المجاهد اللواء صلاح شـادي

المستشار عبد الله العقيل

(1340 – 1409هـ / 1921 – 1989م)

مولده ونشأته

هو الـمجاهد الكـبير لواء شرطة، الأستاذ صلاح شادي، ولد في مدينة القاهرة سنة 1921م، ونشـأ في أسـرة ثريّة، وتابـع دراسته العسكرية، بعد أن أنهى مراحـل التعـليم الابتـدائـي والثانـوي، وتخرّج ضابـط شرطة، وكـان مثـال المسلم الملتزم بتعاليم دينه، يسعى بخدمـة الناس، ويقـدّم كـل ما يستطيـع في حل مشكلاتهم، وإصـلاح ذات البين بين الأفـراد والعوائـل في كـل مكـان يحـلّ فيـه، ولم تكـن رتبتـه الـعسكـرية لتميّـزه عـن الناس، بـل كـان كسائرهم، يتَّصف بالأخلاق العالية، والحياء، والنفس الطيّبة، واليد السخيّة.

التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين

التحق بجماعة الإخوان المسلمين سنة 1942م، وتربى على يد مرشدها الأول الإمام الشهيد حسن البنا، وظل يعمل في صفوفها وهو ضابط في الشرطة، يدعو الناس إلى الخير، ويؤلِّف بين قلوبهم، ويوقظ فيهم الهمم، ويستحثهم على العمل لدين الله، وابتغاء مرضاته.

وفي محنة سنة 1948م، لم يعتقل مع الإخوان الذين اعتقلوا، بل اكتفت السلطات بإبعاده عن القاهرة إلى أقاصي الصعيد، ضابطًا في مصنع السكر في «نجع حمادي»، ولم يمنعه ذلك من الاستمرار في الدعوة إلى الله، وفي سنة 1954م اعتقل إثر حادثة المنشية المفتعلة، فعُذِّب عذابًا شديدًا، فصبر ولم يهن عزمه، ولم تلن قناته، وحكم عليه بالإعدام بتهمة محاولة قلب نظام الحكم بالقوة، فأرسل خطابًا إلى زوجته يُسرِّي عنها، ويخفف من وقع الصدمة، ويبشِّرها برؤيا منامية رأى فيها أنه شعر وكأنه أُلقي به في بئر مظلمة، فامتدت إليه يد تنتشله، ثم علم بعد استيقاظه بأن حكم الإعدام قد خفف إلى المؤبد، فبكى وقال: أراد عبد الناصر أن يقتلني، وأراد الله (عز وجل) غير ذلك.

 

من أقواله

«إن طبيعة الإسلام تحمل قوته في ذاته، وانتشاره إنما ينطلق من معنى الربانية الذي يحييه في قلوب الناس ويركّزه في عقولهم.

وإن القوة في النظام الإسلامي مطلب مقصود لذاته، مهما تحقق للأمة استقلالها، وحتى لو أظلها حكم الإسلام، لظلَّت قوة الأمة العسكرية والتجمع لبذل المعروف، وإنكار المنكر بشرائطه الشرعية، واجبًا تنهض به وله همم المسلمين، ويسعى كل مسلم صادق لتحقيقه في نفسه، ودعوة الناس إليه، وحضّهم عليه، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولا يزال رسول الله «يشرح للناس معنى القوة الواردة في الآية: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60)، فيقول: «ألا إن القوة الرمي»، ويكررها ثلاث مرات، ثم لا يلبث أن يجعل الرمي عبادة فيقول: «من تعلم الرمي ثم تركه فقد عصاني».

وهكذا تصبح القوة العسكرية للأمة، وتنشئة النفس على مشاق الحياة، بالرحلات ونحوها، هدفًا يطلب لذاته، ويظل الفرد عاكفًا عليه لحفظ معنى الرجولة فيه، وعدم عصيان الله بنسيانه، وإن من خصائص دعوة الإخوان المسلمين أنها منذ نشأت، وقد عاصرت مختلف الهيئات والحكومات، لم تنحدر يومًا من الأيام إلى المزالق السياسية، ولم تتلون بالألوان الحزبية، ولم تتورط في المنافع الشخصية ولم تخضع لهيمنة عظيم من العظماء، أو سلطان وجيه من الوجهاء، ولم تعمل ساعة من نهار لحساب شخص أو هيئة أو حزب أو دولة».

معرفتي به

عرفته حين ذهبت للدراسة بمصر، حيث كان مع مجموعة من إخوانه: حسن عشماوي، وعبد القادر حلمي، ومنير الدلة، وصالح أبو رقيق وغيرهم يشكِّلون مجموعة من الإخوة المسؤولين الذين يتولون الاتصالات مع ضباط الثورة قبل قيامها، وبعد نجاحها بتكليف من المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي، ثم انقطعت الصلة بعد تخرجي ومغادرتي مصر، حيث شنَّ الطاغية عبد الناصر حملته المسعورة على الإخوان المسلمين، واعتقل الآلاف منهم، وعلى رأسهم قيادات الإخوان وفيهم الأخ صلاح شادي - مسؤول قسم الوحدات والبوليس.

وبعد هلاك الطاغية، ذهبت إلى مصر، والتقيت إخواني وأساتذتي بعد خروجهم من السجن، ومنهم الأخ صلاح شادي الذي تكررت لقاءاتي به في مكتب المرشد العام الثالث عمر التلمساني، ومنازل الإخوان بمصر، ثم أكرمنا الله بمجيئه إلى الكويت، حيث كثرت لقاءاتي به في منزلي ومنازل الإخوان، فوجدت فيه الأخ الصابر، والداعية العامل الذي لا يفتر عن الدعوة إلى الله حيثما وجد، وأينما كان، ولقد سعدت بقراءة ردوده على الوفدي اليساري عبد العظيم رمضان، الذي نشر حلقات في الجرائد الكويتية لتشويه فكرة جماعة الإخوان، مستدلاً بأقوال المحاكمات المزيّفة التي تولى كِبْرَها الضابط جمال سالم - عليه من الله ما يستحق - وقد قام الأخ المهندس مصطفى محمد الطحان، بطبع ردود الأخ اللواء صلاح شادي على عبد العظيم رمضان.

لقد كانت هذه الردود ردودًا علمية موثَّقة تستند إلى الحقائق والأدلة وبأسلوب عف نظيف بعيد عن المهاترات والأكاذيب وطمس الحقائق، وهو أسلوب اليساريين تجاه الإسلام ودعاته في كل عصر ومصر، فسلاحهم الكذب دائمًا، ولقد زوّدت الأخ صلاح شادي من مكتبتي الخاصة ببعض الوثائق النادرة كمجلات الإخوان الأسبوعية المجلدة من سنة 1946م، وكذا بجريدة الإخوان المسلمين اليومية كاملة (ميكروفيلم) التي حصلنا عليها من الجامعة الأمريكية في بيروت عن طريق إخواننا الدارسين هناك، فكانت خير عون له في ردوده على دعاة التشويه من حملة الأقلام وأدعياء التاريخ الحاقدين على الإسلام ودعاته.

وبهذا، فقد كان كتابه «صفحات من التاريخ» الذي هو مجموع الردود على عبد العظيم رمضان وثيقة مهمة تبرز الحقائق، وتكشف زيف الأباطيل، وتخرس ألسنة الكذابين، كما كانت مذكراته «حصاد العمر» تصويرًا لتجربة الحياة، كما أن كتابه عن الشهيدين: «حسن البنا وسيد قطب» قمة الوفاء لقادة الدعوة الإسلامية.

قالوا عنه

يقول عنه الأخ عبد العزيز حسنين:

«في يوم 6 رجب سنة 1409هـ الموافق 12/2/1989م سكت قلب طالما خفق خاشعًا لربه، ووقف لسان طالما نطق ذاكرًا لربه، وتعطلت حركة طالما سعت عبودية لربها، وجمد عقل طالما سبح فكرًا لربه، بل طويت صفحة طالما بيَّضها صاحبها بما سطره فيها من أقوال وأفعـال، وانتهى شريط حياة حفل بكثير من التطورات والتصرفات، وكأن صاحبـه كان يشعر أثنـاء دوران الشريط في تسجيله أنه سوف يعرض عليه أمام الله وأمام خلقه، فعمل وجهد حتى لا يقول مع من يقول: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } (الكهف: 49).

لله درك يا أخ صلاح في اليوم الذي استشهد فيه إمامك حسن البنا ترحل فيه، وفي الشهر الذي اغتيل فيه حبيبك تموت فيه، وكأنها أمنية عندك ورجاء منك أن تلحق به وأنت على عهده، فيتقبل الله منك، فتكون الوفاة في يومه وشهره، هكذا كان شأن الصدق مع المحبين.

لله درك يا أستاذنا الجليل، فقد قالوا قديمًا: «إن ترسُّم الخطى يقضي لا محالة بتماثل النتائج، وإن شبيه الشيء منجذب إليه، ويحشر المرء مع من أحب...»

لقد كان مدرسة في رحلته الطويلة في الحياة وبين الأحياء، كما كان موسوعة في سجنه وراء القضبان، فقد كنا نرى فيه حزمًا في أناة، وبذلاً في اتزان، وعلمًا في حلم، وسلوكًا في اعتدال، وكانت الصفة التي امتاز بها بين أحبابه هي الحياء، وهي التي كانت الطابع الغالب عليه في حياته مع ربه وأهله وأبناء جلدته وبني جنسه على اختلاف أنماطهم واتجاهاتهم».

ويقول الأستاذ أحمد السيوفي:

«كان صلاح شادي علمًا من أعلام الحركة الإسلامية البارزين، ورائدًا من روادها الأفذاذ، لقد كان في شجاعته صلبًا كالجبل الأشم، وكان يمتلك أعصابًا هادئة، فلا يضايقه شيء، ولا يتبرم من شيء، ويصبر على أي شيء، ولا يتسرب اليأس إلى نفسه.

لقد جرت عدة محاولات لقتله في العهد الملكي، ففي صحراء حلوان كانت هناك محاولة لقتله من رجل يهودي وفتاتين يهوديتين أيضًا.. فبعد أن رفع اليهودي مسدسه في وجه صلاح شادي، استطاع شادي أن يضم الفتاتين على بعضهما فينطلق الرصاص إلى الفتاتين، ويخرج هو مسدسه، فيطلقه على اليهودي.

أما المرة الثانية: فكانت في نفق شبرا بالقاهرة، فقد أراد رجال الملك السابق قتله بوساطة الحرس الحديدي، فأطلقوا عليه الرصاص، لتستقر الطلقة في المصحف الذي يحمله شادي، وما زال المصحف موجودًا حتى الآن بآثار الرصاص، يشهد على المجرمين، ويفضح جرائمهم وآثامهم.

أما في السجن، فعندما أصيب بغيبوبة، سمعوا معها طقطقة عظام الجمجمة، حتى ظنوا أنه قد فارق الحياة، على إثر جولة من جولات التعذيب التي تعرّض لها صلاح شادي، حيث شارك في تعذيبه كل من: علي صبري، وزكريا محيي الدين، وكمال رفعت، بتعليمات خاصة من جمال عبد الناصر الذي كان يشعر بقصر قامته الطويلة أمام صلاح شادي الذي رفض استمالته وكل إغراءاته العديدة».

وقال عنه المهندس مصطفى الطحان:

«لقد عاش الأستاذ الكبير صلاح شادي (رحمه الله) حياته كلها في ركب جماعة الإخوان المسلمين، فكرًا، وشعورًا، وسلوكًا.. وعايش الدعوة من بدايتها الأولى، وكان هو الضابط الشاب المترف الثري، من أطوع التلاميذ النجباء لأستاذه الشهيد الإمام حسن البنا.. كان قبل تعرّفه على هذه الدعوة وصاحبها كأي شاب عادي.. لم يكن محافظًا على دينه بالشكل الصحيح، وإن نشأ في أسرة تفرض على أبنائها الصلاة كنوع من التقاليد الموروثة.. ظن أنه ملك الدنيا بعد أن حقق طموحه، وأصبح ضابط بوليس، وهو ما كان يرنو إليه، ولكن أحداث تلك الفترة من التاريخ القريب جعلته في حيرة.. كان يسمع من رؤسائه الضباط الكبار، الشيء الكثير عن جماعة الإخوان المسلمين، من أنهم إرهابيون، ومناهضون للحكومة، وللملك، وينبغي معاملة شبابها بحذر بالغ... إلخ

ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، فحين أمره أحد رؤسائه بالتحفظ على أحد كبار الإخوان المقبوض عليهم لتوصيله للمركز، رأى آيات الصمود والثقة بالنفس، والصدق والإيمان يتحلى بها هذا الرجل، فزاده عجبًا وحبًا له ولجماعته، وعندما دعاه صديقه صالح أبو رقيق لحضور درس من دروس الثلاثاء للأستاذ حسن البنا، رفض في البداية قائلاً: لا أريد سماع المزيد من الأحاديث حول نواقض الوضوء، أو فرائض الصلاة، ولكنه إزاء إصرار صديقه، ذهب وسمع الرجل يتحدث لا عن نواقض الوضوء، ولا عن فرائض الزكاة، وإنما عن جوهر الإسلام، هذا الدين الذي يحل مشاكل العصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن مشاكل النفوس التي يعانيها الشباب، وما هي إلا أيام قلائل ويبايع الضابط الشاب الإمام وتكون البداية، ويكون الصراع، خاصة وهو في مكان حساس، ويخوض (رحمه الله) معارك عدة ضد النظام الفاسد، وضد الإنجليز».

ويقول عنه الأستاذ عبد الله الطنطاوي:

«التقيته مرتين، كانت الثانية قبيل وفاته (رحمه الله) وترك اللقاءان في نفسي آثارًا عميقة لا يمحوها الزمان.. رأيت في الأستاذ العظيم صلاح شادي ما لم أره في كثير ممن عرفت من الرجال.. رأيت أخلاقًا عالية تمشي على قدمين، متجسّدة في شخصه الكريم.. رأيت التواضع، والدماثة، والحياء، والرجولة، والوعي، والإخلاص، والحركة، على كبر سنه (رحمه الله)، يناقش بهدوء، ويحترم محاوره، حتى لو كان فيه شيء غير قليل من الادعاء والسّفه.. يغضّ طرفه، كما يغضّ من صوته الرخيم، وينصت ولا يقاطع محاوره أو محدّثه، ويبادر للسلام على إخوانه عندما يعلم أنهم في القاهرة، ويعرض خدماته عليهم في صدق وأريحية.

سألته، وأنا أودّعه في شيراتون المطار: هل طبع الجزء الثالث من كتاب الأستاذ محمود عبد الحليم: «الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ»؟ قال: نعم، وسوف آتيك بنسختي الخاصة بعد قليل.

قلت: أستغفر الله.. سوف أذهب إلى المكتبات لشراء بعض الكتب، ومنها هذا الكتاب القيّم.

قال مودّعًا: أعود إليك بعد ساعة.

وعاد بعد ساعة في حرّ آب (أغسطس) ومعه الكتاب.

لن أنسى كلماته، ونصحه، وابتسامته الآسرة.. إنه قائد ومعلم بكل ما تعنيه هاتان الكلمتان.. وهذه الكلمات لا تفيه بعض حقه على إخوانه وأصدقائه وتلاميذه.. سيرته تحتاج إلى مجلد ضخم، فهو الرجل إن عز الرجال، وهو الرجل الذي أعطى ولم يأخذ.. فمن طبعه البذل والعطاء...».

وفاته

توفي اللواء شرطة صلاح شادي يوم 12/2/1989م وهو اليوم الذي استشهد فيه أستاذه الإمام حسن البنا قبل أربعين عامًا بالتمام والكمال، فقد كان استشهاد البنا يوم 12/2/1949م.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 855