مع كتاب ( رحلتي إلى أمريكا ) للأستاذ فوزي مصمودي

clip_image002_2eaef.jpg

هذا الكتاب شهدتُ لحظاتِ ميلاده الأولى ربّما قبل أن يبدأ صاحبه في تسويد صفحاته، وكنت من بين الذين شجّعوا الأستاذ والصّديق فوزي مصمودي على تأليفه، لأهميّة موضوعه أوّلا ولأنّي أعرف من خلال معايشتي الطويلة للمؤلّف أنّه لا يكتب شيئا إلّا إذا كان مميّزا وفريدا، وفيه معلومات جديدة ونافعة للباحث المتخصّص والقارئ العادي في وقت واحد.

وأخيرا وُلد الكتاب من رَحم التجربة المدهشة، التي عاشها صاحبها خلال ثلاثة أسابيع في ضيافة الدّولة الأولى في العالم، سواء من ناحية العمل والتكنولوجيا أو من ناحية القوّة والهيمنة العسكريّة والسّياسيّة، وكان خَليقا بكلّ من يزور بلدا كهذا أن يقف منبهرا حدّا التلاشي فيه، وقد لا يلام في ذلك، لكنّ رجلا من طينة الأستاذ فوزي مصمودي ما كان ليهزّ ذلك شعرةً في رأسه أو يغيّر شخصيّته التي تربّت على الفخر والاعتزاز بحضارة الأمّة والتّشبث بقيمها ومبادئها، فذهب إلى أمريكا ليأخذ أحسن ما عندها في المجال التّربوي والثقافي دون الشعور بالاستلاب الحضاري، ودون أن يحني هامته أو يطأطأ رأسه..

الكتاب من إصدار لجنة الحفلات لبلدية بسكرة، وطبع بمطبعة الفجر ببسكرة في ( 170 صفحة ) من القَطع المتوسّط عام 2009 م، وأهداني المؤلّف نسخةً منه بإمضائه بعد أن اطّلعت عليه مخطوطا وقرأت كلّ فصوله.

قدّم للكتاب كلٌّ من مدير التربية ( السّابق ) إبراهيم سردوك وكذلك السيّد رئيس بلديّة بسكرة       ( السّابق ) أحمد كلاتمة والسيّد مدير جامعة محمّد خيضر ( بسكرة ) الأستاذ الدكتور بلقاسم سلاطنيّة والسيّد رئيس لجنة الحفلات علي طوير، فضلا عن مقدّمة المؤلّف المميّزة.

كانت الرّحلة في إطار برنامج ( الزائر الدّولي ) الذي هو عبارة عن تقليد سنوي تستضيف فيه الولايات المتحدة الأمريكيّة، شخصيّات وأصحاب مواهب من مختلف نواحي العالم للاطلاع على الحضارة الأمريكيّة في مجال تخصّصهم، فكان الأستاذ فوزي مصمودي هو ثالث ثلاثة من الجزائر ذهبوا إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة عام 2006 م في فترات مختلفة ، وكان أحدَ التسعة الذين مثّلوا العالم العربي ( قطر، المغرب، سلطنة عمان، مصر، فلسطين، البحرين، الجزائر )، كما ذكر في مقدّمة كتابه.

قسَّم المؤلّف كتابه إلى خمسة محطّات شملتها الزّيارة:

-       المحطّة الأولى كانت واشنطن العاصمة

-       وتلتها المحطّة الثانية ولاية مينيوسوتا

-       أمّا المحطّة الثالثة فكانت ولاية أوكلاهوما

-       والرّابعة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا

-       والمحطّة الخامسة والأخيرة ولاية كارولينا الجنوبيّة

وكان في كلّ محطّة يقدّم عنها نبذة تعريفيّة حول موقعها الجغرافي وشيئا من نشأتها وبعض جوانبها الاقتصاديّة والثقافيّة.. وهو في هذا ينحو منحى الرّحالة القدامى في التعريف بالبلدان التي زاروها أو حلّوا بها، ثمّ بعد ذلك ينتقل إلى تفاصيل الرّحلة في تلك المحطّة، وقد كُتِبت الرّحلة بأسلوب علمي ومنهجي دقيق يستفيد منه الباحث المتخصّص وطالب العلم المتطلّع إلى المعرفة.

وهناك ملاحظة أخرى لفتَت انتباهي كثيرًا في هذه ( الرّحلة العلميّة )، وهي كثرة الهوامش في الكتاب، والمتتبّع لتلك الهوامش يجد فيها المعلومات المركزة والمفيدة، وأحيانا الطريفة التي تخرج بالقارئ من جوّ التدوينات العلميّة الثقيلة على النّفس إذا طال نَفَسها السّردي دون ترويح بمثل تلك الهوامش..   

وإذاً فالملاحظة الأساسيّة حول الرّحلة أنّ المؤلّف نحا فيها المنحى العلمي البحت، إذ دوّن فيها كلّ ملاحظاته وخلاصة معاينته للتجربة العلميّة والتربويّة والثقافيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وأقول أيضا قبل التوغّل في عرض مراحل هذه الرّحلة ومحطّاتها المختلفة؛ أنّها لم تحظ بالعناية اللازمة والدّراسة التحليليّة التي تستحقّها، رغم صدور الكتاب منذ حوالي خمس سنوات.. وربّما الذي يقرأ عنوان الكتاب يظنّ أنّها مجرّد رحلة استجمام وترفيه..

وأقول كذلك أنّ هذه الرّحلة من حيث قيمتها المعرفيّة ذكّرتني بالرّحّالة الأقدمين، الجبرتي وابن بطّوطة وابن جبير، والعيّاشي.. وغيرهم من الرّحّالة الكبار، الذين دوّنوا التطوّر والحضارة والازدهار العلمي للبلدان التي زاروها في ثنايا رحلاتهم تلك.

بدأ الأستاذ فوزي مصمودي بكتابة رحلته حسب الأيّام ووفقا للبرنامج الذي وضعته الجهة المستضيفة، واضعا بصمته المميّزة في كلّ صفحة يخطّها أو يسوّد بياضها بالكتابة عن حضارة القطب الأوحد، الذي تفرّد – تقريبا – بتوجيه سياسة العالم في شتى مناحي الحياة بوصفة سحريّة أشربت قلوب رجال الحكم والسّلطة في معظم بلاد العالم، إنّها ( العولمة ) أو ( الأسرة الدّوليّة ) التي تسكن قرية صغيرة اسمها كوكب الأرض..      

ويذكر الكاتب في مقدّمته عن هذه الرّحلة:

" أذكر أنّني منذ الصّغر كانت تستهويني كتب الرّحالة والمغامرين التي تصل إلى يدي، فأقرأها بنهم وشغف كبيرين، كرحلة ابن بطّوطة وابن جبير وابن حوقل وابن فضلان..."

مع يوميّات الرّحلة:

سوف أشير إلى نقاط رئيسة وهامّة في هذه الرّحلة شدّت انتباهي أحاول من خلالها إعطاء صورة تقريبيّة عن هذا الكتاب الهام والغنيّ:

اليوم الأوّل كان يوم الانتقال من قارة إفريقيا إلى قارة أمريكا مرورا بقارة أوربا ( عبر مطار فرانكفورت الدولي بألمانيا )، أمّا اليوم الثاني فكان عبارة عن جولة سياحيّة مسائيّة في حافلة صغيرة للتعرّف على العاصمة واشنطن، وكانت أيضا فرصة للتّعارف بين أفراد الوفد..

في اليوم الثالث من وصول الوفد ( وفد الزائر الدّولي ) إلى الولايات المتحدة؛ استقبلتهم مضيفة البرنامج وقدّمت لهم صورة تفصيليّة عنه وكان ممّا جاء في كلامها وله أهميّة بالغة:

أنّ هذا البرنامج " سبق له أن استضاف عبر مراحل زمنيّة متعاقبة العديد من الشخصيّات المرموقة، أمثال رئيس المحكمة العليا بمولدافيا ( إحدى جمهوريات أوربا الوسطى ) والسيّدة انديرا غاندي     ( رئيسة وزراء الهند سابقا )... وأنور السّادات ( رئيس جمهوريّة مصر العربيّة).. "

وفي موقف لافت للغاية أيضا طلب السيّد ( نيل ليندمان ) وهو مستشرق أمريكي – كما ذكر المؤلّف –  التّعرّف على بسكرة وأهمّ معالمها الثقافيّة وأنشطتها الاقتصاديّة، كما أراد معرفة المعنى الدّقيق لمصطلح ( الزّاب )، وقد طُرح على الأستاذ فوزي مصمودي صاحب الكتاب سؤالٌ حول الوضع في الجزائر، فأجاب بكلّ لباقة وذكاء أنّ الوضع قد تحسّن كثيرا، بفضل سياسة المصالحة التي اعتمدها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وصادق عليها الشعب الجزائري..

وفي اليوم الرّابع للزّيارة يذهب الوفد إلى مقرّ الكونغرس الأمريكي للقاء السيّد براد توماس بلجنة التّربية والقوى العاملة، فيورد الكاتب في هامش صفحة 30 أنموذجا عن انضباط الفرد الأمريكي لاسيما المسؤولين منهم؛ بأنّ السيّد براد توماس علّق على وصولهم متأخّرين بربع ساعة قائلا:

يبدو أنّ السّائق قد ضاع في الطّريق وكان المفروض أن يبدأ لقائي بكم في السّاعة 10.00 صباحا وينتهي في السّاعة 11.00 ورغم ذلك فإنّ اجتماعي بكم سينتهي في نفس التوقيت !! "

وبعد تبادل الأفكار والتّجارب في لجنة التربية بالكونغرس ذهب الوفد إلى مقرّ وزارة التربية بواشنطن، حيث تعرّفوا على دقائق النّظام التربوي والمناهج التعليميّة، ومما يميّزها أنّ كلّ ولاية كانت تضع كتبها الخاصّة وبتمويل محلّي ومن إبداع الأساتذة والمعلمين وعلماء النّفس والتربية في الولاية نفسها.

كذلك هناك نظام الدّوام الواحد الذي يُتَّبع في كافة المراحل التعليميّة، الأمر الذي يسمح للمتعلّم بأخذ وقت كاف في بقيّة النّهار لممارسة حياته الطبيعيّة الأخرى خارج النّظام التربوي الصارم، كما ذكر المؤلّف أنّ كلّ معلم يأخذ مكافأة مالية معتبرة عن كلّ نشاط إضافي يقدّمه سواء في مجال الإبداع أو الثقافة وحتى في المجال التّرفيهي..

ولم يخلُ الكتاب من بعض التعليقات السّياسيّة نذكر منها ما جاء في صفحة 36 عن آثار هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 م إذ قال:

" مازالت تلقي بظلالها على حركة المجتمع الأمريكي واتّساع دائرة عدم ثقته في الآخر ".

وفي اليوم السّابع للزيارة زار الوفد مركز الأرشيف القومي الأمريكي، ولم ينس الأستاذ فوزي مصمودي حسّ المؤرّخ لديه فبعد أن اطّلع على وثيقة إعلان الاستقلال عن بريطانيا والموقّعة من عدّة حكّام بارزين لولايات أمريكية ، منهم الرّئيس جورج واشنطن، فسأل السيّدة ( لي آن بـوتار ) مشرفة خدمات التعليم والمتطوّعين عن بعض الوثائق والمراسلات الهامّة التي كانت بين الجزائر والولايات المتحدة الأمريكيّة، لاسيما رسالة الاعتراف بالاستقلال، إذ كانت الجزائر من أوائل الدّول التي اعترفت باستقلال الولايات المتحدة الأمريكيّة عام 1776 في عهد الداي بابا حَسَنْ، فوجدها تجهل ذلك لكنّها أخبرته أنّها ستبحث عن مثل هذه الوثائق وتقوم بدراستها ونشرها في مجلّة المركز.

وهذا الموقف من الأستاذ المؤلّف فوزي مصمودي يعدّ فعلا إيجابيّا ذا أهميّة بالغة، فهو كما قلنا لم يقف وقفة المنبهر المستلب بالحضارة الأمريكيّة، وإنّما أبان عن تاريخ بلادنا الشّامخ ومواقفها الحضاريّة المشرّفة وكان له في ذلك مواقف أخرى كثيرة سنذكرها بعدُ في موضعها.

كما لم ينس أن يشير إلى أنّ الرئيس الأمريكي أهدى مسدّسين للأمير عبد القادر الجزائري؛ مؤسّس الدّولة الجزائريّة الحديثة وقد حاولت السّلطات الأمريكيّة استرجاعهما بعد استقلال الجزائر لكن دون جدوى.. وسأل السيّدة المستقبلة أيضا إن كان بإمكان الجزائر الحصول على نسخ من الوثائق والمراسلات التي تتعلّق بالجزائر قبل 1830 م فكان ردّها بالإيجاب.

وهذا موقف آخر من مواقف الأستاذ فوزي مصمودي المشهودة في هذه الرّحلة والتي كشف فيها عن حسّ وطني كبير، فهو لم يستغلّ الرّحلة في السياحة والترفيه وربط العلاقات الشّخصيّة ( الذّاتية ) مع من يلقاهم من ممثلي الجهة المستقبلة، وإنّما وضع بين عينيه كيف يفيد وطنه وينفع أبناء أمّته من خلال هذه الرّحلة التي دامت ثلاثة وعشرين يوما.

القراءة ..القراءة..

كتب المؤلّف تحت عنوان ( على هامش رحلتنا ) قائلا:

" ما استوقفني في واشنطن هذه المدينة العملاقة أنّ أفراد مجتمعها يقرأون بنهم كبير، في كلّ مكان تجدهم يقرأون كتبا أو مجلّات أو جرائد..في المطارات، محطّات القطار، مترو الأنفاق.."

وذكر أيضا أنّ بعض المجلّات توضع في صناديق حديديّة بغير أقفال مبذولة في الشوارع للقرّاء مجّانا، ومعها بعض الكتب أحيانا وذلك تشجيعا للقراءة وحفاظا على القارئ، وعرّج الكاتب أمام هذا المشهد الحضاري والثقافي الرّاقي على الجزائر متألما ومتحصّرا على أنّه لا توجد في الجزائر مجلّة واحدة تصدر عن وزارة الثقافة بشكل منتظم.. !

وبحسّ الرّجل المسلم الباحث المنقّب الذي يشدّه إليه كلّ ما يتعلّق بالإسلام وبالتراث والتّاريخ؛ تحدّث الأستاذ فوزي مصمودي عن ولاية ( مينيوسوتا ) الولاية ذات ( 10.000 بحيرة ) كما يصفها، وذات الجمال الخلّاب والسّاحر، وتحدّث عن نظامها السّياسي المتفتّح وذكر أيضا جاليتها المسلمة الكبيرة والتي أغلب أفرادها من الصّومال، ويرجع إلى تلك الجالية الفضل في فوز المحامي المسلم كيث إيليسون في انتخابات الكونغرس الأمريكي، فكان أوّلَ مسلم يدخله، وقد أدّى اليمين الدّستوريّة على خلاف العادة وبشكل ملفت جدّا؛ على نسخة نادرة من المصحف الشريف في جلسة تولِّي الكونغرس الجديد.. !

وكذلك علّق الكاتب ( والإعلامي المعروف بنشاطاته في ميدان الصّحافة والإذاعة ) على زيارة الوفد إلى مقرّ جريدة ( ستار تربييون )، والتي تصدر في  مينيابوليس بولاية مينوسوتا وتسجّل أكثر الجرائد مبيعا وسحبا، لاسيما أيّام العطل الأسبوعيّة حيث تسحب أكثر من 700.000 نسخة، ثمّ علّق في الهامش متحصرا على أنّه في كلّ دول العالم المتقدّمة والمتخلّفة منها؛ تصدر الجرائد والمجلّات أيّام العطل الرّسميّة، إلّا في بلادنا الجزائر، ذكر ذلك الكلام طبعا خلال تأليفه لهذا الكتاب منذ حوالي ستّ سنوات، وكأنّه يستشرف المستقبل بنظرة الإعلامي المتطلّع إلى الأفضل، وقد تحقّقت أمنيته فصارت كثيرٌ من الجرائد عندنا تُصدر أعدادا خاصّة بيوم الجمعة ( العطلة الأسبوعيّة ).

وفي جولة من جولات صائدي الكتب المهووسين بها؛ تجوّل الكاتب مساء اليوم العاشر من الزيّارة والذي وافق العشرين نوفمبر من عام 2006 م؛ بمكتبات ( مينيا بوليس ) القريبة من فندق إقامته، فوجد بتلك المكتبات أمرا غريبا ومدهشا وهو خلوّها تماما من الكتب والعناوين الفرنسيّة التي تملأ أرفُفَ مكتبات بلادنا، وعلّق في الهامش من صفحة 70 أيضا قائلا:

" آخر كلمة باللّغة الفرنسيّة التقطتها أذناي قبيل ذهابي إلى أمريكا كانت في مطار هوّاري بومدين بالجزائر العاصمة، إلى غاية العودة عبر مطار شارل ديغول الدّولي بباريس ( فرنسا ) !! "

وَوَضْعُ علامتي تعجّبٍ أمام هذا الهامش له معنى دلالي كبير، وهو عدم اهتمام العالم باللّغة الفرنسيّة، وأنّها لا تُعدّ شيئا في بقية الدّول الأخرى، إلّا أنّها في بلادنا تحظى بالتّدليل والتبجيل، بل وحتى الأولويّة في كثير من الأحيان على اللّغة العربية لغة الوحي والإسلام و الشعب .

دفاع عن فلسطين:

في قلب الولايات المتحدة الأمريكيّة الحليف الأوّل للصهيونيّة العالميّة وأثناء استضافة الأستاذ فوزي مصمودي من طرف إحدى الأسر الأمريكيّة وفقا لمخطط برنامج الزائر الدّولي؛ يقف مرافعا بكلّ إباء وشموخ عن فلسطين وحقّ الفلسطينيين المشروع في الدّفاع عن أرضهم ووطنهم المسلوب، ويبرهن بالأدلّة الدّامغة على أنّ الكيانَ الإسرائيلي مغتصبٌ لأرض غيره وأنّ حكّام الولايات المتحدة يساندونه..

وفي ضيافة العائلة الأمريكيّة تعرّف المؤّلف على ربّ العائلة الذي يهتمّ بالتّاريخ والآثار، لاسيما الآثار الرومانيّة منها، فأخبره الأستاذ فوزي مصمودي أنّ بولايته ( بسكرة ) حوالي 30 موقعا أثريّا للآثار الرومانيّة والبيزنطيّة فتفاجأ بذلك الأمر.

ومن طريف ما حصل له في ضيافة هذه الأسرة أنّ السيّد تيموذي ربّ الأسرة اجتهد في أن يقدّم له طبقا من الكسكسي، أعدّه من خلال كتاب طبخ عربي (باللغة الأنجليزيّة ) ومستعينا بمعلومات من ( الشّابكة )، وكان طبقا يشبه كثيرا طبق الكسكسي العادي المعدّ محليّا بأيدي أهله من الجزائر أو بسكرة. وقد احترمتْ هذه العائلة الشعور الإسلامي لزائريها فامتنعت عن وضع الخمر على مائدة الطّعام.

وفي زيارة الكاتب إلى مقرّ نقابة معلّمي مينيوسوتا يذكر أنّ المعلم الأمريكي يتقاضى راتبا شهريّا قدره ( 4200 دولار ) ما يساوي حوالي 30 مليون سنتيما بالعملة الجزائريّة، أي أنّه في مرتبة عضو برلمان عندنا تقريبا.. ويمكن أن يُصبَّ له في حسابه الخاص راتب سنة كاملة، إذا رغب في ذلك مع بداية الموسم الدّراسي، إنّها أمّة تدرك معنى التعليم حقّا وأهمّيته.. فكيف لا تنجح وتقود ركب الأمم وتهيمن على العالم !؟

في ضيافة عائلة ستيف لويس:

في اليوم الثالث عشر كان الأستاذ فوزي مصمودي مع ممثلة سلطنة عُمان في ضيافة عائلة ستيف لويس، بمناسبة الاحتفال بعيد الشكر وهو تقليد أمريكي عريق، وكانت كتبُ الأستاذ فوزي حاضرة معه ليهدي منها لربّة الأسرة التي هي مؤلّفة أيضا وأهدته كتابا لها ألفته حول ( التعليم )، وفي مكتبة المضيف وعبر محرّك البحث ( غوغل إيرث ) قام السيّد ستيف لويس بجولة استطلاعيّة من الفضاء ليلجَ إلى بسكرة وحاراتها العتيقة..

وكذلك هذه المرّة لم يضيّع الأستاذ فوزي مصمودي الفرصة، وجعل يشير إلى المعالم الحضاريّة الهامّة في المدينة وتراثها الزاخر، كما أطلعه على حديقة ( جنان لاندو )، التي تزخر بشتى أنواع الأشجار النّادرة في العالم وكذلك حديقة 5 جويلية المشهورة.

وخاض مع أفراد الأسرة في حوار حول الأديان ودائما بسلوكه الإيجابي الباهر، لم يقف المؤلّف مرتبكا أمام كَيل الاتهامات التي توجّه للإسلام بسبب عدم معرفته المعرفة الحقّة، وبسبب تصرّفات بعض  أبنائه، وكان في تلك الأسرة فتاةٌ تدرس بالجامعة ( تخصّص أديان)، ففاجأها الأستاذ فوزي بقوله: " أنّ الفرد عندنا نحن المسلمين لا يُقبَل إسلامه إلّا إذا آمن بالكتابين المقدّسين التوراة والإنجيل الأصليين وبموسى وعيسى عليهما السّلام "

ولما عَرضوا للحديث حول اكتشاف كريستوف كولومبوس لأمريكا عام 1442 م ، أشار إلى دور المسلمين في اكتشاف هذه القارة العظيمة، بحيث أنّ المسلمين سبقوا إلى محاولة الاكتشاف وتوغلوا كثيرا في المحيط الأطلسي الذي كان يسمّى بحر الظلمات، وقال أنّ كريستوف كولومبوس استعان بالخرائط البحريّة التي وضعها البحّارة المسلمون السّابقون له. بل إنّ صاحب الكتاب ذكر خبرا مثيرا للغاية، وهو أنّه عُثر في سواحل أمريكا الجنوبيّة على عملة عربيّة ضربت بالأندلس عام 800 هـ. ولاشكّ أنّ مثل هذا الخبر يحفّز على البحث الدّقيق في مسألة دور البحّارة المسلمين في اكتشاف قارّة أمريكا.

في اليوم الخامس عشر من الرّحلة كانت وجهة الوفد لوس أنجلوس ومدينة كاليفورنيا، أين التقوا بمديرة برنامج الزّائر الدّولي بكالفورنيا وراحت تحدّثهم عن خصائص هذه الولاية، وأنّها تمتاز بوجود أنواع النّخيل والتمور ذات الجودة العالية، فكان أن استغلّ المؤلّف الفرصة كعادته وأخبرها بقصّة تلك النخيل ذات التمور عالية الجودة، وقال مفتخرا أنّها جلبت من الجزائر وبالضبط من الولاية التي جاء منها، وهي ولاية بسكرة عروس الزيبان.

ثمّ استطرد الكاتب ليخبرنا بتلك القصّة الطريفة ، حيث زار الرّحالة المزارع هينري سايمون مدينة بسكرة عام 1913 م وأخذ منها معه إلى الولايات المتحدة أكثر من 6000 فسيلة من النّوع الممتاز ( دقلة النّور )، واستزرعها بكاليفورنيا، وقد كتب الأستاذ فوزي مصمودي عن ذلك مقالا نشره بجريدة ( الشروق اليومي ) عام 2003 بمناسبة مرور تسعين سنة على هذه التجربة النّاجحة لاستزراع النّخل بأمريكا، كما زار مدينة هوليود السينمائية بلوس أنجلوس...       

وقد زوّد المؤلّف كتابه بمجموعة من الصّور التي التقطها في مختلف المحطّات، لتدعم السّرد المنهجي بمناظر حيّة ذات تعبير أكثر وضوحا وتقريبا للفكرة المطروحة والمعلومات الواردة فيه، ومنها صور أمام البيت الأبيض وفي مقرّ الكونغرس الأمريكي وأمام جامع واشنطن بعد أداء صلاة الجمعة فيه، وأخرى في مركز الأرشف القومي.. ويعدّ الكتاب وثيقة علميّة قيّمة ورحلة ثقافيّة شيّقة ملأى بالملاحظات المعرفيّة النّافعة، وهي تجربة – على قصرها – ثريّة جعل منها صاحبها بحسّه الإعلامي وتجربته في ميدان التربية لسنوات طويلة، وخبرته في مجال البحث التّاريخي مادة دسمة تحتاج إلى أكثر من قراءة لتُهضم بشكل جيّد وسليم، بل هي تحتاج إلى دراسة أكاديميّة ممنهجة وبرمجتها على طلبة الجامعة خاصة أقسام الآداب واللغات والتربية والتاريخ والإعلام والإتصال... لاستخلاص زبدتها وثمارها الموزّعة على صفحات الكتاب بشكل مكثّف ومنسّق. ولا تخلو محطّاتها من نكات وطرائف ولطائف ثقافيّة تنمّ عن شخصيّة المؤلّف المتشبّعة بالثقافة الأدبيّة والتّاريخيّة معا.    

وأقول في ختام هذا المقال عن كتاب ( رحلتي إلى أمريكا ) للأستاذ فوزي مصمودي الباحث في التّاريخ والإعلامي ذي التجربة الطويلة والتربوي الخبير، أقول أنّه ذهب إلى أمريكا كما تذهب النّحلة إلى حقل الزّهور تأخذ الرّحيق العذب الشّذي، وغبار الطّلع النّافع، وتتجنّب ببراعة فائقة الأشواك والدّبابير اللّاسعة، ذهب ممتلئا بشخصيّته الجزائريّة القويّة، شامخ الرأس ثبت الجنان يستند إلى تراث فكري وتاريخي عربي إسلامي، حصّنه من الوقوع في بهرج الحضارة الغربيّة الزائف، ومكّنه من الاطلاع العلمي البحت بحصانة كاملة من التأثير الإيديولوجي السّلبي. فالكتاب ( الرّحلة ) تحفة فكريّة وعلميّة تستحقّ أكثر من دراسة وبحث. 

وسوم: 634