بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم (12)

يومياتي  في أمريكا:

بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم

الحلقة (12)

يوم في جرسي سيتي

(JERSEY CITY)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

ابتداء– وأنا أسجل هذه اليومية مساء الثلاثاء 8 / 12 / 1981  - أقدم للقارئ صورة من احتفال كلية اللاهوت إحدى كليات جامعة يل , و المجاورة لسكني . كان الاحتفال بعيد الميلاد , و قد دعيت إليه . و قدم على مسرح الكلية  بعض المشاهد التى كان أكثرها جاذبية اشتراك الطلاب جميعا فى إلقاء فقرات من الإنجيل , الذى يطلقون عليه الكتاب "  المقدس  "  BIBLE  و كان كل طالب يلقي الفقرة المحددة له بلغة بلاده . و كان من هؤلاء جاري القس جندي رزق , إذ ألقى فقرته باللغة العربية .

و لا أنسى أننى رأيت أعدادا من هذا ال BIBLE  مطبوعة طباعة فاخرة جدا فأخذت نسخة دون أن يدري أحد . لكننني بعد ذلك شعرت بما يشبه عقدة الذنب , فصارحت جندي رزق بما فعلت و قدمت إليه الكتاب ليرده إلى مكانه , فوجدته فجأة ينفجر ضاحكا ويقول لى :

يا فلان إن هذه النسخ لمن يأخذ دون حرج , و دون استئذان  , وذلك من قبيل الدعاية الدينية .

*   *   *

هذه ملاحظة شدتني وأنا أعود إلى يوم الأحد السادس من ديسمبر سنة 1981 الذى أسميه يوم جرسي سيتي  , و قد دعيت لحضور مؤتمر فى هذا اليوم . ومع أحد الإخوة ركبت السيارة منطلقا  الى المدينة لحضور هذا المؤتمر.  وفى الطريق رأيت بعض الغرائب , منها :

1- كوبري جورج واشنطن  J.W. PRIDGE   لقد رأيت الضخامة و العظمة الهائلة متمثلة فى هذا الكوبري الذى يقع على نهر " هدسون " ,  وهو ــ  كما يقولون ــ كوبري معلق ليس له دعامات فى الماء ككوبري 6 اكتوبر عندنا . و لكن دعائمه توجد فى الشاطئين فقط .

إنه دليل على تقدم الإنسان حقيقة , مع أنه أقيم من عشرات السنين .

2- أكوام القمامة ( الزبالة ) على يميننا و نحن منطلقون إلى المدينة و قد بدت تلالا ضخمة خضراء , فقد كبست الدولة أكوام الزبالة , و غطتها بتربة طينية , ثم زرعتها بالأشجار و الزهور , في أشكال هندسية متماوجة , فكأنها تلال تمثل غابات صغيرة . وبذلك استغلوا القمامة استغلالا جماليا رائعا .

3- وعلى يسار المنطلق إلى المدينة رأينا خارج مدينة نيويورك الكثير من العمارات المحترقة , فتعجبنا أن تكون هذه العمارات جديدة وقد نالت منها الحرائق . و كان الجواب غريبا , وهو أن الذى يشعل الحرائق فى هذه العمارات هم أصحابها ليفوزوا بمبالغ التامين , التى تقدر بأضعاف تكاليف العمارة . قلت سبحان الله " يخربون بيوتهم بأيديهم " !!! 

*   *   *

وفى المركز الإسلامى بجرسي سيتي صلينا الظهر , و بعد الصلاة بدأ المؤتمر الكبير وقد  حضره المسلمون من جميع الجهات , إنه مؤتمر يعقد ــ كما أعلن ـــ  للحديث عن " الوضع الحاضر فى مصر" . و بدأ المؤتمر بمحاضرة فى التاريخ الإسلامى , قرأها المحاضر بالعربية و الانجليزية , تلتها محاضرة بالانجليزية , وثالثة بالعربية من أخ أزهري استقر بشيكاغو من سنة 1964 , و هو زوج شقيقة الأخ الشهيد عمر شاهين .

و قد سعدت فى المؤتمر بلقاء الاخ الاستاذ احمد منصور زوج مريم حسن دوح الذى كنا نعتبره فى الجامعة استاذا لنا , و قائدا لنا فى المظاهرات , و مواجهة ظلم الحاكمين .

وأعجبني فى المؤتمر :

   1- الشاب ذو الوجه الجميل السمح الذى رتل القرآن و أذن  للصلاة ,   و أنشد نشيـد    "إلهي ". إن فى صوته جمالا ربانيا حقا  .

   2- نشيد " إلهى " الذى أنشده الإخوة فى المؤتمر , و هو على وزن نشيد " بلادي "

 و موسيقاه .

   3- طريقة التكبير , فأحد الإخوة يهتف بأعلى صوته " تكبير " , فينطلق الجميع بصوت جهوري ممتلئ " الله اكبر "  .

*   *   *

وفي المركز الإسلامي رأيت لأول مرة , شابا طويل القامة , أبيض الوجه , مشرق  الأسارير , طويل اللحية . علمت أنه كان طالبا بالفرقة الخامسة بكلية الطب بالقاهره , و ترك الوطن و الدراسة بعد أن ضيقت الدولة الخناق عليه و على امثاله من المتدينين ... ففر بدينه و استجاب لنداء ربه :

" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)

النساء 97

و قوله تعالى :

وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

النساء 100 .

وعلمت أنه يعمل الآن " سائق تاكسي " ..... نعم رأيته عملاقا في قامته , عملاقا بجبهته العالية , و نظراته الشماء .... رأيته عملاقا بصوته القوي الذى كان يجلجل فى قوة تهز المشاعر , و تحيي النفوس ..... رأيته قطعة من التاريخ المحمدي الذى يدوس على كل شئ من جاذبيات الدنيا فى سبيل الله . لك الله يابني , لك الحق , ومعك الحق , تركت مدْرَج الطفولة و الشباب , تركت الأهل و الأرض والخلان , تركت الأحباب و الأصدقاء و السكن و المال و جئت إلى هنا تقول : أنا لله و بالله ... و فى سبيل الله فررت بديني . و ما كان أمن البدن تبغي يابني , و لكن أمن الروح و أمن الدين .

*   *   *

"الله اكبر .... إلهي  ..... إلهي  ..... إلهي ...... أنت أمني .... أنت زادي "   . إنها كلمات كان قلبك يسيل بها  , و بها ينطق لسانك , فنرى بها الحق واضحا جليا , فى كل حرف من الحروف و كل نبرة من النبرات .

الله معك , لن يتخلى عنك , سيملأ عليك غربتك , سيكون زادك وعينيك و قدميك ويديك ,وسينصرك الله نصرا عزيزا , لا تخف .... إنك أنت الأعلى .... إنك أنت الأعلى .

 *   *   *

قطرات نفس

الأرق يأخذ بخناقي طيلة الليل , فلم أذق للنوم طعما إلا غفوا , وكلما مرت ساعة بلا نوم , ازدادت أعصابى توترا , ... منهك متعب , كأنني أحمل على كتفي جبلا من الهموم , وفي الساعة الأخيرة من الليل نمت قرابة ساعة , بعد محنة الأرق القاتل , فرأيت ــ فيما يرى النائم ــ الشهيد كامل السنانيري الذي لاقى ربه من قرابة أسبوعين , بعد تعذيب , جنوني وحشي علي أيدي الطغاة أعداء الشعب والقيم و الدين و الإنسانية , رأيته يرتدي حلة بيضاء , ورباط عنق أخضر , وقد علت الابتسامة وجهه , فقلت لنفسي وأنا اكاد أطير من الفرح : إن الرجل حي , فكيف يزعم الإخوان أنه قتل ؟!! .

و مد لي يده مشيرا بالتحية , و مددت له يدي , فرأيته يبتسم  وينطلق بسرعة هائلة ليختفي تدريجيا أمام عيني , وأنا أشعر كأن روحي تحولت الي خيط طويل يتبعه إلى أن أنقطع , وأنا حزين لانقطاع الخيط عنه , فبكيت بصوت مقهور  .

واستيقظت على صوت المؤذن ..... الله اكبر .... لا إله إلا الله  . و مسحت بكفي الدموع التي غمرت و جهي.