عبد الرحمن الباني كما عرفتُه

د. محمد هيثم الخياط

1

د. محمد هيثم الخياط 2

كان من عظيم نِعَم الله عليَّ، أن حَظيتُ في مطالع الشباب بصُحبة علمَين جليلَين من أفضل من أعرف، وهما الأستاذُ عبد الرحمن الباني تغمَّده الله برحمته، والأستاذ محمَّد سعيد الطنطاوي أطال الله بقاءه في طاعته.

وقد استفدتُّ من صحبتهما في مرحلة التكوين ما لا أستطيعُ إحصاءه من فوائد، وأنا مَدين لهما ما حَييت بكثير مما قبَستُه منهما من خُلق وفقه وقِيَم ودين.

كنَّا نصلِّي الفجر جماعةً في مسجد صغير في حيِّ المهاجرين بدمشق، ثم نتسلَّق الجبل.. جبلَ قاسيون باتجاه قمَّته، وكثيرًا ما بلغناها، ثم نهبط لنكونَ على رأس أعمالنا في الموعد المعلوم.

ولا أستطيع أن أصفَ ما تعلَّمتُه ولاسيَّما من الأستاذ عبد الرحمن من مثابرة ومصابرة وإصرار على اقتحام العقَبات، وكثيرًا ما كنَّا نقف عاجزين أمام بعض الصُّخور الشواهق. أما الأستاذُ الباني فلم تكن تقفُ في وجهه عقَبةٌ، وهذا نمطٌ من خُلقه النبيل. وكانت مسيراتُ التسلُّق هذه فرصةً نغتنمُها لنسمعَ من الأستاذ عبد الرحمن رحمه الله كثيرًا من الشذَرات والمقتطفات والفوائد، يذكرها تلقائيًّا فنحفظ منها ما استطعنا أن نحفظ، ثم نحاول في منازلنا أن نستذكرَ ما نستطيع.

وأذكر أنه كان يؤمُّنا يومًا وهو يجهر بآيات عباد الرحمن من سورة الفرقان، فإذا به يسكتُ سكتةً طويلة بعد آية منها، فظننت أنه نسيَ الآيةَ التي بعدها وأردتُّ أن أفتحَ عليه، فلم يردَّ عليَّ واستكمل سكتته، ثم علَّمَني بعد ختام الصلاة أنَّ من المستحبِّ أن يستعيدَ المرء ما في الآيات من دعَوات: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ....} [الفرقان: 65]... {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ....} [الفرقان: 74].

وهكذا لم يكن يمرُّ يوم أو تمرُّ مناسبة، إلا اغتنمَها الأستاذ الباني لينفعَ الناس بما يعلم.

أمَّا خُلق الأستاذ عبد الرحمن، فحدِّث عنه ولا حرَج، وكم تعلَّمتُ وتعلَّم الناسُ من ملامح هذا الخُلق الكريم... لم أسمعه يومًا يذكر أحدًا بسوء، ولم أرَه يومًا يؤذي أحدًا من مخلوقات الله، ولم يكن يَحقِرُ من المعروف شيئًا ولو أن يلقى أخاه بوجه طليق.

أقول هذا ولم أذكر آراءه التربوية التي كان ينقُلها إلى طلبته، ولا أساليبَه في التدريس والتعليم التي بثَّها في ما كان يعدُّ من مناهجَ والتي ستبقى من بعده صدقةً جارية إلى يوم القيامة إن شاء الله.

ولكنَّ هذه السنوات لم تطُل، وقرَّر الأستاذ عبد الرحمن أن ينتقلَ بعمله وخبرته إلى بلاد الحرمَين، وظلَّ سِراجًا مُنيرًا ينشر إشعاعَ علمه وفضله وخُلقه وخبرته على أوسع نطاق، ولعلَّ من أروع ما تقرأ له، أن تطالعَ ما كتب عن موضوع العبودية مثلاً([3])، فتحسَّ بما كان يستشعرُه من هذه الصِّلة الفريدة بين العبد وخالقه عزَّ وجلَّ، تلك الصِّلة التي تتضمَّن غايةَ الخضوع مع غاية الحبِّ، جعله الله ممَّن (يحبُّهم ويحبُّونه) وممَّن (رضيَ الله عنهم ورضُوا عنه).

وعندما تزوَّج السيِّدةَ الفاضلة شقيقةَ أخينا الأستاذ عبد الحليم محمَّد أحمد أبو شَقَّة رحمه الله([4])، رأينا أن نحتفيَ بزواجه في مسجد الشمسيَّة في حيِّ المهاجرين الدمشقي، وكأنها كانت بالنسبة إليَّ حفلةَ وداع، وقد ألقيتُ في ختامها أبياتًا كنت نظمتُها بمناسبة المولد أو الهجرة أذكر منها هذه الأبيات:

سَرِّحِ الطَّرفَ في رِمالِ الصَّحاري
شَهِدَت   في   القديم  مولدَ  نورٍ
يومَ  قام  النبيُّ في الناسِ iiيدعو
يا  عبادَ  الرَّحمن  لِمْ  قد  iiتركتُم
ونحتُّم   من   الصُّخور   رسومًا
حطِّموا    هذه   التماثيلَ،   iiهيَّا
واعبُدوا    الله   لا   إلهَ   iiسِواهُ
اعبُدوه   ولا   تخافوا   اضطِهادًا
ليس يقوى على الصُّمودِ أبو iiجَهـ
شِرعَةُ  الله  سوف  تُنصَر  iiدَومًا










حافلاتٍ     بالذِّكرَياتِ    iiالغِزارِ
مُستَديمٍ       ومَبدأٍ      iiمِعطارِ
لِمَبادٍ        لألاءةِ       iiالأنوارِ
شِرعةَ   الخالقِ   الكريم  iiالبارِي
وعبَدتُّم   هذي  الرسومَ  iiالعَواري
وأطيحُوا    بالنُّصْبِ   iiوالأحجارِ
وتَناءَوا    عنِ   الخَنا   iiوالشَّنارِ
مِن    عَبيدِ   الجبَّارِ،   iiوالجبَّارِ
ـلٍ    ولا    غَيرُه   من   iiالفُجَّارِ
والخَسارُ     الخَسارُ    iiللأشرارِ

د. محمَّد هيثم الخيَّاط ومعه أيمن بن أحمد ذوالغنى

في قاعة الاجتماعات بالمكتب الإقليميِّ لمنظَّمة الصحَّة العالميَّة

بمدينة القاهرة، في 10 من رمضان 1424هـ

               

([1]) من كتاب (العلامة الربَّاني عبد الرحمن الباني؛ سيرته، ومقدِّماته، وشهادات عارفيه) للأستاذ أيمن بن أحمد ذوالغنى.

([2]) د. محمد هيثم بن أحمد حمدي الخيَّاط: طبيب لامع، ولغويٌّ بارع، وفقيه مفسِّر. من أعلام تعريب المصطلحات الطبيَّة. ولد بدمشق عام 1456هـ (1937م)، وحصل على إجازة في الطبِّ من الجامعة السورية (جامعة دمشق) عام 1959م، وعلى أهليَّة التعليم العالي في العلوم الكيميائيَّة والحيوية من جامعة بروكسل في بلجيكا. جمع بين الطبِّ والعلوم الشرعيَّة واللغوية، وتخرَّج بعدد من أعلام علماء الشام. درَّس الطبَّ في جامعتي دمشق وبروكسل. وسُمِّي كبيرَ مستشاري المدير الإقليميِّ لمنظَّمة الصحَّة العالميَّة، وهو عضو بمعظم المجامع اللغوية العربيَّة، وفي غيرها من الهيئات والجمعيَّات العلميَّة، ورئيس تحرير المجلَّة الصحيَّة لشرق المتوسِّط. له أكثر من 25 كتابًا في الطبِّ واللغة وقضايا الإسلام وقصص الأطفال. وأشهر كتبه وأذكرها: (المعجم الطبِّي الموحَّد) وهو معجم ثلاثيُّ اللغات. يُتقن ستَّ لغات عالميَّة، ونشر مقالات كثيرة بالعربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة والإيطاليَّة.

([3]) يُلمع إلى مقدِّمته لكتاب (العبودية) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، الصادر عن المكتب الإسلامي بتحقيق شيخنا زهير الشاويش رحمه الله. وهي مقدِّمة مُسهَبة بديعة من خير ما كتبه المعاصرون في موضوع العبودية.

([4]) هي الأستاذة زينب بنت محمد أحمد أبو شَقَّة، داعية مصرية، ولدت بالقاهرة عام 1928م، عقد شيخُنا الباني قرانه عليها بتاريخ 4/ 11/ 1951، وكان زواجهما في آخر سنة 1952م.