قدوة صالحة للعاملين

(1)

الإمام الشهيد حسن البنا

الأستاذ أمين الحسيني (*)

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، ورحم الله فقيد الإسلام العظيم الشهيد، والمربي الكبير، الأستاذ المرشد الجليل الشيخ" حسن البنَّا"، فلقد كان من أحسن العاملين وصفوة المربين البنَّائين، وخيرة الصالحين المخلصين، ولقد أحسن في هذه الحياة وهو في الآخرة من المكرَمين، تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته.

وإني لأذكر أنه - رحمه الله - بعث إليَّ برسالة في عام 1347هـ يُعْلِمني فيها بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، فأجبته مُبدياً ابتهاجي، وداعياً لهذه الغرسة الجديدة بالنمو والنجاح، ولم أكن حينئذ أنتظر كل هذا التوفيق الذي لاقته هذه الجماعة؛ لأني كنت أظن أنها كسائر ما عهدنا من الجمعيات التي لا تكاد تبتدئ حتى تنتهي، ولا تكاد تُسَلِّم حتى تودِّع، ولكن ما آتاه الله لمؤسسها صاحب النفس الزكية والأخلاق المحمدية من شديد الإخلاص وكريم الأخلاق، ورجاحة العقل وغزارة العلم وفرط الذكاء، مع وفرة التواضع والدأب مع الصبر، ومن الرقة والحزم والأناة والعزم، ومن طِيبة القلب مع عميق الغَور، وغير ذلك من الصفات النادرة التي قلمَّا تجتمع في رجل واحد، كل هذه المزايا التي منحها الله للشهيد الجليل، طيب الله ثراه، مكَّنت لهذه الشجرة الطيبة أن تَثبُت أصولُها، وأن تنتشر فروعها، وأن تؤتي أُكُلَها بإذن ربها، رغم ما لاقت من المصاعب ومن الدسائس والكوارث، ومن مؤامرات الأعداء المستعمرين، ومن ظلم الأقربين الغافلين.
وقد لمستُ نجاح عمل الشهيد الكريم حين شبَّت ثورة فلسطين سنة 1936م؛ إذ كان فريقٌ من أبنائه وتلامذته في طليعة من أنجدَ وكافحَ وجاهدَ واستشهدَ، ثم رأينا آيةً أخرى من صنع يديه يوم اجتمع المؤتمر البرلماني العربي في القاهرة سنة 1938م؛ إذ قامت جماعة الإخوان حينئذٍ بقيادته بكثير من الأعمال المبرورة والجهود المشكورة، ولم تزلْ تتوالى أعمال هذه الجماعة النافعة إلى أن تجلَّت رائعة باهرة في حرب فلسطين، فلقد قدمتْ من ضروب الإخلاص وروائع الشجاعة والتضحية ما جعل العددَ القليل من الإخوان يتغلبون على أضعافهم من جنود اليهود المدرَّبين؛ مما أقضَّ مضاجع المستعمِرين الظالمين، وجعلهم يتوجسون خيفةً من الإخوان المسلمين ومن قائدهم الفذِّ الذي عَرف كيف يربي التربية الإسلامية الصحيحة على النهج النبوي القويم.. تلك التربية التي لو عمَّت البلاد الإسلامية وأعادت المسلمين إلى صراطهم المستقيم لاستحال على المستعمِرين أن يجدوا لهم موطئ قدم في دار الإسلام، فشمَّروا عن ساعد الجد يدسُّون لهذه الجماعة وقائدها، ويكيدون لهم ويوغِرون الصدور عليهم، ويفترون عليهم شتى الأكاذيب والتُّهَم، ويحرِّضون أولي الأمر، ويحضُّون ذوي السلطان، ويضغطون عليهم ويهددون، إلى أن تمَّ لهم ما أرادوا من اضطِّهاد الجماعة واعتقال أفرادها، وزجِّهم في السجون، والفَتك بقائدهم الشهيد الجليل- عليه الرحمة والرضوان- وبغيره من جنود الحق والإيمان، وشردوا بقيتهم في الآفاق، وظنوا أنهم بذلك قضوا عليهم القضاء المبرم، ولكن الله خيَّب آمال الظالمين، ومحَّص المؤمنين وثبَّت قلوبهم، وأخرجهم من المِحنة أصلبَ عوداً وأشدَّ إيماناً، وأمضى عزيمةً وأقوى نصيراً، وخلَّد روح قائدهم الشهيد العظيم في دار النعيم، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

وإن في ذكرى استشهاده لعبرةً لأولي الأبصار، وفي تاريخ حياته قدوة صالحة للعاملين الأبرار: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ )الحج: 40- 41 (

               

(*) هو مفتي فلسطين الأكبر، كان حاملاً لدور الجهاد ضد اليهود، ونصرة القضية الفلسطينية عبر سني حياته، ولم يترك مجالاً لحل القضية ونشرها إلا وطرقه، وقد خرج من فلسطين لاجئاً إلى ألمانيا لنشر قضيته، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لجأ إلى مصر بعد ضغوط شعبية، وتعاون مع الإخوان في العمل على دعم القضية الفلسطينية، وتخليصها من براثن اليهود.

(1) الدعوة – السنة الثالثة - العدد (104)، 25 من جمادى الأولى 1372هـ/10 من فبراير 1953م.