( ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس... ) الحديد 25

والعدل في الإسلام ذو مفهوم شامل لا يقف عند حد، ولا يعجز أمام قوي لقوته، ولا يهون من شأن ضعيف لضعفه، بل القوي في الإسلام ضعيف إلى أن يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له. ونقول العدل أو العدالة ، وهما بمعنى واحد .

وأهم ألوان العدالة نوعان:

العدالة الاجتماعية: وهي التي تقتضي أن يعيش كل واحد في الجماعة المعيشة الكريمة، غير محروم ولا ممنوع، وأن يمكن من استغلال مواهبه بما يفيد شخصه، وبما يفيد الجماعة، ويكثر إنتاجها.

وهناك العدالة القانونية: وهي تقتضي أن يطبق القانون على الجميع على سواء، لا فرق بين غني وفقير، ولا لون ولون، ولا جنس وجنس، ولا دين ودين، بل الجميع أمام القانون سواء، فلا تفاضل بين الناس في التطبيق القانوني، إنما التفاضل بالقيام بالفضائل الإنسانية.

وقد شدد النبي  صلى الله عليه وسلم  في تطبيق الأحكام الشرعية، ومنع أن يحابي الحسيب النسيب، ويظلم الضعيف غير النسيب، وقد اشتد على أسامة بن زيد حينما أراد أن يستشفع لامرأة نسيبة شريفة سرقت، وقال قولته الخالد: "... إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرقّ الشريفُ تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها".