باني بغداد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور

أبو جعفر عبد الله المنصور (712-775) (اسمه الكامل عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم) ثاني خلفاء بني العباس وأقواهم. وهو أسن من السفاح بست سنين ولكن أخاه الإمام إبراهيم بن محمد بن علي حينما قبض عليه جنود مروان بن محمد سلم الإمامة للعباس دون المنصور. والمنصور هو مشيد مدينة بغداد التي تحولت لعاصمة الدولة العباسية. وتولى الخلافة بعد وفاة أخيه العباس من عام 754م حتى وفاته في عام 775م.

كان الهم الأكبر للمنصور أثناء حكمه هو تقوية حكم أسرة "بني العباس" و التخلص من أي خطر يهدد سيطرتهم حتى لو كان حليفا سابقا مثل أبو مسلم الخراساني الذي قاد الثورة العباسية ضد الأمويين في خراسان.

ويعتبر أبو جعفر هو المؤسس الحقيقي للدولة العباسية ،يقول ابن طباطبا في الفخري هو الذي سن السنن وأرسى السياسة واخترع الأشياء ، وسار أبناؤه الخلفاء من بعدة على مسيرته؛ وهو فوق ذلك جعل لبني العباس سند شرعي في وراثة الدولة أعطت لهم السبق على أبناء عمهم الطالبيين تمثلت في المكاتبات بينه وبين محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية ويتلخص ذاك السند في الفتوى بابن العم أحق في الوراثة من البنت وابن العم ويقصد بذلك فاطمة الزهراء، و علي بن أبي طالب، كما إن المنصور هو من سن السياسة الدينية وجعلها أساسا لحكم العباسيين وذهب في ذلك إلى أبعد حد حتى قال إنما أنا سلطان الله في أرضه.

ولادته ونشأته: في قرية "الحميمة" التي تقع في معان جنوب الأردن ولد عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس سنة (95هـ / 714م)، ونشأ بين كبار رجال بني هاشم الذين كانوا يسكنون الحميمة، فشب فصيحا عالما بالسير والأخبار، ملما بالشعر والنثر. وكان أبوه محمد بن علي هو الذي نظّم الدعوة العباسية، وخرج بها إلى حيز الوجود، واستعان في تحركه بالسرية والكتمان، والدقة في اختيار الرجال والأنصار والأماكن التي يتحرك فيها الدعاة، حيث اختار الحميمة والكوفة وخراسان، وأمه أم ولد بربرية أسمها سلامة.

وحين نجحت الدعوة العباسية وأطاحت بالدولة الأموية؛ تولى أبو العباس السفّاح الخلافة سنة (132هـ / 749م) واستعان بأخيه أبي جعفر في محاربة أعدائه والقضاء على خصومه وتصريف شئون الدولة، وكان عند حسن ظنه قدرة وكفاءة فيما تولى، حتى إذا مرض أوصى له بالخلافة من بعده، فوليها في (ذي الحجة 136هـ / حزيران 754م) وهو في الحادية والأربعين من عمره.

توفي المنصور عام 775م في طريقه إلى الحج و خلفه ابنه المهدي.

يعتبر المؤرخون أبا جعفر المنصور فحل بني العباس هيبة، وشجاعة، وحزماً، وجبروتاً، وحرصاً على المال العام، وتاركاً للهو واللعب، وكامل العقل، جيد المشاركة في العلم والأدب فقيه النفس.

لهذا كله يعتبر أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية ولا شك إن الفترة التي قضاها المنصور في الخلافة العباسية تعتبر من أهم عصور الخلافة، فقد حكم ما يقرب من 22عاماً، حكماً قوياً وركز الخليفة فيها جميع سلطات الدولة في يده...

وبدأ الجو يصفو لأبى جعفر بعد هزيمة عمه عبد الله في الشام إلا من بعض الإزعاج الذي كان يسببه له أبو مسلم الخراساني؛ وبسبب مكانته القوية في نفوس أتباعه، واستخفافه بالخليفة المنصور، ورفضه المستمر للخضوع له؛ فأبو مسلم يشتد يومًا بعد يوم، وساعده يقوى، وكلمته تعلو، أما وقد شم منه رائحة خيانة فليكن هناك ما يوقفه عند حده، وهنا فكر المنصور جديّا في التخلص منه، وقد حصل له ما أراد، فأرسل إلى أبي مسلم حتى يخبره أن الخليفة ولاه على مصر والشام، وعليه أن يوجه إلى مصر من يختاره نيابة عنه، ويكون هو بالشام ؛ ليكون قريبًا من الخليفة وأمام عينيه وبعيدًا عن خراسان؛ حيث شيعته وموطن رأسه، إلا أن أبا مسلم أظهر سوء نيته، وخرج على طاعة إمامه، ونقض البيعة، ولم يستجب لنصيحة أحد، فأغراه المنصور حتى قدم إليه في العراق، فقتله في سنة 137هـ/ 756م، ولأن مقتل رجل كأبي مسلم الخراساني قد يثير جدلاً كبيرًا، فقد خطب المنصور مبينًا حقيقة الموقف، قال: (أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدئًا وأساء معقبًا، فأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهالنا، فما زال ينقض بيعته، ويخفر ذمته حيث أحل لنا عقوبته، وأباح لنا في دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا في غيره، ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه). ومع ذلك فلم تهدأ الأمور، ولم يصفُ الجو لأبى جعفر المنصور كما كان يتمنى. ?

كان ممن غضب لمقتل أبي مسلم الخراساني، رجل مجوسي اسمه (سُنباد)، فثار والتف حوله الكثيرون من أهل (خراسان)، فهجموا على ديار المسلمين في "نيسابور" و"قومس" و"الري"، فنهبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا النساء، ثم تبجحوا، فقالوا: إنهم عائدون لهدم الكعبة، فأرسل إليهم المنصور جيشًا بقيادة جمهور ابن مرار العجلي، فهزمهم واستردَّ الأموال والسبايا، ولا يكاد أبو جعفر يتخلص من "سنباد" سنة 137هـ/ 756م، حتى واجه ثائرًا ينادى بخلع المنصور، إنه "جمهور بن مرار العجلي (قائد جيوش المنصور التي هزمت "سنباد).

"جمهور بن مرار العجلي" قائد جيوش المنصور التي هزمت "سنباد". لما هزم "جمهور" سنباد، واسترد الأموال، كانت خزائن أبي مسلم الخراساني من بينها، فطمع "جمهور"، فلم يرسل المال إلى الخليفة المنصور، بل ونقض البيعة ونادى بخلع المنصور، فماذا كان؟ أرسل المنصور القائد الشجاع "محمد بن الأشعث" على رأس جيش عظيم، فهزم "جمهورًا" وفر هاربًا إلى "أذربيجان"، وكانت الموقعة في سنة 137هـ/ 756م.

فلقد كانت هناك ثورات وثورات تهدد الحياة وتحول دون الاستقرار والأمن. كما كانت هناك ثورات للخوارج الذين أصبحوا مصدر إزعاج للدولة العباسية. لقد خرج آنذاك "مُلَبّد بن حرملة الشيبانى" في ألف من أتباعه بالجزيرة من العراق، وانضم إليه الكثيرون، فغلب بلادًا كثيرة، إلى أن تمكنت جيوش المنصور بقيادة خازم بن خزيمة من هزيمته في سنة 138هـ/ 757م. وتحرك الخوارج مرة ثانية في خلافة المنصور سنة 148هـ/765م بالموصل تحت قيادة "حسا بن مجالد الهمدانى"، إلا أن خروجه هو الآخر قد باء بالفشل.

وواجه الخليفة المنصور العباسي ثورات منحرفة لطوائف أخرى، ففي سنة 141هـ/ 759م. واجه المنصور ثورة أخرى لطائفة من الخوارج يقال لها "الراوندية" ينتسبون إلى قرية "راوند" القريبة من أصفهان. إنهم يؤمنون بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى واحد يسمى "عثمان بن نهيك" وأن جبريل هو الهيثم بن معاوية -رجل من بينهم- بل لقد خرجوا عن الإسلام زاعمين أن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو "أبو جعفر المنصور"، فراحوا يطوفون بقصره قائلين: هذا قصر ربنا. ولم يكن ينفع هؤلاء إلا القتال، فقاتلهم المنصور حتى قضى عليهم جميعًا بالكوفة.

من أخطر الثورات التي واجهت المنصور خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على، وكان من أشراف بني هاشم علمًا ومكانة، وكان يلقب بـ "النفس الزكية" فاجتمع العلويون والعباسيون معًا وبايعوه أواخر الدولة الأموية، وكان من المبايعين "المنصور" نفسه، فلما تولى الخلافة لم يكن له هم إلا طلب محمد هذا خشية مطالبته بطاعة هؤلاء الذين بايعوه من قبل، وهنا خرج "محمد" النفس الزكية بالمدينة سنة 145هـ/763م، وبويع له في كثير من الأمصار. وخرج أخوه "إبراهيم" بالبصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على "فارس" و"واسط" و"الكوفة"، وشارك في هذه الثورة كثير من الأتباع من كل الطوائف.

وأيضاً قضية أكثر خطورة تختص حول تحالف الشيعة مع العباسين، حيث رأى الشيعة فرصة سانحة لإقامة دولة لهم بإحياء دولة تنتسب لآل البيت. بعد ذلك، سئم واُحرج المنصور من غلو الشيعة وتعظيمهم الديني له، فقام بقمع المسيرة الشيعية سنة 758م، فالتف الشيعة حول النفس الزكية. وبعث المنصور إلى " محمد النفس الزكية" يعرض عليه الأمن والأمان له ولأولاده وإخوته مع توفير ما يلزم له من المال، ويرد "محمد" بأن على المنصور نفسه أن يدخل في طاعته هو؛ ليمنحه الأمان. وكانت المواجهة العسكرية هي الحل بعد فشل المكاتبات، واستطاعت جيوش أبى جعفر أن تهزم "النفس الزكية" بالمدينة وتقتله، وتقضي على أتباع إبراهيم في قرية قريبة من الكوفة وتقتله.

ففي سنة 150هـ يخرج أحد الكفرة ببلاد خراسان ويستولى على أكثرها، وينضم له أكثر من ثلاثمائة ألف، فيقتلون خلقًا كثيرًا من المسلمين، ويهزمون الجيوش في تلك البلاد، وينشرون الفساد هنا وهناك، ويبعث أبو جعفر المنصور بجيش قوامه أربعون ألفا بقيادة "خازم بن خزيمة"، فيقضي على هؤلاء الخارجين، وينشر الأمن والاستقرار في ربوع خراسان.

رغب الخليفة أبو جعفر المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار "بغداد" على شاطئ دجلة، ووضع بيده أول حجر في بنائها سنة (145هـ / 762م) واستخدم عددا من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البنائين والصناع، فعملوا بجد وهمة حتى فرغوا منها في عام (149هـ / 766م) وانتقل إليها الخليفة وحاشيته ومعه دواوين الدولة، وأصبحت منذ ذلك الحين عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام؛ تيمنا بدار السلام وهو اسم من أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام. ولم يكتف المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة، بل عمل على توسيعها سنة (151هـ / 768م) بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، جعلها مقراً لابنه وولي عهده "المهدي" وشيد لها سوراً وخندقاً ومسجداً وقصراً، ثم لم تلبث أن عمرت الرصافة واتسعت وزاد إقبال الناس على سكناها.

ويقال إن أبا جعفر قبل بناء المدينة استشار المنجمين والعلماء حول موقع بناء عاصمة الخلافة، فوقع اختيارهم على هذا الموقع علي شاطئ دجلة و أخبروه أنه لن يموت بتلك المدينة أي من الخلفاء العباسيـــين...!!! وبالفعل لم يسجل التاريخ أن أي من الخلفاء العباسيين مات أو قتل داخل أسوار بغداد. (كذب المنجمون ولو صدقوا).

وإلى جانب هذه النهضة العمرانية راح المنصور يسهر على تنفيذ طائفة من الإصلاحات الداخلية على مستوى الدولة العباسية كلها. وإذا كان العدل أساس الملك، فإن الذين يقومون على العدل ينبغي أن يتم اختيارهم بعيدًا عن الهوى والمصالح. روى أن " الربيع ابن يونس " وزير "أبى جعفر" قال له ذات يوم: إن لفلان حقّا علينا؛ فإن رأيت أن تقضي حقه وتوليه ناحية. فقال المنصور: يا ربيع، إن لاتصاله بنا حقّا في أموالنا لا في أعراض الناس وأموالهم.

ثم بين للربيع أن لا يولي إلا الأكفاء، ولا يؤثر عليهم أصحاب النسب والقرابة.

وكان يقول: "ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعف منهم، هم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم: أما أحدهم: فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم. والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى. والثالث: صاحب خراج، يستقضى ولا يظلم الرعية، فإني عن ظلمها غنى". ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة: آه. آه. قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصّحَّة "رجل يخبرني بما يفعل هؤلاء لا يزيد ولا ينقص". هكذا كان المنصور حريصًا على إقامة العدل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وإلى جانب هذا، فقد كان يراقب عماله وولاته على الأقاليم، ويتتبع أخبارهم أولاً بأول، ويتلقَّى يوميّا الكتب التي تتضمن الأحداث والوقائع والأسعار ويبدى رأيه فيها، ويبعث في استقدام من ظُلم ويعمل على إنصافه متأسيًا في ذلك بما كان يفعل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

اعتنى المنصور بالمساجد، خاصة المسجد الحرام، فعمل على توسعته سنة 140هـ/ 757م، وسار إلى بيت المقدس بعد أن أثر فيه ذلك الزلزال الذي حدث ببلاد الشام، فأمر بإعادة بنائه مرة أخرى، وبنى المنصور مسجدًا بمنى وجعله واسعًا، يسع الذين يقفون في منى من حجاج بيت الله، وشهدت مدن الدولة الكبرى نهضة إنشائية وعمرانية، روعي فيها بناء العديد من المساجد في البصرة والكوفة وبغداد وبلاد الشام وغيرها من أقاليم الدولة.

مع اهتمام المنصور بالزراعة والصناعة وتشجيعه لأصحاب المهن والصناعات، وتأمينه خطوط التجارة والملاحة في الخليج العربي حتى الصين من خطر القراصنة الذين كانوا يقطعون طرق التجارة، ويقتلون التجار، ويستولون على الأموال، وراح قُواده يؤدبون هؤلاء اللصوص. وكثيرًا ما يعود قواده من الغزو في البحر بالغنائم والأسرى حتى انقطعت القرصنة بعد عام 153هـ/ 770م، ولقد تم في عهده إعادة فتح مدينة طبرستان عام 141هـ/ 759م، في بلاد ما وراء النهر.

أعطى المنصور اهتمامًا بالغًا بجهة الشمال؛ فراح يأمر بإقامة التحصينات والرباطات على حدود بلاد الروم. وكانت الغزوات المتتابعة سببًا في أن ملك الروم راح يطلب الصلح، ويقدم الجزية صاغرًا سنة 155هـ/ 772م. وقام المنصور بحملة تأديبية على جزيرة قبرص في البحر الأبيض المتوسط، أثر قيام أهلها بمساعدة جيش الروم، ونقضهم العهد الذي أخذوه على أنفسهم يوم أن فتح المسلمون جزيرة قبرص.

ذهب الخليفة المنصور للحج عام 158هـ/ 775م، فمرض في الطريق، وكان ابنه محمد "المهدي" قد خرج ليشيعه في حجه، فأوصاه بإعطاء الجند والناس حقهم وأرزاقهم ومرتباتهم، وأن يحسن إلى الناس، ويحفظ الثغور، ويسدد دينًا كان عليه مقداره ثلاثمائة ألف درهم، كما أوصاه برعاية إخوته الصغار، وقال: إنني تركت خزانة بيت مال المسلمين عامرة، فيها ما يكفي عطاء الجند ونفقات الناس لمدة عشر سنوات.

وقبل أن يدخل مكة توفي على أبوابها، لقد كان يلبس الخشن، ويرقع القميص ورعًا وزهدًا وتقوى، ولم يُرَ في بيته أبدًا لهو ولعب أو ما يشبه اللهو واللعب.

قال المنصور لولده وولي عهده المهدي: "ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك في كربك وحزنك فرجًا ومخرجًا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. يا بني: أحفظ محمدًا في أمته، يحفظك الله، ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ (إثم) عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك في الآجل، وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمرٍ به في كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أنه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادًا، مع ما ادّخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) سورة المائدة، آية 33. فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه وحصنه، وذُبَّ عنه، وأوقع بالملحدين فيه، وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن، واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء، وعفّ عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمّن السبل، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المطاردة عنهم، وأعد الأموال واخزنها، وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، وهي من شيم الزمان، وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتَّابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على بابك، وسهِّل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم، وإياك، فإن أباك لم ينم منذ ولى الخلافة، ولا دخل عينه النوم إلا وقلبه مستيقظ. يا بني: لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح الرعية إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك".

ومن الأعمال الجليلة التي تُذكر للمنصور عنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته للعلماء من المسلمين وغيرهم، وقيامه بإنشاء "بيت الحكمة" في قصر الخلافة ببغداد، وإشرافه عليه بنفسه، ليكون مركزاً للترجمة إلى اللغة العربية. ولكن المؤسس الحقيقي لبيت الحكمة كمكتبة عالمية هو الخليفة العالم المأمون وفعل مثل ما فعل أبو جعفر المنصور وأبوه هارون الرشيد وقد أرسل أبو جعفر إلى إمبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب والفلك، فقام نفر من المترجمين بنقلها إلى العربية.

وكانت وفاة أبو جعفر المنصور يوم (6 ذي الحجة 158هـ/7 تشرين الأول 775م).

وسوم: العدد 817