من مذكرات دبلوماسي مجهول: في عهد الإمام الشهيد

من مذكرات دبلوماسي مجهول:

في عهد الإمام الشهيد (1)

الإمام الشهيد حسن البنا

الأستاذ يحيى نامق (*)

التاريخ يشهد والحقائق تسجل أن نور الوعي الحق، الذي ملأ قلوب آلاف من الشباب المصريين، في الأعوام العشرة الماضية، إنما انبعث من إيمان رجل واحد آمن بمعنى الأخوة في الله، وجعل من محمد بن عبد الله – صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه – أسوته الحسنة ومثله الأعلى، هذا هو الشهيد الإمام "حسن البنا".

الحق أن الإسلام واضح ظاهر، كله يسر وهو دين الفطرة ولا يحتاج إلى التبشير به كغيره من الأديان، ولكن الجيل الجديد الذي سممه الاستعمار والحضارة الغربية، نشأ مبلبل العقيدة سقيم الوجدان، كنا ننتسب إلى الإسلام بالاسم فقط؛ لأننا ولدنا من عائلات مسلمة، أما الإيمان بعزة الإسلام وقيمه الروحية، أما التمسك بفضائل الإسلام قولاً وعملاً، أما الزهد في زخرف الدنيا ونفاقها، والتوجه بالقلب والنية إلى فاطر السماوات والأرض، أما الترابط والتآخي والتعاون في السراء والضراء – فقد كنا أبعد ما نكون عن فهم هذه المعاني النورانية، إلى أن جاء حسن البنا، ولفتنا إليها، وثبتها في نفوسنا.

إن المجتمع الإسلامي ظل متماسكاً حتى يومنا هذا بالدفعة المحمدية الأولى، وهذا أقوى دليل على أن دعوة الإسلام هي الوعد الحق، وأما تخاذل المسلمين وضعفهم فمن أنفسهم، ومن تهاونهم في العمل بما أمرهم به دينهم.

وقد جاءت دعوة الإمام حسن البنا في وقتها المناسب لتهز كيان المجتمع الإسلامي عامة، والمجتمع المصري خاصة، هزات متواصلة، لعله يفيق من الضلال والعبث والفساد والاستهتار والفوضى.

جاءت هذه الدعوة لتشعر كل مسلم بكرامته، وتحفظ عليه حريته وماله، وتبين له أنه قبس من نور الله، وأنه مفضل على غيره بعمله وتقواه، ولن تتسع هذه الكلمة للحديث عن دعوة الإمام وجهاده، إنما يكفي أن نسجل واقعة واحدة.

دخلت مصر والجيوش العربية حرب فلسطين يوم 15 من مايو سنة 1948م، وفي صباح اليوم نفسه اعترفت الولايات المتحدة بدولة إسرائيل "المزعومة" وكنت آنذاك أتولى إدارة الدعاية في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، فرأيت أن أظهر احتجاج العرب وغضبهم بطريق غير مباشر على أمريكا ورئيسها "ترومان" وشاءت الأقدار الكريمة أن تتيح لي الفرصة المواتية، فقد كان مؤتمر القانون الدولي يفتتح أولى جلساته في الساعة الخامسة بعد ظهر اليوم نفسه في قاعة جمعية التشريع والاقتصاد بشارع الملكة بالقاهرة، وكان المفروض أن ترأس المؤتمر شخصية أمريكية.

اتفقت مع "زميل" على "خطة" تتلخص في أن نطبع تذاكر ونوزعها على مئة شاب على الأقل ليستطيعوا دخول قاعة المؤتمر دون أن يمنعهم البوليس، وينبثوا في القاعة في جهات متفرقة، وكان في برنامج الاحتفال أن يتكلم رئيس المؤتمر "الأمريكاني" عن حقوق الإنسان، فقررنا أن نستمع لكلمة الرجل حتى إذا ما انتهى منها يقف أحد الزملاء ويقول ما معناه: إننا استمعنا للمحاضرة القيمة التي ألقاها رئيس المؤتمر عن حقوق الإنسان، ولكننا نرى أنها تتعارض مع ما فعلته دولته اليوم من الاعتراف بدولة إسرائيل المزعومة، وينهي كلمته بالهتاف بسقوط أمريكا وسقوط ترومان، ثم نرسل برقيات للخارج تبين أن مؤتمر القانون الدولي الذي انعقد في القاهرة نادى بسقوط ترومان وأمريكا، فيكون في ذلك أبلغ احتجاج!!

كان الوقت ضيقاً، ولم يبق على موعد الافتتاح إلى أربع ساعات، فكيف نجمع الشباب المئة؟ هنا قال لي "الأخ الزميل": لنعرض الأمر على فضيلة الأستاذ حسن البنا لتحل المشكلة، اتصلنا بفضيلته تليفونياً، ثم ذهبنا إليه مباشرة فوجدناه بمكتبه في انتظارنا، وبعد أن رحب بنا قال – رحمه الله-: "حدثني عن تفاصيل الخطة"، فأخذت أبين الفكرة، وهو صامت لا يتكلم، وأخيراً قال: "متى تستطيع أن تحضر التذاكر؟ قلت في الرابعة والنصف، فقال: "ستجد المئة – إن شاء الله– داخل القاعة قبل الخامسة، وفعلاً انبث شباب الإخوان داخل قاعة جمعية التشريع والاقتصاد، كانت الخطة على وشك الإخفاق، لولا فضل الله، لأن رئيس الجلسة الأمريكي أجل إلقاء كلمته للجلسة التالية، ولكن الأمل تجدد عندما وقف أستاذنا الدكتور حلمي بهجت بدوي، وكان السكرتير العام للمؤتمر، وأراد أن يشكر السفارة الأمريكية؛ لأنها تفضلت بطبع رسائل المؤتمر، وما إن انتهى سيادته من كلمة الشكر التي ألقاها بالفرنسية، ثم بالعربية، حتى وقف أحد الشبان، وألقى كلمة وطنية رائعة اختتمها بالهتاف بسقوط ترومان وأمريكا، فارتجت القاعة بالهتافات، وفوجئ "مندوب الملك" وكان الاستاذ عدلي أندراوس، وكذلك وزير العدل وباقي المدعوين من رجال الهيئات السياسية الأجنبية، واندفعوا في ذعر ظاهر إلى الباب الخارجي، فخرجنا وراءهم والهتافات تدوي، وكأنها مظاهرة يتصدرها مندوب ملك مصر، ولم تمض بضع دقائق حتى كانت برقيات وكالات الأنباء تنقل للعالم احتجاج مؤتمر القانون الدولي على أمريكا ورئيسها ترومان.

كنت أتصور أن يتشرف "فاروق" بما أداه الإخوان في تلك الليلة، إذا كان مخلصاً حقاً لبلاده وقضية فلسطين، ولكن لعل تلك الحادثة كانت السبب الأول كما اتضح فيما بعد، لثورة فاروق وحاشيته على الإمام الشهيد حسن البنا وأتباعه.

قلت مرة للإمام الشهيد: "إنك تحارب في ثلاث جبهات"، فقال (رحمه الله): "أنا لا أهتم إلا بمحاربة الأفعى البريطانية، وقد وعدنا الله بالنصر"، وهذا الإلهام الصادق بل هذه الوطنية العميقة كانت تقض مضاجع دهاة الاستعمار، وقد سمعت ذلك بأذني من أكبر الأفاعي في إحدى ليالي فبراير من عام 1948م، فقد جمعتني حفلة عشاء بمنزل شخصية أجنبية كانت تسكن بشارع بولس حنا بالعجوزة، وهناك قابلت الجنرال كلايتون، وكان يومها يعتبر أخطر شخصية بريطانية في الشرق، وانتحى بي الرجل في شرفة المنزل، وأخذ يحدثني عن رأيه في زعماء مصر والعرب، وفجأة وجّه إليَّ سؤالاً أدهشني، قال: إذا أجريت انتخابات في مصر فمن ينجح؟ النحاس والوفد، أم النقراشي والحكومة، أم حسن البنا وأنصاره؟

لقد هفا القلب، قلب القلم إلى ذكرى الشهيد الإمام، وإن ذكرى فقيد الإسلام لتبعث الشجن الدفين، وتحرك الجرح الذي كان قد سكن، أما يوم مصرعه فقد تخيلت جنازته، وكيف منعوا القلوب أن تحزن، والدموع أن تذرف، فوثبت إلى ذهني هذه الأبيات القديمة:

ولو أني قدرت على القيام          بفرضك والحقوق والواجبات

ملأت الأرض من نظم القوافي          ونحت بها خلاف النائحات

ولكني أصبّر عنك نفسي          مخافة أن أعد من الجناة

عليك تحية الرحمن تترى          برحمات غواد رائحات

               

(*) دبلوماسي مصري، عمل بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية.

(1) الدعوة – السنة الرابعة – العدد (156)، 5 من جمادى الآخرة 1373هــــــ/ 9 من فبراير 1954م.