الشيخ عبد الكريم الكحلوت

حديث الذكريات

نعمان فيصل

[email protected]

حمل العلامة الشيخ عبد الكريم الكحلوت لواء الجهاد في سبيل الإسلام، وما كان في حياته على طولها إلا كل عمل جليل، أعمال ترقى بصاحبها إلى مرقاة الخلود؛ فلم يعرف خلالها الراحة أو الهدوء. دافع عن الإسلام في كل موطن، وخدم هذا الدين بطريقة رائعة فريدة لا يدانيه فيها أحد؛ فبهر الأبصار بقوته الخارقة للعادة، ومواهبه النادرة، وغدا عنواناً لكل مَن عرفه، استهوى الجماهير، ونفذ إلى وجدانهم، حتى اجتمعوا تحت لوائه، وأصبح الشيخ ينعم بمكانة عالية بين أهل غزة، ويرون فيه المثل الأعلى للتقى، ويهرعون إليه عندما تدهمهم مسألة في أمور دينهم ودنياهم، وكان دائماً عند حسن ظنه بهم، يرشدهم إلى ما فيه عزّ الدنيا وسعادة الآخرة، بكل صدق وإخلاص، لأنه جعل غايته التقرب إلى الله، لا يبغي جزاءً ولا شكورا، ولا يبغي من عمله أي كسب مادي، أو تحقيق رغبة شخصية. ثم زاد في تقدير الناس له عزوفه عن الدنيا وحطامها، وتمسكه بأهداب الدين، والعمل في سبيل الله. وفهم رسالته وما تتطلب من مثابرة واجتهاد، وما تقتضيه من أعباء، فلم يستعبده مال، وعاش لرفع شأن الدين وتعاليمه السمحة، حتى لقي ربه، وهو يجاهد في سبيل الإسلام شأن الشهداء الأبرار.

كان رحمه وسطياً، لا يتشيع لهذا الحزب، ولا ينصر هذه الحركة، ولا يمالئ زعيم أو قائد، ولا يتزلف إلى الحكام؛ لينال رضاهم ويخضع لأوامرهم، لأنه يُؤمن أن وطنه المحلّي ما هو إلا جزء في وطنه الكبير يتأثر بما يتأثر به الوطن، فكان يمقت التدين الزائف الذي يتسم بالجهالة، وكان يرفض الدعوة إلى الفرقة والاحتراب، عاش عالماً جليلاً، تتطلع إليه الأبصار وتلتمس عنده الهداية والإرشاد، وهو من هؤلاء العلماء الذين بمقدار عددهم يقاس مجد الأمة.

ولا نحسب إنساناً اقترب من الناس كما كان الشيخ عبد الكريم الكحلوت، وما من فرد ترك في الأجيال من الأثر ما تركه الشيخ، وما أجمع الناس على علمه وقدره كما أجمعوا عليه.

كان موقف الشيخ من أحداث عصره متسقاً مع وجدانه وضميره، وكانت السنون الثماني الأخيرة من حياته حافلة بالأحداث الجسام، كان يرى الأمة تتقلب في أحوال متناقضة مبهمة؛ فكانت تسوءه هذه الأحوال، والانقسام الفلسطيني كان يهزه هزاً عنيفاً، وأظهر أمام هذه الأزمات الجارفة والأحداث المتلاطمة رباطة جأش نادرة، وبصيرة فريدة. إذ وقف مواقف جريئة في مواجهة الانقسام، والحث على الوحدة الوطنية في سبيل تبصرة مواطنيه بما أحاط بهم من أخطار.

نعم الشيخ بقدر واسع من الكرامات، التي ينعم بها المخلصون من أهل التقى، حتى صار مثلاً أعلى في الطهر والتقى والعلم، نقي المظهر والمخبر في إصلاح حال المسلمين؛ حتى صارت لعظاته أعظم الأثر وأشد الوقع في النفوس، وأثبت قدرته على الاجتهاد في الفقه، وكان يلقي الأحاديث على عامة الناس بأسلوب يوافق عقليتهم، ويثير مشاعرهم يخاطب الناس، كحديث القلب للقلب، لا يعرف زخرفاً في القول أو زيفاً في التعبير

نال الشيخ عبد الكريم الكحلوت إجلال معاصريه واحترامهم: كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وطالبهم، فكان أخص أصدقائه من الشيوخ والعلماء، وقادة الرأي، وحتى المتقاربين معه في السن، يبادرون إلى تقبيل يده في وقار وإجلال؛ اعترافاً منهم بفضله وعلمه. واشتهر اسم الشيخ ليس في فلسطين فحسب، بل في أرجاء المعمورة، يستزيدون من علمه وفتاويه، ويسألونه في أمور دينهم ودنياهم.

ومن آثار الشيخ الكثير من المؤلفات والأبحاث والفتاوى والنشرات في المواضيع الدينية المختلفة، والآلاف من مقالاته التي كتبها في مجلة نور اليقين التي كانت تصدر عن معهد فلسطين الديني (الأزهر)، وكذلك الدروس والمحاضرات التي كان يلقيها بين حين وآخر وفي مناسبة من المناسبات أو حين يدعى للحديث، وكان خطيب الجمعة في المسجد العُمري الكبير، والمساجد الآخرى، لعقود طويلة، واشتهر بخطبه الإرتجالية البليغة، يلقيها بصوته الجهوري، وتميزت بالأسلوب الرفيع، والعرض الجيد، والمعاني السامية، والآراء القيمة، وكان يُبهر الجميع برسوخ قدمه في مختلف العلوم، وإذا تكلم تدفق الحديث نحواً وصرفاً ولغة وبياناً وبديعاً وفقهاً وتفسيراً وفروعاً وأصولاً، وكل ذلك في نسق واحد. وعندما يختلف فرسان العلم والدين في القضايا، كان الرأي الذي يبديه الشيخ هو الرأي الفصل في الموضوع، واتسمت مجالسه بالعلم والأدب، ونشر الدعوة الإسلامية والاعتزاز بالتراث العربي، والدفاع عن قضيته الفلسطينية.

وما زال الشيخ على سيرته الطيبة ومكانته العالية، حتى ألمت به نزلة برد شديدة على الرئة، قبل شهرين من وفاته، حتى اشتد المرض عليه في أيامه الأخيرة، ففاضت روحه الطاهرة مساء يوم الإثنين 24 شباط/ فبراير 2014م، الموافق 24 ربيع الآخر 1435هـ، وما إن وصل نبأ وفاة الشيخ، الذي نزل كالصاعقة على جميع الأهالي في فلسطين، حتى آسفوا عليه. وكان حزنهم على رحيله عظيماً، وانتفضت مدينة غزة تبكيه بدمعة حارة، وروى المرافقون للشيخ في ساعاته الأخيرة، تلك الساعات القاسية، التي فاضت روحه الكريمة انصرافه إلى الذكر وقراءة القرآن، وإنه كان كالنائم المستريح يعلو وجهه نور، وعندما نُقل جثمان الشيخ في صباح اليوم التالي ملفوفاً بالعلم الفلسطيني إلى المسجد العُمري الكبير، الذي كان شيخنا إمامه وخطيبه لعقود طويلة، لم يتسع المسجد على سعته لمحبيه ومريديه الذين جاءوا من كل حدب وصوب، للمشاركة في حمل نعشه، وتدافعوا للفوز بفضل الصلاة على جثمانه الطاهر، فكان المسجد أشبه بيوم الحشر لا تجد موطئ قدم.

وفي هذا المسجد أُقيم للفقيد حفل تأبين كبير، حضره كل مَن عرف الشيخ ومَن لم يعرفه، من جميع طبقات الشعب في غزة: فقراء وأغنياء، وزراء ومسؤولين، وجهاء وعلماء.. وقد أبنّه رئيس الوزراء في غزة، ووزير الأوقاف الحالي والسابق، ومفتي المدينة، ورئيس المجلس التشريعي بالإنابة، ورئيس رابطة علماء فلسطين، وبعض قادة العمل الوطني والإسلامي، ونفر من عائلته الكريمة، الذين أشادوا بأعمال الشيخ ومواقفه المشرفة، كما نعاه شيخ الأزهر في جمهورية مصر العربية العلامة الدكتور أحمد الطيب، وكذلك مفتي الجمهورية العلامة الدكتور شوقي علام، بأصدق العبارات والمواساة.

وشيّع في موكب مهيب على المستوى الشعبي والرسمي، وسارت جنازته مشياً على الأقدام من المسجد العُمري وسط مدينة غزة إلى مثواه الأخير في مقبرة الشهداء الإسلامية شرق المدينة، حيث جسدت جنازة الشيخ أرقى مظاهر الوحدة الوطنية، حيث شارك فيها جموع غفيرة من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة. وانطبق على جنازته ما قاله الإمام أحمد بن حنبل، الذي سار حكمه مسير الأمثال: (بيننا وبينكم شهود الجنائز).

وبعد هذه المقدمة، وهذا التحليل لشخصية العلامة الشيخ عبد الكريم الكحلوت، أود أن أورد بعض الذكريات من مواقف وطنية نبيلة ومساعٍ إنسانية خيرة سمعتها وشاهدتها من الشيخ غيضاً من فيض، وأسوق مثلاً من أمثلة عديدة، توضيحاً لبعض جوانب تك الشخصية الفذة.

الموقف الأول

لم يكن الشيخ عبد الكريم الكحلوت من أسرة غنية، ولا من تلك الأسر التي أعطتها الأوضاع الاجتماعية نوعاً من التمييز والاستعلاء؛ فقد اضطرت أسرة الشيخ إلى الهجرة عام النكبة (1948) من قرية نعليا إلى جباليا، وكانوا كغيرهم من الفلسطينيين، لا يملكون من متاع الدنيا إلا القليل، وفي ظل هذه الظروف المعيشية الصعبة نشأ الشيخ، واعتمد على نفسه في جو من الكفاح لا مثيل له، في سبيل العلم الذي علّق عليه أكبر الآمال، إلى أن حصل على ليسانس الشريعة والقانون من الأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية، وأحرز شيخنا قصب السبق بين أقرانه، وبعد عودته إلى غزة، عُين مدرساً بالمعهد الديني الأزهر بغزة، وعمل إماماً وخطيباً في جامع المحكمة بحي الشجاعية، واستأجر بيتاً ليقيم فيه، وفي أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، تلقى شيخنا عرضاً سخياً، من أحد قادة العمل الإسلامي في قطاع غزة وقتئذ، في محاولة لاستقطابه، قائلاً للشيخ: (إنني أشعر بما أنت فيه من ضيق وحاجة، وأتعاطف وأتجاوب مع مشاعرك، وأتصور أنك في أشد الحاجة إلى دار تواجه ظروف الإيجار، فهل تقبل أن أقدم لك بعض المال، لتشتري داراً لتواجه به صعوباتك، وتلبي به ضروراتك). يقول الشيخ عبد الكريم: (كان يأمل مني الإستجابة لمسألته خاصة أنني في أشد أيامي قسوة، فالعسرة ما زالت تضرب أطنابها، إلا أنني قلت له يا أخي إن أنسَ فلن أنسى لفتتك الكريمة، ثم اعتذرت عن قبول العون، وكانت أخلاقي ومبادئ تمنعني من قبول عونه).

الموقف الثاني

بعد عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لأرض الوطن عام 1994، عُين الشيخ عبد الكريم الكحلوت مفتياً لمحافظة غزة، بموجب مرسوم رئاسي صادر من الرئيس الراحل ياسر عرفات، وأدرك الرئيس الراحل حاجة الشيخ لسيارة تقله في حله وترحاله، فأرسل له مفتاح سيارة حديثة مع أحد الشخصيات المرموقة المقربة منه، غير أن الشيخ قابل مبادرة الرئيس بالرفض الشديد، وعبثاً حاول هذا الرجل إقناع الشيخ بقبول السيارة، وعندما علم الرئيس بقرار الشيخ صمم على زيارة الشيخ في منزله لمعرفة أسباب رفضه، وكرر الشيخ رفضه، وأصر عليه، وعنئذ قال له الرئيس: إنك من طراز من الناس استعصى عليّ فهمه، فما كان من الرئيس سوى النزول عند رغبة الشيخ، ويقول الشيخ في هذا الصدد: (لاطفني بسماحته وسعة صدره ومسامراته اللطيفة).

وهكذا، لم يتخذ من حياته سبيلاً للثراء والجري وراء زخرف الدنيا على نحو ما تردى فيه نفر من معاصريه، كذلك بقي الشيخ مرفوع الهام أمام أصحاب السلطان؛ لأنه زهد في بريق ذهبهم، ولم يعرف بابهم إلا ناصحاً أميناً، وهادياً إلى ما فيه خير الإسلام والعروبة.

الموقف الثالث

أُحيل الشيخ عبد الكريم الكحلوت إلى التقاعد عام 2006، كمفتي لمحافظة غزة؛ لبلوغه السن القانونية، وعينت السلطة الشيخ حسن اللحام، وهو من أتباع الشيخ ومن السائرين على هدى تعاليمه خلفاً له، وكان موقف الشيخ اللحام لا مثيل له، في حبه وتقديره للشيخ الكحلوت، حيث قال له لن أجلس على كرسي الإفتاء ما دمت على قيد الحياة، وقد طلب اللحام منه المواظبة إلى دار الإفتاء ليقوم بمهامه كمفتي، واستجاب الشيخ الكحلوت لرأيه وتطوع لهذه المهمة، وهكذا، اتخذه كبار الشيوخ منهجاً يسيرون على منواله، وهذا دلالة على علو كعب الشيخ في الفقه الإسلامي، وما اتسم به من حب دافق للتقوى والعبادة وميل فطري للزهد والتنسك، وكان شيخنا رحمه الله يحضر يومياً لدار الإفتاء دون وهن ولا كلل، وكان الشيخ حسن اللحام يجلس بجانب كرسيه كالعادة، وصارا كأولي القربى الأبرار في البيت الواحد، أو كروح واحدة في جسدين، واعتقد أن هذا الحب والوفاء من النوع الذي يتملك القلائل من الناس في هذا الزمان، حيث لا يعرف الفضل لذوي الفضل إلا أهل الفضل.

وعندما كنت أزوره في دار الإفتاء، كان يخالجني الإحساس، أن هناك شيئاً جليلاً يقبع تحت قبة دار الإفتاء، كأنه ولي من أولياء الله الصالحين، كان رحمه الله عالماً عظيماً من غير منازع، لم يختلف على قدره إنسان، فقد عشنا مع الشيخ حتى إنتقل إلى أكرم جوار، ونحن على السفح نتطلع إلى الذروة، التي احتلها سادن العلم في محراب الدين، وظلت مكانته تعلو عند مواطنيه.

الموقف الرابع

تعرف الشيخ عبد الكريم على الأب مانويل مسلم، راعي الكنيسة الكاثوليكية، خلال عقد العديد من المؤتمرات والندوات، التي تدعو إلى نصرة القدس وحماية المقدسات الدينية، ونبذ الانقسام والحث على الوحدة الوطنية، وقد أخبرني الشيخ أن الأب مانويل كان يهاتفه بصورة دورية، حتى بعد مغادرته قطاع غزة إلى الضفة الفلسطينية، مرة للسؤال عنه والاطمئنان على صحته، وآخرى للتهنئة بالمناسبات الدينية، وكان شيخنا يبادله الاتصال والسؤال، بعيداً كل البعد عن التعصب والتزمت مؤمناً بالتسامح والتعايش الديني، وهذا من تعاليم الإسلام.

الموقف الخامس

بعد وفاة الشيخ محمد عواد عميد المعاهد الأزهرية في فلسطين في شباط 2006، جرت في مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات برام الله، مناقشات ومداولات على مَن يخلف الشيخ عواد في منصبه الكبير، الذي كان يشغله لعقود طويلة، فهذا المسؤول يقترح الشيخ زيد من الناس، وهذا الوزير يسمي آخر، وعندما احتدم الخلاف حول اسم عميد المعاهد الأزهرية المقترح، حسم الرئيس عرفات بالقول الفصل: سأعين الشيخ عبد الكريم الكحلوت، لهذا المنصب، تقديراً وعرفاناً لجهوده ودوره، ولم يكن اسم الشيخ ضمن قائمة المرشحين من قبل بطانة الرئيس. وفي تلك الليلة هاتفني أحد الحاضرين لتلك الجلسة بمكتب الرئيس، وهو معالي المستشار زهير موسى الصوراني، والذي تربطني به علاقة طيبة، وأخبرني بأن السيد الرئيس عين الشيخ عبد الكريم عميداً للمعاهد الأزهرية، وسألني ما سر حب الرئيس للشيخ؟ وسرت أسرد له بعض المواقف التي سمعتها من الشيخ، التي تؤكد على سر اختيار الرئيس له، منذ أن كانا طلبة في مصر، وبعض القصص التي أعرفها من الشيخ عن علاقتهما الطيبة.

الموقف السادس

ويتعلق هذا الموقف بمساعدة المحتاجين، حيث كان شيخنا يقدم مساعدات إلى أفراد وعائلات في حالة عوز وضيق، وهذه لا نعرف عنها إلا القليل إذ إنها تظل محكومة من قبله بقدر كبير من السرية، هذا هو دأب الشيخ لا يدع يده اليسرى تدري بما تقدمه يده اليمنى، فالكرم ومساعدة المحتاج صفات متأصلة فيه، فكانت مشاعره رحمه الله هي أوتار حساسة مهيأة دوماً لمشاركة المعوزين معاناتهم وآلامهم، فكنت أرى هؤلاء المحتاجين عنده ولا أعرفهم، في مواسم الخير وفي رمضان وفي أيام الأعياد؛ فكان أكثر من يعطي.

وكان يحزنه ما ألّم بالعديد من أصحاب الحاجات المتنوعة، ممن تقطعت بهم الأسباب، وأصبحوا في حالة عوز وفاقة، الذين يطرقون بابه، ويلجئون إليه للتدخل والمساعدة، وكان شيخنا يبدي استعداده بالاتصال الفوري بالمسؤولين القادرين ليبادروا إلى أداء واجبهم تجاه بني وطنهم، وانتشالهم من وهدة البؤس. حيث لمست فيه من رقة في الحس وحب في لفعل الخير وأريحية عزَّ نظيرها.

وهناك الكثير من المواقف والقصص، التي كان يقولها لي، عندما كنت ألتقيه في منزله بصورة دورية، وكنت أحرص على تدوينها بعد إنصرافي من عنده، وأسأل المولى عز وجل أن يهيئ لي الفرصة في المستقبل؛ لأكتب عن مواقفه وقصصه وحياته، بما يليق بمقام الشيخ ويخلد ذكراه. 

علاقتي بالشيخ

أتاحت لي الظروف أن أعرف الشيخ الجليل عبد الكريم الكحلوت عن قرب، على مدى عشرين عاماً، وعندما أعود بالذاكرة إلى أيام الدراسة، يتمثل أمامي هذا العالم الجليل، الذي كان له أعظم الأثر في تنشئتي اللغوية، الذي وجهني الوجهة الصحيحة، وعلمني أن اللغة يسر لا عسر، وهي وعاء الفكر ووسيلة نقله، ففضله عليّ كبير في معرفة أمور ديني ودنياي، فقد تعلمت منه الكثير، ورويت من هذا المشرب، وكنت من المواظبين لأداء صلاة الجمعة خلفه لسنوات طوال. وخبرت خلال هذه الفترة أمثلة عديدة من الخصال، التي يتميز بها، حيث كان الشيخ نسيج وحدة في عالم الإسلام، أضفت عليه سماحته هدوءاً في النفس، ورحابة في الخلق، وكياسة في التعامل، وسعة في الأفق لا حد لها، ولكنها لم تطغ قط على إيمانه واعتقاده وما يراه حقاً.

كان لي شرف الترجمة والكتابة عنه والإشادة بدوره في كتابي: (أعلام من جيل الرواد من غزة هاشم: منذ أواخر العهد العثماني وحتى القرن العشرين)، الذي صدر عام 2010م وهو جهدي المقل، كما شاركني فضيلته احتفال وزارة الثقافة بمناسبة صدور هذا الكتاب، وألقى كلمة مؤثرة في الاحتفال أشار فيها إلى إن: (الإسلام كرَّم الأعلام، ورفع من شأنهم، معتبرا صدور مثل هذا الكتاب الذي يرصد سيرة وتاريخ أعلام غزة إشراقة جديدة لإبراز تاريخ من ضحى من أجل النهوض بفلسطين وشعبها)، كما كان لي الشرف أيضاً، أن قدم فضيلته لكتاب الأعلام، وكتاب (الانقسام الفلسطيني في عهد الانتداب البريطاني وفي ظل السلطة الوطنية الفلسطينية دراسة مقارنة)، وسجل فيهما بحروف النور، وعبارات الخلود أبلغ المعاني وأسمى القيم. وشاركني أفراحي وأتراحي جميعها، وخاصة احتفال مناقشة رسالة الماجستير، الذي أصر على الحضور؛ ليرى الغضن الذي غذاه نسغاً وهو يزهر ويعقد، فقد كان رحمه الله يفرح لنجاحي، وأحسب أن هذا نابع من إيمان راسخ عنده بالعلم النافع الذي هو عدَّة هذا الزمن.

وفي بداية مرضه الأخير زرته في بيته للاطمئنان عليه، حيث كان يرقد في غرفة نومه، وقالت لي زوجته طيبة الذكر أنظر خلفك لكي ترى مدى حب الشيخ لك؛ فقد وجدت على المرآة صورتين إحداهما تجمعني معه وأنا أحضنه التقطت عام 2004م. وأثناء هذه الزيارة رأيت هاتفه دائم الرن، لا يهدأ من السائلين عن مسائل دينهم، وكان شيخنا يرد عليهم بأريحية عزَّ نظيرها يجيبهم وهو على فراش المرض.

وفي عصر يوم الأربعاء، قبل دخول فضيلته العناية المكثفة بمشفى الشفاء بيوم واحد - أي قبل وفاته بخمسة أيام - طلبني الشيخ هاتفياً لأمر ما، وقال أريدك أن تحضر، وذهبت على الفور، واستقبلني خير استقبال، ولم تكن صحته على ما يرام، وكانت علامات الإعياء ظاهرة عليه، عندها خالجني الإحساس بأن هذه الزيارة للشيخ هي الأخيرة، وأن ساعة الرحيل قد حلت، وأن اتصاله بي كان في باطنه الوداع، وفي نهاية اللقاء قلت له بماذا توصيني، قال: أوصيتك بتقوى الله فإنها رأس كل خير، وعدت أدراجي إلى البيت، والقلب يعتصر ألماً على الشيخ، حتى جاء النبأ بعد أيام قليلة الذي لا ريب فيه، أن الشيخ عبد الكريم انتقل إلى الملأ الأعلى. لقد ترك الشيخ فراغاً كبيراً في قلوبنا، وفي قلوب مَن عرفه، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا عز وجل، وندعوه أن يرحمه برحمته الواسعة.