الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة

( 1336- 1417ه ) / ( 1917- 1997م)

clip_image002_d80b6.jpg

توطئة:

يعدّ الشيخ العلامة المحدث أبو زاهد عبد الفتاح أبو غدة من خيرة أعلام أهل السنة والجماعة في سورية في العصر الحديث، ومن أبرز رجالات الدعوة الإسلامية الراشدة، غُرس حبُّ الكمال في طبعه في كلّ شؤون حياته، فكان يحبُّ الترقي من الحسن إلى الأحسن، وبخاصة ما يلزم لرفعة المسلمين من سلوك، وآداب، وتجارة، وصناعة، وعلم، ومعرفة، حتى يكون المسلم أولاً في كل شيء.

فكان – رحمه الله – مجمع الفضائل، بلغ من الكرم أقصى الغايات، يحرص على إكرام ضيفه بما يستطيع، ويبذل في ذلك جهده وغايته.

وكان حليماً، يعفو، ويصفح عمن أساء إليه، وكان أديباً خلوقاً عفيفاً مترفعاً عن الدنايا وسفاسف الأمور، لا يؤذي أحداً بكلامه، بل يحترمه، ويثني عليه، ويختار في ذلك الألفاظ الراقية.

وكان عاقلاً أريباً لا تخرج الكلمة منه إلا بوزن وفي موضعها المناسب، ولا يقوم بأمر إلا ويزنه بعقله، وطالما أوصى أولاده بقوله: (استعمل عقلك في كل ما تقوم به).

وكان ظريفاً، خفيف الروح، يمازح جلساءه بالقدر المناسب، ويضفي على مجلسه العلمي والطبعي روح اللطافة والظرافة، بما يناسب مقام المجلس، ويخفف من وطأة الوقار، لكن في ظل التأدب والاحترام.

وكان ذواقة جداً في ملبسه، ومشربه، ومسكنه، وكتبه ترتيباً وكتابة وتأليفاً، حتى في صفه لحذائه وتنعله، وهكذا تراه في كل حركة وسكنة عاقلاً ذواقاً .

وكان عفيف اللسان لا يشتم أحداً، ويشهد له في ذلك أولاده وأحبابه، وكان لا يغضب إلا إذا رأى أو سمع فحشاً ومنكراً، فغضبه دائماً لله.

وكان عفيف النفس لا يطلب من مسؤول أمراً لذاته، وإنما لأحبابه وإخوانه.

وكان صبوراً على الطاعة والابتلاء، حريصاً على الصلاة حرصاً شديداً، مؤدياً لها في أول وقتها في الحضر والسفر، والتعب والمرض، غارساً ذلك في أولاده وأحفاده، فإذا كان نائماً أو متعباً ونبه إلى الصلاة، انتفض، وقام مسرعاً، وطالما ذكر قصة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في وفاته، وقوله: ( لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة).

وكان -رحمه الله تعالى- خدناً للقرآن، له ورد صباحي يومي، لا يدعه إلا مضطراً، مع إكثاره من الأذكار والأوراد، فلا تجده جالساً بدون عمل علمي من تأليف وتحقيق أو تعليم أو مذاكرة أو إفتاء، إلا وجدته يسبح ويحمد الله، ويهلل ويكبر.

وكان رقيق القلب، سريع الدمعة، كثير العبرة، يفيض دمعه عند قراءة القرآن وذكر الله، وقصص السلف والصالحين، وفي المواقف الروحانية، وعلى مآسي المسلمين وآلامهم، وعندما يمدح، ومن شاهد حفل تكريمه عند الشيخ عبد المقصود خوجة المسمى ( الاثنينية) رآه كيف قطع الحفل كله بالبكاء.

وكان يألم، ويحترق على مآسي هذه الأمة وأحوالها، وكم أرق الليالي حزناً وتفكيراً في أحوال المسلمين.

وكان جلداً على العلم قراءة ومطالعة وتأليفاً لا يغادره القلم في حله وسفره وصحته ومرضه، وقد ألف وأنهى بعض كتبه في أسفاره الكثيرة، كما دون في مقدمات كتبه، وقبل دخوله المشفى بيوم كان – وهو يعارك الآلام – يضيف في كتابه الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وأساليبه في التعليم، كما كان يكثر السؤال وهو في المشفى عن كتاب ( لسان الميزان)، كما أنه كتب مقدمة لسان الميزان قبل عشرين يوماً من وفاته.

وكان قليل النوم يستكثر ساعات نومه مع قلتها، وكان في شبابه يواصل اليوم واليومين. وهذا يدل على حرصه على الوقت أكثر من حرصه على المال، ويدل أيضاً على نهمه العلمي الشديد.

وكان لا يأمر بأمر إلا ويأتيه، ولا ينهى عن شيء إلا ويجتنبه.

وكان – رحمه الله – ذكياً ألمعياً ذا حافظة قوية، وذهن متقد مع عمل بالعلم، وعبادة وتقوى وصلاح وورع، وتوضع جم لطلابه وتلاميذه، وشيوخه وأساتذته، فلا يرى نفسه في جنبهم شيئاً يذكر.

ولما مدحه شاعر طيبة محمد ضياء الدين الصابوني بقوله:

أبو حنيفة في رأي وفي جدلٍ     يسمو بهمته لأرفع الرتبِ

عقّب على ذلك بقوله: ( وكذلك الذين تكلموا، وتفضلوا بهذه الكلمات عني، فقد أغدقوا، ولكنهم أوسعوا، وأرهقوا، حتى دخلت مع أبي حنيفة رضي الله عنه بالمواجهة كما قال أخي الشاعر ضياء الدين الصابوني، فهذا شيء لا يبلغ من قدري أن أكون ذرة رمل أو تراب في جنب أبي حنيفة، من أبو حنيفة ؟ أبو حنيفة رحمة من رحمات الله عزّ وجل أهداها الله سبحانه لهذه الأمة كما أهدى الإمام مالكاً، والأمام أحمد، والإمام الشافعي، والإمام ابن جرير.. فهؤلاء الأئمة ..فإن صلحت أن أكون رملة صغيرة في جنب هؤلاء فهذا وسامٌ عظيم  وفضل كريم، لا أستطيع الشكر عليه، فأعتذر عن مثل هذه الكلمات التي وجهت في جنب الحديث عني، فإنها لا تستطيع نفسي سماعها ولا قبولها، وإن صدرت من أخ محب صادق في نية حسنة، ولكن الحق أحقّ أن يتبع..).

وكانت له نظرة في الرجال وفراسة، فما رأيته وصف شخصاً بوصف أو مدح أو قدح إلا وجدته فيه ولو بعد حين.

وكذلك نظرته في الأمور تجدها مسددة، ولو بعد حين، وظني أنه مسدد بتقواه وعقله، كما كان يصف الإمام الشهيد حسن البنا – رحم الله الجميع. 

فهو – رحمه الله – مجمع الفضائل، ويصدق عليه قول القائل:

وتُوجزُ في قارورة العطر روضةٌ     ويُوجزُ في كأس الرحيق كرومُ

ونحن في هذه الرسالة المتواضعة سوف نقف عند سيرة حياته العطرة، وسوف نتحدث عن كتبه ومؤلفاته النافعة، وسوف نتناول بعض صفاته وأخلاقه الحميدة، ومنهجه في التأليف...ثم نتوقف عند ثناء العلماء عليه ورثاء الشعراء له، وما أظن أني قد وفيت بحق الحقّ، قطرة من بحر علمه وأخلاقه وفكره، وقديماً قالوا: مالا يُدرك كلّه، لا يترك جلّه.

مولده، ونشأته:

clip_image004_522e9.jpg

ولد الأستاذ الشيخ المحدث أبو زاهد وأبو الفتوح عبد الفتاح بن محمد بن بشير بن حسن أبو غدة -يرحمه الله تعالى- في مدينة حلب الشهباء شمالي سورية، في 17 رجب 1335/ الموافق 9 مايو 1917 في بيت ستر ودين، وكان هو الأخ الثالث والأصغر بين إخوته الذكور، فيما تكبره أخته الحاجة شريفة، وتصغره أخته الحاجة نعيمة.

وكان والده محمد - يرحمه الله - رجلاً مشهوراً بين معارفه بالتقوى والصلاح والمواظبة على الذكر وقراءة القرآن، وكان يعمل في تجارة المنسوجات التي ورثها عن أبيه، حيث كان الجد بشير- يرحمه الله تعالى- من تجار المنسوجات في حلب، والقائمين على صناعتها بالطريقة القديمة، أما والدة الشيخ فهي السيدة فاطمة مزكتلي المتوفاة سنة 1376-1956.

وينتهي نسب الشيخ -رحمه الله تعالى- من جهة والده إلى الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان لدى أسرة الشيخ شجرة تحفظ هذا النسب، وتثبته أما اسم أبو غدة فهو حديث نسبياً، ومن فروع العائلة فرعان يحملان اسم صباغ، ومقصود.

وقد عمل الشيخ في حداثته بالنسيج مع والده وجده -رحمهم الله-، ثم عمل أجيراً مع الحاج حسن صباغ في سوق العبي، وكان من زملائه الحاج عبد الرزاق قناعة، ولا تزال الدكان التي عمل بها موجودة يعمل فيها آل أبو زيد أصهار الشيخ عبد الباسط أبو النصر.

عائلته:

clip_image006_a631b.jpg

كان والد الشيخ وجده - رحمهما الله- يعملان – كما أسلفنا في النسيج وصباغته – وقد تزوج من السيدة فاطمة مزكتلي، وقد توفي جد الشيخ بشير عام 1355/1935 عن عمر يناهز 95 سنة، ويقال أنه لم يسقط له سنّ، فيما توفي والد الشيخ رحمهم الله جميعا عام 1360/1940 عن 63 عاماً، وللشيخ أخوان من الذكور وأختان من الإناث، هم:

1-عبد الكريم أبو غدة ( 1322–1 شعبان 1402/1905-24/5/1982):      ومن أولاده محمد سعيد -رحمه الله-، وهو من أوائل الصناعيين بحلب.

- والدكتور عبد الستار: الحائز على شهادة الدكتوراه في الفقه من الأزهر، والذي عمل مع الأستاذ مصطفى الزرقا في موسوعة الفقه الإسلامي في الكويت، ويعمل مستشاراً شرعياً لكثير من المصارف الإسلامية، وعلى رأسها شركة دلة في جدة، وكان الشيخ قد وجهه لطلب العلم الشرعي، وأدخله في نشأته دار الحفاظ في جامع العثمانية.

- وعبد الهادي: الذي توفي في 25 محرم 1384 المصادف 5/6/1964 في حلب بسرطان الدم وأهداه الشيخ كتابه (رسالة المسترشدين).

2-عبد الغني أبو غدة ( 1328/-28 ذي الحجة 1393/1907- 22/1/1974م):

-ومن أولاده أحمد تاجر العقارات في حلب.

-والشيخ الدكتور حسن أبو غدة الأستاذ في جامعة الملك سعود.

-وله من الأحفاد الشيخ الناشئ معن حسين نعناع- وفقه الله- ويعمل أمينا للمكتبة في المدرسة الكلتاوية في حلب، والتي يديرها الشيخ محمود الحوت.

3-السيدة شريفة أبو غدة: زوجة السيد محمد سالم بيرقدار المتوفى سنة 1398/1978 عن 73 عاماً، وقد ولدت – أطال الله في عمرها ومتعها بالعافية – عام 1332/1914 ولها من الذكور الأستاذ عبد المعطي رجل الأعمال المعروف في مدينة حلب، والمولود فيها عام 1365/1944.

4-السيدة نعيمة أبو غدة: زوجة السيد علي خياطة، والمولودة عام 1920: ولها من الأولاد محمود، ويعمل في صناعة البلاستيك، وسعد الدين، ومحمد، ولها من الأحفاد غياث طالب العلم الشرعي في المدرسة الكلتاوية في حلب.

زواج الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:

تزوج الشيخ أبو زاهد من السيدة الفاضلة (فاطمة دلال الهاشمي) أخت صديقه الدكتور محمد علي الهاشمي، ووالدها المرحوم عبد اللطيف هاشمي، ووالدتها المرحومة السيدة نبيهة كبه وار، فكانت له نعم الزوجة الصالحة، نهضت عنه بعبئ البيت، وتربية الأولاد؛ ليتفرغ للدعوة، والعلم الشرعي، ووقفتْ بجانبه في الشدائد، والمحن، والسجن، والغربة، والأمراض، وكانت خير زوجة وأنيس له .

وللشيخ ثلاثة أبناء، وثمان بنات، وهم على التوالي:

1-محمد زاهد (محرم 1372=25/9/1952): أسماه الشيخ على اسم والده وأستاذه، وقد حاز شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة الرياض، ثم الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة تورنتو حيثُ يقيمُ الآن في كندا، وله بعض المشاركات في العلم الشرعي والأدب.

وهو متزوج من السيدة نجوى ناصر آغا، ولهما أربعة أبناء أكبرهم عبد الفتاح.

2-السيدة ميمونة: وهي متزوجة من المهندس فاروق أبو طوق المولود في حماة، والذي يعمل مهندساً في مكة المكرمة، ولهما ولد واحد من الذكور هو المهندس أسامة.

3-السيدة عائشة: وهي متزوجة من المهندس صلاح الدين مراد آغا المولود في حماة، والذي يقيم الآن في فانكوفر بكندا، ولهما أربعة أولاد من الذكور، وتحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية.

4-الدكتور أيمن: المتخصص بأمراض القلب، والذي يعمل طبيباً في مدينة ريجاينا إلى جانب عمله في إدارة المدرسة الإسلامية، وهو متزوج من السيدة منى عبد الحسيب الياسين المولودة في حماة، وله من الأولاد صبيان، وأربع بنات.

5-السيدة فاطمة: ولها أربعة أولاد من الدكتور أحمد البراء الأميري، وهو نجل الأديب الشاعر الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله. وتحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية.

6-السيدة هالة: المتزوجة من المهندس عبد الله المصري الذي يعمل في ميدان المقاولات بالمملكة العربية السعودية، وتحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية.

7-السيدة حسناء: وهي متزوجة من الدكتور بشار أبو طوق المولود في حماة، والذي يعمل جراح أطفال في مستشفى الأطفال بالرياض، ولهما أربعة أولاد من الذكور.

8-السيدة لبابة: وهي متزوجة من المهندس عمر عبد الجليل أخرس المولود في حلب، والذي يقيم الآن في تورنتو بكندا، وتحمل شهادة الماجستير في أصول الدين.

9-الشيخ سلمان: وهو متزوج من السيدة نهى غازي شبارق حفيدة السيد عبد الجليل شبارق أحد أحباء الشيخ القدامى في حلب، ولهما ولدان، وبنت، ويحمل الشيخ سلمان شهادة الماجستير في الحديث، ويعمل باحثاً في مجمع الفقه الإسلامي في جدة.

10-السيدة أمامة: وهي متزوجة من الدكتور عبد الله أبو طوق المولود في حماة، والذي يقيم في تقويم الأسنان بجدة، وتحمل شهادة البكالوريوس من كلية الدعوة بجامعة الإمام.

11-السيدة جمانة: وهي متزوجة من المهندس محمد ياسر عبد القادر كعدان المولود في حلب، والذي يعمل مهندساً كيميائياً في مجال تحلية المياه في تورنتو بكندا.

ولزوجة الشيخ أخوان هما:

1-الأديب الداعية الدكتور محمد علي الهاشمي: أستاذ الأدب العربي في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، والكاتب، والأديب المعروف.

2-الدكتور محمد عادل الهاشمي: أستاذ الأدب الإسلامي في جامعة عجمان، وصاحب المؤلفات المعروفة في هذا المجال.

دراسة الشيخ، ومراحل تعليمه:

شعر جده أن الشيخ سيكون له شأن كبير، ولمس ذكاءه، وتطلعه لطلب العلم، فألحق الشيخ بالمدرسة العربية الإسلامية في حلب، حيثُ درس فيها أربع سنوات، ثم التحق من تلقاء نفسه سنة 1356/1936 بالمدرسة الخسروية التي بناها خسرو باشا أحد ولاة حلب أيام الدولة العثمانية، والتي تعرف الآن باسم الثانوية الشرعية، وتخرج منها سنة 1362/ 1942، ومما يجدر ذكره أن الشيخ عندما تقدم للمدرسة كانت سنه تزيد سنة على السن القانونية، وكان زوج أخته السيد محمد سالم بيرقدار على علاقة طيبة بالأستاذ مجد الدين كيخيا مدير أوقاف حلب آنذاك، فحدثه في أمره، فاستثناه من شرط السنّ.

شيوخه، وأساتذته:

وكان للشيخ عبد الفتاح أبي غدة العديد من الشيوخ الأفاضل الذين تلقى العلم على أياديهم الطاهرة، وقد وصل عددهم إلى / 200 /، وأهم شيوخه في مدينة حلب، هم:

1-الشيخ راغب الطباخ (1293-1370/1877-1951): الذي كان عالماً في الحديث والتاريخ، ألف، ونشر كتباً عديدة من أبرزها "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" في سبعة مجلدات.

2-الشيخ أحمد بن محمد الزرقا (1285-1357/1869-1937): العالم ابن العالم، الأصولي الفقيه الحنفي المتفنن، والد فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا -رحمهما الله -.

3-لشيخ عيسى البيانوني: (1290-28 ذي الحجة 1362/1874-26/12/1942): العالم الفقيه الشافعي، كان مسجده يعرف بمسجد أبي ذر - وهو في كتب التاريخ دار سبط ابن العجمي - ويقع في الجبيلة بالقرب من بيت والد الشيخ، فكان الشيخ يتردد عليه قبل طلبه العلم وبعده، وقد تركت تقواه وصلاحه أثرا لا يمحى في نفس الشيخ، وكان ولده الشيخ أحمد المتوفى سنة 1394/1974 من أقرب الأصدقاء للشيخ وألف معه كتاباً أسمياه "قبسات من نور النبوة"، أما أحفاد الشيخ عيسى الأستاذ علي صدر الدين البيانوني، والشيخ الدكتور أبي الفتح البيانوني، والشيخ أبي النصر البيانوني، فقد تتلمذوا على الشيخ في كلية الشريعة بدمشق، وفي الحركة الإسلامية في سورية.

4-الشيخ محمد الحكيم (1323-1400/1904-1980): الفقيه الحنفي، ومفتي الحنفية في حلب.

5-الشيخ أسعد عبجي (1305-1392/1895-1972): الفقيه الشافعي، ومفتي الشافعية بحلب.

6-الشيخ أحمد بن محمد الكردي (1299-1377/1885-1957): العلامة الفقيه الحنفي البارز

7-الشيخ محمد نجيب سراج الدين (1292-1373/1876-1954): العلامة الرباني، الفقيه، المفسر، الواعظ، والد الشيخ عبد الله سراج الدين، زميل الشيخ، والعالم المرموق -رحمه الله تعالى-.

8-الشيخ مصطفى الزرقا (1321-19 ربيع الأول 1420/1901-3/7/1999): ابن العلامة الشيخ أحمد الزرقا، والفقيه الأصولي المتفنن، فقيه عصره، ولا سيما في المعاملات والفقه المقارن، وهو إلى جانب ذلك ضليع باللغة العربية والأدب، تتلمذ على يديه ألوف من المشايخ والحقوقيين خلال تدريسه في جامعة دمشق 1944-1966، ولا يزال كتابه المدخل الفقهي العام مرجعاً أساساً في فهم علم الفقه ودراسته.

·       دراسته في الأزهر:

وبعد تخرج الشيخ عبد الفتاح أبي غدة من الثانوية الشرعية، رحل في طلب العلم إلى مصر عام 1364/1944م، للدراسة في الأزهر الشريف، فالتحق بكلية الشريعة، ودرس فيها على يد نخبة من كبار علمائها في القترة ما بين 1364-1368/ 1944-1948، ثم تابع دراسته فتخصص في علم النفس أصول التدريس في كلية اللغة العربية في الأزهر أيضاً، وحاز على شهادتها سنة 1370/1950م.

شيوخه في الأزهر:

1-الشيخ محمد أبو زهرة (1316-1395/1898-1974): العلامة، الأصولي، الفقيه، كتب أكثر من أربعين كتاباً في أصول الفقه وتاريخه ومقارنته، أثنى ثناء عاطراً على الشيخ عبد الفتاح في رسائله إليه.

2-الشيخ محمد الخضر حسين (1292-1377/1876-1958): علامة التفسير والفقه في زمانه لاسيما الفقه المالكي والفقه المقارن، انتهت إليه إمامة الأزهر.

3-الشيخ يوسف الدجوي (1310-1383/1893-1963): الفقيه العلامة.

4-الشيخ عبد المجيد دراز: الفقيه العلامة من مصر.

5-الشيخ أحمد محمد شاكر (1310-1383/1893-1963): المحدث العلامة.

6-الشيخ محمود بن محمد شلتوت (1310-1383/1893-1963): المفسر، والفقيه، وشيخ الجامع الأزهر.

7-الشيخ مصطفى صبري (1286-1373/1869-1954): شيخ الخلافة العثمانية سابقاً، هاجر إلى مصر هرباً من اضطهاد أتاتورك، وعاش عيشة كفاف وكرامة، كان عالماً بالحديث، والأصول، والفقه الحنفي، والفقه المقارن، والفلسفة والسياسة، من أبرز كتبه.

8-الشيخ عبد الحليم محمود (1328-1398/1907-1978): المفسر، الأصولي، الفقيه، المتصوف، الأديب، انتهت إليه إمامة الأزهر.

9-الشيخ عيسى منون (1306- 4 جمادى الثانية 1376/1889-1956): الفقيه الأصولي الشافعي، ولد بفلسطين، وتوفي بالقاهرة.

10-الشيخ زاهد الكوثري (1296-1371/1879-1952): أمين المشيخة في الدولة العثمانية هاجر إلى مصر هرباً من اضطهاد أتاتورك، وعاش عيشة كفاف وكرامة، كان عالماً بالحديث، والأصول، والفقه الحنفي، والفقه المقارن، ورث عنه الشيخ عبد الفتاح معرفته وولعه بالكتب والمخطوطات وأماكنها، حقق، ونشر كثيراً من الكتب والمخطوطات.

11-الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الساعاتي (1301-1375/1885-1958): والد الإمام حسن البنا، كان عالماً بالحديث، والفقه الحنبلي.

12-الشيخ عبد الوهاب خلاف (1305-1375/1888-1956): المحدث، الأصولي، الفقيه، الفرائضي ألف، ونشر كثيراً من الكتب، من أبرزها: أصول الفقه.

زملاؤه في الدراسة في مصر:

درس مع الشيخ في مصر لفيف مبارك من علماء الأمة الإسلامية نذكر فيما يلي بعضاً منهم:

1-الشيخ محمد الحامد: العالم التقي الصالح توفي بحماة في سورية

2-الشيخ محمد علي المراد: العالم الفقيه ولد بحماة في سورية توفي بالمدينة المنورة

3-الشيخ محمد علي مشعل: ولد بحمص في سورية ويعيش بجدة في المملكة العربية السعودية.

4-الشيخ محمود صبحي عبد السلام: من ليبيا، وكان أول أمين عام لجمعية الدعوة الإسلامية العالمية عندما تأسست عام 1972 في ليبيا.

5-الشيخ د. محمد فوزي فيض الله: ولد بحلب، ودرس في كليات الشريعة بجامعتي دمشق والكويت.

6-الشيخ سيد سابق: الفقيه المعروف صاحب كتاب فقه السنة، ولد وتوفي بمصر.

وكان الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بشخصيته القوية المتميزة، شخصية العالم المسلم العامل المجاهد، فهو واسع العلم، رحب الاطلاع، يعيش قضايا أمته وعصره، يضع هموم المسلمين نصب عينيه، مدركاً كل الأبعاد التي تحيط بهم وهو مع اتصافه بكل ما تقتضيه شخصيته العلمية، من رزانة وهيبة ووقار، حلو الحديث، رشيق العبارة، قريب إلى قلوب جلسائه، يأسرهم بحسن محاضرته، وطيب حديثه، وبُعد غوره، مع حضور بديهة، وحسن جواب، فلا غرو بعد ذلك أن تلتقي عليه القلوب، وتتعلق به النفوس، وأن يكون موضوع الحب والتقدير والثقة لدى جميع من خالطه من إخوانه وأحبابه، وهو إلى جانب ذلك كان بعيداً عن الغلو والانفعال، يزن الأمور بميزانها الشرعي الدقيق، وقد أخذ بذلك نفسه وتلامذته، ولا أدل على ذلك، من أن يستشهد الإنسان بموقف الشيخ رحمه الله تعالى، من العالم الجليل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد كان الشيخ يدرس، ويعلم في بيئة فيها كثير من التحفظ تجاه الإمام ابن تيمية، وإذا أضفنا إلى ذلك تتلمذ الشيخ على الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله، وكان هو الآخر شديد الازورار عن الإمام ابن تيمية، إلا أن كل هذا وذاك لم يمنعا الشيخ عبدالفتاح أن ينصف شيخ الإسلام، وأن يذكره في مجالس علمه في مدينة حلب في الخمسينيات والستينيات، بما هو أهل له، وأن يغرس في نفوس أجيال الشباب من الدعاة والعالمين حبه واحترامه، على أنه العالم المجاهد وأن يفعل الشيء نفسه بالنسبة لتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله غير عابئ بما يجره ذلك من مخالفة من الوسط العلمي، أو مخالفة شيخ له، يحبه ويجله ويرى في ابن تيمية ما لا يراه.

وعلى الصعيد الشخصي كان الشيخ مثالاً لا يجارى في الأخلاق والذوق والكياسة، تأثر به كل من احتك به، كان رفيقا شفيقا يفضل التلميح على التصريح، متأسياً بأخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان شامة بين العلماء، ويحب للمسلم أن يكون شامة بين الناس اتباعاً لهدي المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، وكان يحبّ اللباس المتوسط النظيف البعيد عن المغالاة، ويحرص على نظافة ملابسه وحذائه، لا يفارقه الطيب في كل أحيانه يشتريه من حلب من محل كرزة، وفتوح، أو ينفحه به محبه الحاج عبد الغني بوادقجي، ومن قرأ كتابه (من أدب الإسلام) أدرك الذوق الرفيع والخلق السامق الذي تمتع به رحمه الله.

كان خط الشيخ مثالاً في الإتقان يعجب به كل من رآه، وكان حريصًا على انتقاء أٌقلامه من أجود الأقلام ليبقى خطه متسقاً منسجماً، وكان يستعمل في أول أمره قلم حبر من صنع ألماني Tropen، ثم استعمل قلم باركر، ثم استعمل في السنين الأخيرة من حياته قلم الحبر الجاهز، وكان -رحمه الله- يرغب في الحبر السائل، ويعرض عن الحبر الجاف، ويستعمل قلم الرصاص للتعليقات والملاحظات السانحة، حيثُ كان لا يفارقه قلم صغير وأوراق يقيد بها الخواطر والأفكار.

عمله في التدريس بسورية:

بعد أن أكمل الشيخ دراسته في مصر، عاد إلى سورية، وتقدم سنة1371/1951م لمسابقة اختيار مدرسي التربية الإسلامية لدى وزارة المعارف، فكان الناجح الأول فيها، ودرّس مادة التربية الإسلامية أحد عشر عاماً في أبرز ثانويات حلب، مثل: مدرسة هنانو، وكان زميله فيها عبد الوهاب الصابوني، وثانوية المأمون، والصنائع، كما شارك في تأليف الكتب المدرسية المقررة لهذه المادة، ودرّس إلى جانب ذلك في المدرسة الشعبانية، وهي مدرسة شرعية أهلية متخصصة بتخريج الأئمة والخطباء، ودرّس في الثانوية الشرعية "الخسروية" التي تخرج فيها.

- ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ودرّس فيها لمدة ثلاث سنوات "أصول الفقه" و"الفقه الحنفي" و"الفقه المقارن بين المذاهب".

- وقام بعد ذلك بإدارة موسوعة "معجم فقه المحلى لابن حزم"، وكان قد سبقه للعمل فيه بعض الزملاء فأتمه، وأنهى خدمته، وطبعته جامعة دمشق في ضمن مطبوعاتها في مجلدين كبيرين..

نشاطه الدعوي في سورية:

انخرط الشيخ أبو غدة في العمل الدعوي الحركي منذ شبابه المبكر، حيث كان من مؤسسي دار الأرقم في حلب، إلى جانب القاضي عبد الوهاب ألتونجي، والمحامي عبد القادر السبسي، وعمر بهاء الدين الأميري..

وفي مصر تتلمذ على يدي الإمام حسن البنا، وأعجب بفكره ودعوته، فدخل في جماعة الإخوان المسلمين، وترقى في مناصبها، من نصير إلى منتسب إلى عامل، ثم نقيب، وبعدها تحمل أعباء المسؤولية فكان من الدعاة المعدودين في مركز حلب، ثم أصبح نائباً للمراقب العام الشيخ مصطفى السباعي، وبعد أن عاد الشيخ إلى بلده سورية، حمل على عاتقه عبء الدعوة إلى الله تعالى، فكان له نشاطه الدعوي، وتعلق الإخوان بدورهم بالشيخ -رحمه الله تعالى-، ووثقوا به، منذ عودته إلى سورية من مصر، كان الشيخ إلى جانب عمله في التدريس، نشيطاً في الدعوة إلى الله، فنال ثقة العامة والخاصة، واحترام أقرانه، لورعه، وتقواه، وعلمه، ورجاحة عقله وحكمته، فكان مرشداً وسنداً وموئلاً،. بل وكان بشخصيته المتميزة وسلوكه السامق مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ عليه فيها ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه قد نال شرف الاغتراف من بحر فضيلته- رحمه الله تعالى- وأفسح له في جناته، وكانت دروس مادة التربية الدينية التي يدرسها من أحبّ الدروس للطلبة وموضع إقبالهم واهتمامهم، بعد أن كانوا يعرضون عن أمثالها.

وفي مسجد "الخسروية" حيثُ كان يجتمع أسبوعياً آلاف المصلين لحضور خطبة الجمعة، كان الشيخ يطرح على منبره قضايا الإسلام والمسلمين المعاصرة متصدياً للاستبداد، وللنزعات العلمانية، غير عابئ بما قد يناله من أذى، مردداً بجرأة العالم المسلم المجاهد قولة الصحابي الشهيد خبيب بن عدي:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً        على أي جنب كان في الله مصرعي

أما دروسه فقد كانت تغص بها المساجد، ويتحشد لها المستمعون، وكان للشيخ الأنشطة التالية:

-خطبة الجمعة الأسبوعية، التي كان يلقيها على منبر الجامع الحموي أولاً، ثم جامع الثانوية الشرعية "الخسروية".

-جلسة للتفقه في الدين بعد خطبة الجمعة فيها أسئلة وأجوبة، تغطي حياة المسلمين الخاصة والعامة، يجيب الشيخ فيها عن جميع التساؤلات بمنهج رشيد سديد، يربط الفتوى بدليلها الشرعي، وبالعصر الذي يعيشه المسلمون، ممعناً في الترغيب والترهيب والتوجيه.

-درّس في الحديث والتربية والتهذيب بين مغرب وعشاء يوم الخميس في جامع سيف الدولة

-درّس في الفقه بين مغرب وعشاء يوم الإثنين في جامع زكي باشا المدرس، بالإسماعيلية حيث كان الشيخ يغمر الحاضرين بواسع علمه، في المقارنة بين المذاهب وذكر الأدلة والترجيح بين الأقوال.

-درس متقطع في السيرة في جامع الصديق بالجميلية.

إلى جانب هذه الدروس كان للشيخ لقاءات دورية مع علماء حلب، ومدرسي التربية الدينية فيها للتشاور فيما يهم المسلمين في المدينة، وما يتعلق بالتعليم فيها، وهو في كل ذلك عمدة الميدان والمشار إليه بالبنان.

التجربة السياسية عند الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:

انتخب الشيخ سنة 1382/1961م نائباً عن مدينة حلب، بأكثرية كبيرة، فنال بذلك ثقة مواطنيه، على الرغم من تألب الخصوم عليه من كل الاتجاهات، ومحاولاتهم المستميتة للحيلولة بينه وبين الوصول إلى مجلس النواب، وفي مجلس النواب السوري، قام الشيخ عبد الفتاح مع إخوانه بنصرة قضايا الإسلام والمسلمين في سورية، وقد أشار الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في مذكراته لبعض مواقف الشيخ إزاء محاولات من جهات شتى لإغفال الإسلام دينا للدولة من الدستور السوري، وفي عام 1965 بعد عامين على حل المجلس النيابي، غادر الشيخ سورية؛ ليعمل مدرساً في كلية الشريعة بالرياض.

سجنه، ومحنته:

ولما عاد إلى بلده في صيف 1386/1966 أدخل السجن مع ثلة من رجال العلم، والفكر والسياسة، ومكث في سجن تدمر الصحراوي مدة أحد عشر شهراً، وبعد كارثة الخامس من يونيو/حزيران سنة 1967 م أفرجت الحكومة آنذاك عن جميع المعتقلين السياسيين، وكان الشيخ -رحمه الله- من بينهم.

كانت عضوية الشيخ في جماعة الإخوان المسلمين مبنية على قناعته بضرورة العمل الجماعي لنصرة الإسلام والمسلمين لا جريا وراء المناصب والمسميات، فقد كان التفرغ للعلم والتحقيق الرغبة الدائمة التي رافقته طوال حياته، ومع رغبة الشيخ الملحة في الانصراف بكليته إلى الجانبين العلمي والدعوي، فقد اضطر أكثر من مرة، أن يستجيب لرغبة إخوانه، فيتحمل معهم بعض المسؤوليات التنظيمية، فكان أن تولى – على غير رغبة منه أو سعي - منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية مرتين، ثم تخلى عنه في أقرب فرصة مناسبة متفرغاً للعلم والتأليف.

حياته في السعودية:

clip_image008_f208c.jpg

وبعد خروج الشيخ عبد الفتاح أبي غدة من السجن انتقل الشيخ ثانية إلى المملكة العربية السعودية، متعاقداً مع جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض حيثُ عمل مدرساً في كلية الشريعة، ثم درّس في المعهد العالي للقضاء الذي أسس حديثاً، وكذلك عمل أستاذاً لطلبة الدراسات العليا، ومشرفاً على الرسائل العلمية العالية، فتخرج به الكثير من الأساتذة والعلماء، وقد شارك خلال هذه الفترة 1385-1408/1965-1988 في وضع خطط جامعة الإمام محمد بن سعود ومناهجها، واختير عضواً في المجلس العلمي فيها، ولقي من إدارة الجامعة ومدرائها فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، والدكتور عبد الله عبد المحسن التركي كلّ تكريم وتقدير، ولقي مثل ذلك من فضيلة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله تعالى- الذي ترجم له الشيخ في كتابه "تراجم ستة من علماء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر"، كما كان محل احترام وتقدير من وزير المعارف المرحوم حسن بن عبد الله آل الشيخ.

انتدب الشيخ أستاذاً زائراً لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان، ولجامعة صنعاء في اليمن، ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في الكثير من الندوات، والمؤتمرات الإسلامية العلمية، التي تعقد على مستوى العالم الإسلامي، وكانت له جهود طيبة في جميع هذه المجالات حيث درّس في الأردن، والباكستان، وتركيا، والجزائر، والعراق، وقطر، وعمل فترة في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم انتقل للعمل متعاقداً مع جامعة الملك سعود في الرياض، وقبل وفاته بسنوات تفرغ من العمل، وعكف على العلم والتأليف حتى وافته المنية رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.

كذلك اختير الشيخ لتمثيل سورية في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بعد شغور مقعدها بوفاة الشيخ حسن حبنكة الميداني، فقام بذلك خير قيام مع الأعضاء الآخرين لنشر الدعوة إلى الله، ومتابعة قضايا المسلمين في العالم حتى توفاه الله تعالى.

عودته إلى سورية:

تلقى الشيخ عبد الفتاح في عام 1405/1995 دعوة من الرئيس حافظ الأسد؛ ليعود إلى سورية، حيثُ أعربَ على لسان الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي أنه يكن احتراما ً كبيراً للشيخ وعلمه، ويرغبُ أن يكون بين أهله وفي بلده، ومبدياً رغبته في الالتقاء بالشيخ، وقد استجاب الشيخ لهذه المبادرة الطيبة آملاً أن تكون بداية لرأب الصدع الذي حصل في سورية في عقد الثمانينيات، فعاد إلى سورية مؤملاً تقريب وجهات النظر وتخفيف المعاناة التي أدت إليها أحداث مؤسفة سابقة أواخر حياته، ولم يقدر أن يلتقي الرئيس بالشيخ الذي كان موضع حفاوة رسمية ممن التقى به من المسئولين، وأتاحت له عودته إلى سورية بعد غياب دام سبعة عشر عاماً أن يرى بلده قبل وفاته، وينعم بفيض الحبّ الغامر من محبيه وعارفي فضله الذين تقاطروا على بيته، والمسجد الذي يصلي فيه، حيث كان الشيخ يصلي الصلوات في جامع الروضة، ويصلي الجمعة في مسجد الرحمة بحي حلب الجديدة، فكان المصلون يهرعون إليه حيثما كان في مشاهد تزدان بالوفاء النادر، والمحبة العامرة في القلوب.

وقد تشرّف بخدمة الشيخ في حلب في هذه الفترة تلميذه الشيخ مجاهد شعبان -رحمه الله- والحاج عدنان قناعة، فكان الأول رهن إشارة الشيخ للتحقيق العلمي، والمذاكرة في أبواب الفقه والأدب، يسجل فوائد يستقيها من الشيخ في دفتر خاص، وكان الحاج عدنان يقوم بقضاء مصالح الشيخ المعيشية، فجزاهما الله خير الجزاء .

وفي هذه الفترة قام الشيخ برحلة إلى قلعة شيزر قرب حماة، وهي قلعة الأمير المجاهد الأديب أسامة بن منقذ الذي كان الشيخ -رحمه الله- معجباً بشخصيته التي تتبدى من مذكراته حول حقبة الحروب الصليبية وتخلف الصليبين الحضاري والعلمي، وكان معه في هذه الرحلة الشيخ مجاهد شعبان، والمهندس محمد خضرو -رحمهما الله-، والشيخ الناشئ محمود نور الدين مجاهد شعبان -وفقه الله-.

ومما ينبغي ذكره أن الشيخ مجاهد قد توفي -رحمه الله- عام 1420/2000 في حادث سيارة، ثم تلاه المهندس محمد خضرو عام 1421/2001 رحمهما الله رحمة واسعة.

- مذهبه:

كان رحمه الله حنفياً، متقناً للمذهب الحنفي الذي نشأ عليه ودرَسه على عدد من المشايخ ولا سيما الفقيهان الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ المفتي أحمد الحجي الكردي الحنفي مفتي الأحناف في حلب، كما كانت له قراءات ومطالعات فردية كثيرة يغوص فيها في أعماق الكتب ويُوَشِّي على صفحاتها ملاحظاته وآراءه.

وكانت له مشاركة قوية واطلاع جيد على المذهب الشافعي، وهما المذهبان السائدان في بلاد الشام.

قال تلميذه الكبير الشيخ محمد عوَّامة حفظه الله في «الاثنينية» : وأحفظ لفضيلته مواقف عديدة كان ينبه فيها السائل إلى فروع دقيقة في زوايا حواشي الفقه الشافعي.

ثم إنه شارك مشاركة قوية في الفقه الإسلامي عامة، ورفد ذلك منه اشتغاله الطويل بتدريس أحاديث الأحكام، ولذلك يرى القريب منه سعةَ صدر في الأحكام، وسماحة، لا تساهلاً  في الفتوى والتطبيق، لكنه يكره تتبع الرخص، والأخذ بشواذ الأقوال. اهـ.

قلت: كان الوالد رحمه الله يكره تتبع الرخص والأخذ بشواذ الأقوال كما ذكر الشيخ محمد عوَّامة حفظه الله، كما أنه لم يكن حرفياً متعصباً للمذهب الحنفي، بل كان يكره ذلك جداً ويَعيبُه، وله في ذلك مواقف عديدة في خروجه عن المذهب الحنفي منها ما كان بيني وبينه، ومنها ما حصل أمامي، وقد أخرج رحمه الله في ذلك رسالتين: «رسالة الألفة بين المسلمين» لابن تيمية، و«رسالة الإمامة» لابن حزم، في موضوع الاختلافات الفقهية.

وقد سُئِل رحمه الله في «الاثنينية» السؤال التالي: إن هناك دائماً خلافات بين العلماء على مسائل فقهية، وكل واحد منهم ينتمي إلى مذهب من المذاهب الأربعة، ولا يريد أن يحيد عن فتوى مذهبه إلى درجة التشبث به، مما جعل الأمور الفقهية والفتاوى فيها أكثر تعقيداً، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟

فأجاب: أولاً التشبث بالمذاهب الفقهية والتعلق بها، هذا واجب على كل من لم يكن من أهل الاجتهاد والمعرفة التامة بحكم الشريعة وفروعها وأصولها، فهذا ما أوجبه الله عزَّ وجلّ: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، أما التشبث والتيبس في أمر المذهب الواحد، فهذا ليس بواجب في الشرع، فيسوغ لِيَ أن أتعلم هذه المسألة أو أعمل في هذه المسألة بالمذهب الحنبلي، وإذا وجدت مسألة أخرى أعمل بالمذهب الشافعي، وإذا وجدت في هذه المسألة شدة أو صعوبة في المذهب الحنبلي أن أنتقل وأعمل بها في المذهب الحنفي،   كل هذا معناه أَخْذُها بهدي الله عزَّ وجلّ وبهدي نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم وما كان هناك افتراق بين هؤلاء الأئمة، فكل واحد من هؤلاء الأئمة حرص كل الحرص أن يكون اجتهاده أقرب إلى كلام الله وكلام رسوله ما قَدِروا على ذلك، فلذلك نجدهم إذا وصل الواحد منهم إلى حكم من الأحكام في هذا اليوم، ثم وجد الحكم بعد أيام أو شهور أو سنين، ولاح له وجه آخرُ في المسألة ووجد المسألة على وجه آخرَ، يتحول عنها ولا غَضَاضة، وإذا لم يعلمها يقول: لا أعلمها ولا غضاضة، لماذا؟ لأن الشريعة عنده أغلى من وجوده.

فالإمام مالك رضي الله عنه جاء إليه رجل من العراق بأربعين مسألة، فقدَّمَها إليه وسأله عنها، فأجابه الإمام مالك رضي الله عنه بست مسائل، فقال له الرجل: يا أبا عبد الله أنا طويت الأرض ومشيتُ الفَيَافيَ والقِفَارَ إليك وأنت عالم المدينة، أريد أن أعرف هذه المسائل كلها، فبماذا أرجع للناس وأقول لهم؟ قال: قل لهم قال مالك: لا أدري! لا يضيره أن يقال عنه: قال: لا أدري، لأن الدين عنده أغلى من أن يخجل في سبيله.

فالتمسك بالمذهب من حيث هو إذا كان على عصبية أو غيرِ معرفة، فهذا من النقص في الإنسان، ولا يصح للإنسان أن يعتقد أنه إذا كان والده حنبلياً ينبغي أن يكون حنبلياً، أو شافعياً أن يكون شافعياً، يمكن أن يكون هكذا وهكذا وهكذا، وهذا من س2عَة الإسلام، لأن اتباع أي مذهب هو اتّباع للكتاب والسنَّة، وهذا الاجتهاد ظني، فيجوز للإنسان أن يأخذ به من قول هذا العالم أو قول هذا العالم، أما التعصب والتحزب فهذا ليس من مبدأ المسلمين، ليس من مبدأ الإسلام وليس من مبدأ الفقه، لذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله خالفه أصحابه ودونوا خلافاتهم بوجوده ولا حرج، لأن هذا دين الله ينبغي الاجتهاد في تحصيل الأصح منه، فلذلك هذا الَّذي يقال فيه تعصب أو تحزب، أو تمسُّك ببعض المذاهب ولا يحيد الإنسان عنها، هذا من النقص النفسي، فينبغي للإنسان أن يعدِل عنه ويكون واسع الصدر، واسع الرأي، واسع القلب، يقدِّر كل إمام بفضله وكرمه وعلمه ومقامه العظيم...، فليس أحد من الأئمة أفضل من الآخر، وكلهم من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مقتبس وملتمس، والله أعلم. اهـ كلامه رحمه الله تعالى.

-تلاميذه:

تلقَّى عن والدي جمع غفير من طلبة العلم جلهم من الديار الشامية والنجدية ومن نزل بهما وافداً.

فمن أشهر وأجل تلاميذه بحلب:

1  الشيخ محمد عوامة.

2  الشيخ محمود ميرة.

3  الشيخ ناجي عَجَم.

4  الشيخ محمد أبو الفتح البيانوني.

5  الشيخ صلاح الدين الإدلبي.

6  الشيخ عدنان سرميني.

7  الشيخ عبد الستار أبو غدة.

8  الشيخ مجد مكي.

9  الشيخ عبد الله عزام رحمه الله.

10  الشيخ تميم العدناني رحمه الله.

ولما درَّس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض قرابة 23 سنة تَلْمَذَ له في كلية الشريعة وكلية أصول الدين طائفة من المشايخ النبهاء الذين هم الآن عمداء علم في كلياتهم الزاهرة، فمن أولئك:

11  الشيخ العلامة صالح الأَطْرَم.

12  الشيخ زاهر عوَّاض الألمعي.

13  الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري.

14  الشيخ فهد بن عبد الرحمن الرُّومي.

15  الشيخ عبد الله الحَكَمي.

16  الشيخ عبد العزيز السُّدَيري.

17  الشيخ عبد الوهاب الطُّرَيْري.

18  الشيخ إبراهيم الصُّبَيْحي.

وغيرهم كثير.

19  وممن لزم الوالد رحمه الله في آخر سني حياته الأستاذ محمد بن عبد الله الرشيد، فكان تلميذاً محبّاً بارّاً، وألَّف بعد وفاة الوالد رحمه الله ثبتَه «إمداد الفتاح»، وقد أجاد فيه وأبدع وابتكر، فجزاه الله خيراً.

ومن تلاميذه رحمه الله تعالى:

20  الشيخ العالم المحقق أحمد بن معبد عبد الكريم المصري.

21  الشيخ عبد الرحيم بن محمد جميل المُلَّا.

22  الشيخ السيد إبراهيم بن عبد الله الخليفة الهاشمي الحسني، الأحسائيان.

23  الشيخ العالم محمد رفيع بن محمد شفيع العثماني.

24  الشيخ العالم محمد تقي بن محمد شفيع العثماني، الباكستانيان.

25  الشيخ محمد عبد المالك بن محمد شمس الحق الكَمُلَّائي البنغلاديشي.

26  الشيخ سلمان الندوي الحسني.

27  الشيخ محمد عبيد الله الأسعدي الندوي.

28  الشيخ محمد أكرم الندوي، الهنود البررة.

29  الشيخ حسن بن رامز قاطرجي. وهو من كبار تلاميذه.

30  الشيخ قاسم بن علي سعد.

31  الشيخ جمال بن حمدي الذهبي.

32  الشيخ عبد الرحمن بن محمد الحلو.

33  الشيخ ماجد درويش.

34  الشيخ مالك الجُدَيْدَة، اللبنانيون.

35  الشيخ الحسين بن محمد شَوَّاط.

36  الشيخ محمد شكري اللَّزَّام، التونسيان.

37  الشيخ محمد طلحة بن بلال مِنْيَار المكي.

38  الشيخ أحمد بن عبد الملك عاشور المكي.

39  الشيخ عصام البشير السوداني.

40  الشيخ جاسم بن مهلهل الياسين.

41  الشيخ محمد بن ناصر العجمي، الكويتيان.

42  الشيخ نظام يعقوبي البحريني.

- رحلاته:

رحل الشيخ عبد الفتاح - رحمه الله- إلى بلدان عديدة ومدن كثيرة، فبالإضافة إلى مدن بلده الشام، زار الأردن، وفلسطين قبل احتلالها، والعراق، والسعودية، والكويت، وقطر، والإمارات، والبحرين، واليمن، ومصر، والسودان، والصومال، وتونس، والجزائر، والمغرب، وجنوب أفريقيا، وأندونيسيا، وبروناي، والهند، وباكستان، وأفغانستان، وأُزْبَكِستان، وتركيا، وبلدان كثيرة في أوروبا وأمريكا.

ورحلاته هذه إما أن تكون علمية لرؤية المشايخ والالتقاء بالعلماء، وتحصيل العلم، وزيارة المكتبات ودور المخطوطات.

وإما دعوية لحضور المؤتمرات وإلقاء الخطب والمحاضرات والدعوة إلى الله، وكثيراً ما كان يجمع بين الأمرين، رحمه الله وغفر له.

صفاته وأخلاقه:

إذا كان بعض الأدباء يجعل (مفتاحاً) لكل شخصية يدرسها، ويترجم لها، فإن مفتاح شخصية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله- حبُّه الكمال في كل شؤونه، والترقي من الحسن إلى الأحسن، وخاصة ما يلزم لرفعة المسلمين من سلوك وآداب وتجارة وصناعة وعلم ومعرفة، حتى يكون المسلم أولاً في كل شيء .

فكان -رحمه الله- مجمع الفضائل والشمائل كريماً غاية في الكرم، يحرص على إكرام ضيفه بما يستطيع، ويبذل في ذلك جهده وغايته.

وكان رحمه الله حليماً كثيراً ما يعفو ويصفح.

وكان أديباً خلوقاً لا يؤذي أحداً بكلامه، بل يحترمه ويثني عليه، ويختار في ذلك الألفاظ الراقية.

وكان عاقلاً حصيفاً أريباً لا تخرج الكلمة منه إلَّا بوزن وفي موضعها المناسب، ولا يقوم بأمر إلَّا ويزنه بعقله، وطالما قال لي: استعمل عقلك في كل ما تقوم به.

وكان ظريفاً خفيف الروح يمازح جلساءه بالقدر المناسب، ويضفي على مجلسه العلمي والطبعي روح اللطافة والظرافة، بما يناسب مقام المجلس، ويخفف من وطأة الوقار، لكن في ظل التأدب والاحترام.

وكان ذَوَّاقةً جداً في ملبسِه ومشربِه ومسكنِه، وكُتبه ترتيباً وكتابة وتأليفاً، حتى في صَفِّه لحذاءه وتنعله. وهكذا تراه في كل حركة وسَكَنَة عاقلاً ذَوَّاقاً.

وكان عفيف اللسان لا يشتم أحداً، ولا أذكر أني سمعت منه كلمة نابية إلَّا من أندر النادر، وحينما يغضب جداً، وأكثر غضبه لله سبحانه وتعالى.

وكان عفيف النفس لا يطلب من مسؤول أمراً لذاته، وإنما لأحبابه وإخوانه.

وكان صبوراً على الطاعة والابتلاء، حريصاً على الصلاة حرصاً شديداً، مؤدياً لها في أول وقتها، في الحضر والسفر، والتعب والمرض، غارساً ذلك في أولاده وأحفاده، فإذا كان نائماً أو متعباً ونُبِّه إلى الصلاة، انتفض وقام مسرعاً، وطالما ذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وفاته، وقولَه: (لَا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة).

وكان خِدْناً للقرآن، له ورد صباحي يومي، لا يدعه إلَّا مضطراً، مع إكثاره من الأذكار والأوراد، فلا تجده جالساً بدون عمل علمي من تأليف أو تحقيق أو تعليم أو مذاكرة أو إفتاء، إلَّا وجدته يسبح ويحمدل ويهلل ويكبر.

وكان رقيق القلب، سريع الدمعة، كثير العبرة، يفيض دمعه عند قراءة القرآن وذكر الله، وقصص السلف والصالحين، وفي المواقف الروحانية، وعلى مآسي المسلمين وآلامهم، وعندما يُمْدَح، ومن حضر حفل تكريمه عند الشيخ عبد المقصود خوجهْ المسمى «الاثنينية» رآه كيف قطع الحفل كله بالبكاء.

وكان يألم ويحترق على مآسي هذه الأمة وأحوالها، وقد فقد سمعه بأذنه اليمنى بعد أن زاره شخص وحكى له عن مآسي المسلمين في بلد من البلدان، فحزن حزناً شديداً وبات ليلته حزيناً مهموماً، وفي اليوم التالي شعر بدم يسيل من أذنه ثم ذهب سمعه.

وكم وكم أرق الليالي حزناً وتفكيراً بأحوال المسلمين.

ولقد ابتلاه الله بعد فَقْد سمعه في أذنه اليمنى بضعف بصره في عام 1410، فما رأيته شكَى أو تشكَّى، ولا ثناه ذلك عن الإنتاج العلمي، بل تجمَّل بالصبر والتسليم، والمثابرة على التأليف والتحقيق، مخافة أن يدركه الأجل، ولم يخرج ما في صدره من الكتب.

ثم في آخر حياته وقبل أربعة أشهر من وفاته أصيب بانفصال الشبكية في عينه اليمنى، وفَقَد بصره فيها، ثم أُجري لها عملية جراحية لم تكلل بالنجاح، وإنما أعقبته ألماً شديداً في عينه ورأسه، وصَفَه كرمي السِّهام، فما سمعته صرخ أو تأوَّه، وإنما كان يقول إذا اشتد الألم كثيراً جداً: يا الله! لا إلـه إلَّا الله!

وكان جَلْداً على العلم قراءة ومطالعة وتأليفاً لا يغادره القلم والقِمَطْر في حله وسفره وصحته ومرضه، وقد ألَّفَ وأنهى بعض كتبه في أسفاره الكثيرة كما دوّن في مقدمات بعض كتبه، وقبل دخوله المستشفى بيوم كان،  وهو يعارك الآلام  يضيف في كتابه الماتع «الرسول المُعَلِّم (ص) وأساليبه في التعليم»، كما كان يكثر السؤال، وهو في المستشفى عن كتاب «لسان الميزان»، كما أنه كتب مقدمة «لسان الميزان» قبل عشرين يوماً من وفاته!

وكان قليل النوم يستكثر ساعات نومه مع قلتها، وكان في شبابه يواصل اليوم واليومين، كما ذكر لي عدة مرات.

وهاتان الصفتان الأخيرتان تدلان على صفة أخرى، وهي: حرصه على الوقت، فهو حريص على وقته أشد من حرصه على ماله، كما تدلُّ الأخيرة على نهمه العلمي الشديد.

وكان لا يأمر بأمر إلَّا ويأتيه، ولا ينهى عن شيء إلَّا ويجتنبه.

وكان رحمه الله ذكياً ألمعياً ذا حافظة قوية، وذهن متقد مع عمل بالعلم، وعبادة وتقوى وصلاح وورع، وتواضع جمٍّ لطلاّبه وتلاميذه، عوضاً عن مشايخه وعلماء الإسلام، فلا يرى نفسه في جنبهم شيئاً يذكر.

ولما مدحه شاعر طيبة الأستاذ محمد ضياء الدين الصابوني سدده الله في «الاثنينية»، بقوله:

أبو حنيفة في رأي وفي جدلٍ      يسمو بهمَّتهِ لأرفع الرُّتبِ

عقَّب على ذلك والدي -رحمه الله- بقوله: وكذلك الإخوة الَّذين تكلموا وتفضلوا بهذه الكلمات عني، فقد أغدقوا، ولكنهم أوسعوا وأرهقوا، حتى دخلت مع أبي حنيفة رضي الله عنه بالمواجهة كما قال أخي الشاعر ضياء الدين الصابوني، فهذا شيء لا يبلغ من قدري أن أكون ذرَّة رمل أو تراب في جنب أبي حنيفة، من أبو حنيفة؟ أبو حنيفة رحمة من رحمات الله عزَّ وجلّ أهداها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة كما أهدى الإمام مالكاً، والإمام أحمد، والإمام الشافعي رضي الله عنه والإمام ابن جرير...، فهؤلاء الأئمة... فإن صلحت أن أكون رملة صغيرة في جنب هؤلاء فهذا وسام عظيم وفضل كريم، لا أستطيع الشكر عليه، فأعتذر عن مثل هذه الكلمات التي وجهت في جنب الحديث عني، فإنها لا تستطيع نفسي سماعها ولا قَبولها، وإن صدرت من أخ محب صادق في نية حسنة، ولكن الحق أحق أن يتبع. اهـ.

وكانت له نظرة في الرجال وفَرَاسة فما رأيته وصف شخصاً بوصفٍ أو مَدْحٍ أو قَدْحٍ إلَّا وجدتُه فيه ولو بعد حين.

وكذا نَظرتُه في الأمور تجدها مسددة، ولو بعد حين، وظني أنه مسدد بتقواه وعقله، كما كان يصف الإمام حسن البنا رحم الله الجميع.

وكان محبباً إلى زوجه وأولاده وأحفاده، موجِّهاً ومربِّياً لهم باللطف والذوق والحكمة والحُنْكَة، فما رحل عنهم إلَّا وهو عزيز وغالٍ يودون لو يفدونه بأرواحهم وأولادهم وأموالهم.

وهذا حال كثير من محبيه الذين بكوه بكاء الثكالى في أنحاء المعمورة.

أسُكَّانَ بطنِ الأرضِ لو يُقبل الفِدَى     فَدَينا، وأعطينا بكم ساكنَ الظَّهْرِ!

فهو كما يقال مجمع الفضائل، ويصدق عليه قول القائل:

تُوجز في قارورة العطر روضةٌ       ويُوجَز في كأس الرحيق كرومُ

مرضه، ووفاته:

على إثر تلقيه رسالة سنة 1394/1974 تخبره بوفاة أخيه عبد الغني تأثر الشيخ تأثراً شديداً أصيب على إثره بأزمة قلبية شديدة ألزمته المستشفى بضعة أسابيع، ولكن الله عز وجل عافاه، ورغم أنه مر بشدائد كثيرة فيما بعد إلا أن حالته الصحية فيما يختص بالقلب بقيت مستقرة طوال حياته، وفي عام 1409/1989 أحس الشيخ بقصور في بصره، أدخل على إثره مستشفى الملك خالد للعيون في الرياض حيث تولى علاجه تلميذه الدكتور ظافر وفائي الذي شخص مرضه بتهتك في اللطخة الصفراء في الشبكية تصبح معه الرؤية الأمامية - وكذلك القراءة - متعذرة، والعلاج الوحيد هو إيقاف تقدم المرض بأشعة الليزر دون أن يتمكن المريض من استرجاع ما فقده من إبصار، وقد اعتمد الشيخ بعدها في القراءة على جهاز مكبر أشيه بالتلفاز يحمله حيث ذهب، وأصبح عبء القراءة والمراجعة على زوجته التي تفرغت تماماً لرعايته والعمل معه.

وفي سنة 1412/1992 اشتبه الأطباء بوجود ورم خبيث في كبد الشيخ رحمه الله، وأكدوا على وجوب استئصاله جراحياً، ولو من جانب الحيطة الواجبة، ولكن ما لبث هذا الورم - بفضل الله ووسط دهشة الأطباء - أن انكمش، وعاد الكبد إلى حالته الطبيعية.

وفي شهر شعبان 1417/ديسمبر1996 شعر الشيخ بضعف آخر في نظره، فعاد من حلب إلى الرياض ليتلقى علاجاً آخر لم يكن ناجعاً، ونتج عنه صداع شديد لازم الشيخ طيلة أيامه الباقية، ثم اشتكى الشيخ في أواخر رمضان من ألم في البطن أدخل على إثره مستشفى الملك فيصل التخصصي، وتبين أنه ناتج عن نزيف داخلي بسبب مرض التهابي،    وما لبث أن التحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد التاسع من شوال 1417ه/ الموافق 16 من فبراير 1997 عن عمر يناهز الثمانين عاماً فرحمه الله رحمة واسعة.

غسل الفقيد ابنه الشيخ سلمان، وتلميذه الملازم له الشيخ محمد الرشيد، وجرت الصلاة عليه عقب صلاة الظهر في الرياض، ثم نقل بطائرة خاصة مع عائلته وأحبابه إلى المدينة المنورة حيث صلي عليه بعد صلاة العشاء، ثم شيعه أحبابه وتلاميذه الذي توافدوا من كل مكان في السعودية إلى مقبرة البقيع، فنال شرف جوار المصفى صلى الله عليه وسلم بعد أن تشرف بخدمة حديثه وسنته الشريفة.

خلفت وفاته أسى عميقاً في قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعبر الرئيس السوري حافظ الأسد - بواسطة الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي - عن تأثره العميق لوفاته دون أن تتاح له فرصة الالتقاء به، حيث كان يتطلع إلى لقاء طويل واف معه، ووضع تحت تصرف أهله طائرة خاصة لنقل جثمانه - إن شاؤوا - إلى سورية، وعقد في  صالة الغزالي في حلب مجلس للتعزية، حضره إلى جانب المسؤولين أعداد كبيرة من المحزونين، وشارك في تأبين الفقيد الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي، والدكتور فتحي يكن من لبنان، وتلميذه البار الشيخ مجاهد شعبان -رحمه الله-، والشهيد القائد أمين يكن.

وتدفقت برقيات ورسائل التعزية على أهله من كل أنحاء المعمورة ولا عجب فقد كان عالماً عاملاً فيه عزة الإسلام وتواضع الدعاة، سار على نهج النبوة في خلقه وأخلاقه، فأضاء الله بصيرته وذلّل له مقاليد العلوم، وألقى محبته في قلوب الصالحين من عباده.

طبت حياً وميتاً يا أبا زاهد، وجزاك الله عنا، وعن المسلمين خير ما يجزي به الله عالماً مجاهداً متقناً مخلصاً عن الإسلام، وعن أهله، وأبناء أمته

جهوده العلمية:

يعد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من العلماء الثقات، الذي يفخر بهم العالم الإسلامي في هذا القرن، وقد أحاط بالعلوم الشرعية، وملك زمام اللغة العربية والشعر والتاريخ، وتبحر في علمي الفقه والحديث، حيث أكب منذ بداية حياته العلمية على تحقيق، ونشر الكتب النفيسة في هذين الفنين وغيرهما.

1-وأول كتاب نشره الشيخ هو (الرفع والتكميل في الجرح والتعديل) للإمام عبد الحي اللكنوي، وقد طبعه في حلب عند مطبعة الأصيل التي كان صاحبها الأستاذ سامي الأصيل من أصدقائه، فصبر على دقة الشيخ في التصحيح وإتقانه في إخراج كتبه، بتعاون المحبّ، وتفهم الساعي للكمال، وقد أصبحت كتبه بعد ذلك – في إخراجها – مدرسة للعلماء والباحثين من بعده، ينهجون نهجها وينسجون على منوالها، وقد قام بطبع أغلب كتب الشيخ الأستاذ المهندس رمزي دمشقية صاحب دار البشائر الإسلامية في بيروت رحمه الله تعالى، وكانت دائماً غنية بمضمونها، راقية في شكلها، تنم على إحساس عال لدى الشيخ في تكريم الكتاب، وعلى ذوق رفيع في طريقة إخراجه.

ويمتاز تحقيق الشيخ عبد الفتاح، بأنه يُقَدِّم مع الكتاب المحقق، كتاباً آخر، مليئاً بالفوائد النادرة والتوضيحات النافعة، التي توضح الغامض، وتسدد، وتصوِّب، وتُرَجِّح، وتُقّرب العلم إلى طالبه، وتحببه إليه.

وللشيخ رحمه الله تعالى، ولع شديد بكتب العلم، يتتبعها في مظانها، مطبوعة ومخطوطة، ويصرف وقته وجهده وماله، في سبيل اقتنائها وخدمتها، فتجمعت لديه مكتبة من أمهات المكاتب فيها الأعلاق النفيسة والنسخ النادرة من الكتب، وذهب جلها في الأحداث الأليمة التي طالت سورية في أعوام 1978-1982، وأعادت الحكومة السورية ما تبقى منها للشيخ عند عودته إلى سورية في عام 1995.

وكان منهج الشيخ في التحقيق والتأليف منهج المتأني الحريص على خدمة الكتاب من حيث الشكل والمضمون، فلم يكن يهدف إلى ربح مادي أو شهرة معنوية، ولذا كان الكتاب يبقى لديه حبيس التأليف والتحقيق سنين طويلة حتى إذا اطمأن إلى أنه قد قارب الاكتمال والحد المرضي من الجودة، أرسل به إلى المطبعة، وعكف شخصياً على مراجعة تجاربه المرة تلو المرة، وكانت زوجة الشيخ في كل هذه المراحل إلى جانبه عوناً وسنداً ومعاوناً لا يفتر، وبخاصة بعد أن تأثر بصره، فما توقف إنتاجه العلمي حتى آخر أيام حياته فجزاها الله أفضل الجزاء.

مؤلفات الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:

أولاً- المحققة وفقاً لترتيبها في النشر:

1- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل- للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1383-1963 بحلب.

2- الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة- للإمام اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1384-1964 بحلب.

3- رسالة المسترشدين- للإمام الحارث المحاسبي، وطبع 8 طبعات أولها سنة 1384-1964 بحلب، وترجم إلى اللغة التركية.

4- التصريح بما تواتر في نزول المسيح لمحمد أنور الكشميري، وطبع 5 طبعات أولها سنة 1385-1965 بحلب.

5- إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة للإمام اللكنوي طبع بحلب سنة 1966-1386

6- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي، والإمام للإمام القرافي، وطبع طبعتان أولاهما سنة 1387-1967 بحلب.

7- فتح باب العناية بشرح كتاب النقاية في الفقه الحنفي للملا علي القاري الهروي المكي، طبع الجزء الأول بحلب محققاً سنة 1387-1967، ولم يقدر للشيخ أن يتمه تحقيقاً، ثم طبع في لبنان دون تحقيق.

8- قاعدة في الجرح والتعديل للحافظ تاج الدين السبكي، وطبع 5 طبعات أولها ببيروت سنة 1388-1968م.

9- المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن قيم الجوزية، وطبع 5 طبعات أولها سنة 1389-1969 في بيروت

10- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع للإمام ملا علي القاري، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1389-1969 بحلب

11- فقه أهل العراق وحديثهم للأستاذ محمد زاهد الكوثري و طبع ببيروت سنة 1390-1970

12- خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ الخزرجي طبع مصوراً أربع مرات أولها ببيروت سنة 1390-1970 مع مقدمة ضافية وتصحيح أغلاط وتحريفات كثيرة .

13- قواعد في علوم الحديث لمولانا ظفر الله التهانوي، وطبع 6 طبعات أولها ببيروت سنة 1392-1972 وترجم بعضه إلى التركية

14- المتكلمون في الرجال للحافظ السخاوي، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1400-1980

15- ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للحافظ الذهبي، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1400-1980

16- قصيدة عنوان الحكم : لأبي الفتاح البستي، أولها ببيروت سنة 1404-1984

17- الموقظة في علم مصطلح الحديث: للحافظ الذهبي، وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1405-1985

18- سنن الإمام النسائي: طبعه الشيخ مصوراً ومفهرساً، وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1406-1986

19- الترقيم وعلاماته: للعلامة أحمد زكي باشا، وطبع طبعتان أولاهما سنة 1407-1987 ببيروت

20- سباحة الفكر بالجهر بالذكر: للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1408-1988

21- قفو الأثر في صفو علم الأثر: ابن الحنبلي، وطبع طبعتان أولاهما ببيروت سنة 1408-1988

22- بلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب: للحافظ الزبيدي، و طبع ببيروت سنة 1408-1988

23- جواب الحافظ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل، وطبع ببيروت سنة 1411-1991

24- التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن: للعلامة الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي، وقد طبع ببيروت سنة 1412-1992

25- تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار ومعه حاشيته نخبة الأنظار على تحفة الأخبار للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع ببيروت سنة 1412-1992

26- التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز: للشيخ زاهد الكوثري، وطبع ببيروت سنة 1413-1994م.

27- تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة: للعلامة أحمد شاكر، وطبع ببيروت سنة 1414-1994م.

28- تحفة النساك في فضل السواك: للعلامة الميداني، و طبع ببيروت سنة 1414-1993

29- كشف الالتباس عما أورده الإمام البخاري على بعض الناس: للعلامة عبد الغني الميداني، وطبع ببيروت سنة 1414-1993

30- العقيدة الإسلامية التي ينشأ عليها الصغار: للإمام ابن أبي زيد القيرواني، وطبع طبعتان أولاها ببيروت سنة 1414-1993م.

31- الحث على التجارة والصناعة والعمل: للإمام أبي بكر الخلال الحنبلي، وطبع ببيروت سنة 1415-1995م.

32- توجيه النظر إلى أصول الأثر: تأليف الشيخ طاهر الجزائري، وطبع ببيروت سنة 1416-1995

33- ظفر الأماني في شرح مختصر الجرجاني: للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع ببيروت سنة 1416-1995

34- رسالة الألفة بين المسلمين: للإمام ابن تيمية، ومعها رسالة في الإمامة للإمام ابن حزم الظاهري، وطبع ببيروت سنة 1417-1996

35- مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث: للشيخ العلامة المحدث محمد عبد الرشيد النعماني، وطبع ببيروت سنة 1416-1996

36- الحلال والحرام وبعض قواعدهما في المعاملات المالية: لشيخ الإسلام ابن تيمية، وطبع ببيروت سنة 1416-1996

37- شروط الأئمة الخمسة: للحازمي، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997

38- شروط الأئمة الستة: للحافظ ابن طاهر المقدسي، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997

39- كتاب الكسب: للإمام محمد بن الحسن الشيباني، وقد ألحق الشيخ به رسالة الحلال والحرام، وبعض قواعدهما، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997

40- ثلاث رسائل في استحباب الدعاء ورفع اليدين بعد الصلوات المكتوبة، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997

41- الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: للإمام ابن عبد البر، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997

42- خطبة الحاجة ليست سنة في مستهل الكتب والمؤلفات كما قال الشيخ ناصر الألباني، وهذه الرسالة نشرت بعد وفاة الشيخ ضمن مجلة مركز بحوث السنة والسيرة بجامعة قطر .

ثانياً: المؤلفات وفقاً لترتيبها في النشر:

1- مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل، وطبع ببيروت سنة 1971-1391

2- صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1391-1971، وقد ترجم إلى اللغتين التركية والأردية

3- كلمات في كشف أباطيل وافتراءات، وقد طبعه الشيخ سنة 1394-1974 رداً على أباطيل ناصر الألباني و صاحبه سابقاُ زهير الشاويش ومؤازريهما، وكان الشيخ يقدمها لبعض العلماء الذين يطلبونها، ولم تعرض للبيع في المكتبات حتى عام 1411-1991 حين طبعت ضمن رسالة جواب الحافظ المنذري

4- العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1402-1982

5- قيمة الزمن عند العلماء، وطبع 6 طبعات أولها ببيروت سنة 1404-1984، وترجم إلى التركية و يترجم إلى الإنجليزية

6- لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1404-1984

7- أمراء المؤمنين في الحديث، وطبع ببيروت سنة 1411-1991

8- من أدب الإسلام، وطبع عدة مرات أولها ببيروت سنة 1412-1992، وقد ترجم إلى الإنجليزية والأردية والتركية والصينية.

9- الإسناد من الدين ومعه: صفحة مشرقة من تاريخ سماعات الحديث عند المحدثين، وطبع ببيروت سنة 1412-1992

10- منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلم ما يقع، وما لم يقع، وطبع ببيروت سنة 1412-1992

11- السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني، وطبع ببيروت سنة 1413-1993

12- تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي وطبع ببيروت سنة 1414-1993

13- الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، وطبع ببيروت سنة 1417-1996

14- نماذج من رسائل أئمة السلف وأدبهم العلمي، وطبع ببيروت سنة 1417-1996

15- تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر وآثارهم الفقهية، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997

16- رسالة الإمام أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997

وقد ترك الشيخ مؤلفات ومحققات وأبحاث عديدة تنتظر النشر بعون الله تعالى.

الجوائز، والأوسمة:

وتتوجت حياة الشيخ العلمية عندما قام مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في لندن بتكريم الشيخ، فاختاره لنيل أول جائزة علمية تحمل اسم سلطان بروناي حسن بلقيه في حفل كبير في لندن في صيف عام 1415/1995 تقديراً لجهوده في التعريف بالإسلام ومساهماته القيمة في خدمة الحديث النبوي الشريف، وقد حضر الحفل سلطان بروناي، ووزير التعليم فيها (داتو عبد العزيز بن عمر) الذي كان يحب الشيخ، ويجله، كما حضره عدد كبير من الدبلوماسيين والعلماء، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، كما حضر الحفل السفير السعودي الدكتور غازي القصيبي، والسفير السوري محمد خضر الذي تقدم مع أركان السفارة السورية بلندن من الشيخ في نهاية الحفل وشد على يده مهنئاً وقائلاً له: لقد رفعت رأس سورية عالياً، و إننا نفتخر بك وبأمثالك من العلماء.

وقد وجّه السلطان الدعوة للشيخ لزيارة بروناي في العام القادم لحضور حفل تقديم الجائزة لباحثين في علوم القرآن – قدر الله أن يكون أولهما من حلب، والثاني من دمشق - هما د. أحمد خراط ود. محمد عدنان زرزور، وقد حضر الحفل ولي العهد، ثم قابل السلطان العلماء في قصره تكريماً لهم، وزار الشيخ خلال الزيارة جامعة بروناي، ومفتي السلطنة، ودار تحفيظ القرآن الكريم.

ثناء العلماء والدعاة عليه:

شيخ الدعوة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:

والشيخ حسن عبد الحميد يقول: ( جمعت جماعة الإخوان بين جنباتها شتى الأطياف، ومختلف الثقافات، فترى الطبيب والمحامي والقاضي، وترى الأستاذ الجامعي والأمي، لا يختلفون على مبدأ ولا غاية، فقد جمعتهم فكرة واحدة، ومنهج واحد، وغاية واحدة

تربوا على التجرد لله، والعمل في شتى المجالات لدين الله، وتحملوا في سبيل ذلك شتى أنواع الأذى، وضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات على تحمل الصعاب من أجل هذه المبادئ، وتحملوا في سبيلها الكثير

لم يكن هدفهم هو الدنيا، أو التمكن لجماعة بعينها، لكن كان هدفهم وغايتهم هو الله، والدفاع عن دينه القويم، ونشر تعاليمه السمحة في شتى بقاع الأرض.

كان الشيخ عبد الفتاح أبو غدة أحد الذين بايعوا على نصرة دين الله، والدفاع عن سنة رسول الله عليه السلام، حنفي المذهب، لكنه يكره تتبع الرخص، والأخذ بشواذ الأقوال والتعصب لمذهب.

التقى الشيخ أبو غدة بالإمام حسن البنا وقت أن كان يدرس في الأزهر الشريف وتعرف عليه وأعجب به، وصاحبه في لقاءاته، وانطوى تحت لواءه، وقد أطلق على الإمام البنا اسم ( الأستاذ الناصح الراشد المرشد ).

وعاد إلى حلب، وسار مع إخوانه الدعاة يرفعون راية الإسلام، ويخوضون كل ميدان من أجل نشر الوعي الإسلامي وتربية الجيل على منهج الإسلام، وتحرير البلاد الإسلامية من سلطان الاجنبي، والتصدي لموجة التغريب العلماني، والفكر الماركسي، والهجمة الصليبية الصهيونية .

كان موقعه في حلب كموقع الشيخ محمد الحامد في حماة، والدكتور مصطفى السباعي في دمشق، والشيخ محمد علي مشعل في حمص.

حمل الشيخ أبو غدة على عاتقه عبء الدعوة الى الله فكان له نشاطه الدعوي، وتعلق الاخوان بدورهم بالشيخ، ووثقوا به، فنال ثقة العامة والخاصة واحترام أقرانه، لورعه وتقواه وعلمه، ورجاحة عقله وحكمته، فكان مرشداً وسنداً وموئلاً .

كان مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ على يديه ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه قد نال شرف الاغتراف من بحر هديه رحمه الله، فتراه في دار الأرقم مرشداً ومربياً ومعلماً وهادياً، حضر مع الشباب رياضة الحركات السويدية صباح عيد الأضحى المبارك، في مركز الجماعة قرب باب النصر، مع أطفال وشباب، نزع العمامة، وخلع الجبة، وشارك الشباب نشاطهم الرياضي.

انتخب الشيخ نائباً عن مدينة حلب عام ١٩٦١ بأكثرية كبيرة فنال ثقة مواطنيه، على الرغم من تألب الخصوم عليه من كل الاتجاهات ومحاولاتهم المستميتة للحيلولة بينه وبين الوصول إلى مجلس النواب، فأقيم له حفل انتخابي ضخم أمام جامع التوحيد الآن حضره آلاف الشباب وكان فيه نصارى فكان الهتاف يا رب فاشهد عيسى أخو أحمد

في مجلس النواب قام الشيخ مع أخوانه بنصرة قضايا الإسلام والمسلمين في سوريا

عام ٦٥ غادر الشيخ حلب ليعمل مدرساً في كلية الشريعة بالرياض وذلك بعد عامين على حل المجلس النيبابي

عاد لبلده صيف ٦٦ فأدخل السجن مع ثلة من رجال الفكر والعلم والسياسة ، ومكث في سجن تدمر الصحراوي أحد عشر شهرا ، وبعد كارثة الخامس من حزيران ٦٧ أفرجت الحكومة عن جميع المعتقلين السياسيين ، وكان الشيخ رحمه الله من بينهم

كانت عضوية الشيخ في جماعة الإخوان مبنية على قناعته بضرورة العمل الجماعي لنصرة الإسلام والمسلمين لا جريا وراء المناصب والمسميات لكنه اضطر أكثر من مرة أن يستجيب لرغبة إخوانه فيتحمل معهم بعض المسؤوليات التنظيمية، فكان أن تولى على غير رغبة منه أو سعي منصب المراقب العام للإخوان في سوريا مرتين، ثم تخلى عنه في أقرب فرصة مناسبة متفرغا للعلم والتأليف

يعد الشيخ من العلماء الثقات الذين يفخر بهم العالم الاسلامي في هذا القرن، فقد أحاط بالعلوم الشرعية، وملك زمام اللغة العربية والشعر والتاريخ، وتبحر في علمي الفقه والحديث، حيث انكب على تحقيق ونشر الكتب النفيسة في هذين الفنين وغيرهما

يمتاز تحقيق الشيخ بأنه يقدم مع الكتاب المحقق كتابا آخر مليئا بالفوائد النادرة والتوضيحات النافعة تسدد وتصوب وترجح وتقرب العلم إلى طالبه

له رحمه الله ولع شديد بكتب العلم فكان يصرف وقته وجهده وماله في سبيل اقتنائها وخدمتها، فتجمعت لديه مكتبة تعد من أمهات المكتبات ذهبت جلها في الأحداث الأليمة في طالت الوطن في أعوام ٧٨ / ٨٢

لم يكن الشيخ في التحقيق والتأليف يهدف إلى ربح مادي، أو شهرة معنوية، لذا كان الكتاب يبقى لديه حبيس التأليف والتحقيق سنين طويلة يعكف على مراجعته المرة تلو المرة

ألفّ وحقق حوالي مائة كتاب طبع منها أكثر من ستين كتابا، علا بنفسه عن سفاسف الحياة، وعلا بالعلم الذي بين جنبيه عن سوق التسول والاتجار

بهي الطلعة، عذب الروح، حلو الشمائل، سريع الدمعة، كثير العبرة، كريم غاية الكرم، أديب خلوق، ظريف لماح.

توجت جهوده العلمية، فاختاره مركز اكسفورد للدراسات الإسلامية في لندن لتكريمه فنال جائزة علمية تحمل اسم سلطان بروناي، في حفل كبير في لندن صيف ١٩٩٥ تقديراً لجهوده في التعريف بالإسلام، ومساهماته القيمة في خدمة الحديث النبوي الشريف

انتدب الشيخ رحمه الله أستاذاً زائراً لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان، ولجامعة صنعاء في اليمن، ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات، وطاف العالم الإسلامي بحثاً عن المخطوطات.

درّس في الأردن والباكستان وتركيا والجزائر والعراق وقطر، وعمل في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم انتقل إلى جامعة الملك سعود بالرياض.

اختير الشيخ لتمثيل سوريا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، بعد وفاة الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان يشغل المقعد رحمه الله.

تلقى الشيخ دعوة في عام 19٩٥م ليعود إلى وطنه، واستجاب الشيخ لهذه المبادرة آملاً أن تكون بداية لرأب الصدع وللإفراج عن المعتقلين، فعاد إلى سوريا، ولم يلتق الشيخ بالرئيس حافظ الأسد طيلة هذه الفترة.

عام ١٩٩٦ شعر الشيخ بضعف في بصره، فعاد إلى الرياض ليتلقى  العلاج، واشتكى في أواخر رمضان من ألم في بطنه، ادخل على اثره مشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وما لبث أن التحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد ٩/ شوال / ١٤١٧ هجرية ( ١٩٩٧) عن عمر يناهز الثمانين عاماً .

عرفته رحمه الله مراكز الدعوة الإسلامية، ففقدت بقده داعياً ومعلماً ومرشداً، بكته القلوب قبل العيون، لأنها فقدت بموته العالم الثبت المحقق الصدوق.

نقل في اليوم الثاني إلى المدينة المنورة حسب رغبته، وصلي عليه عقب صلاة العشاء، ودفن في البقيع.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه المولى فسيح جناته مع النبين، والصديقين،  والشهداء وحسن أولئك رفيقاً .

العلاّمة الشيخ عبد الفتّاح أبو غُدّة قلَّ نظيره في علمه وأدبه:

وكتب الشيخ حسن قاطرجي يقول: ( بادىءَ ذي بَدْء أعتذر من الله ـ جلّ جلالُه ـ عن الحديث أو الكتابة عن سيدي الشيخ رحمه الله، وما أصدق كلمة الإمام الحُجّة البحر أحد القُرّاء السبعة أبي عَمْرو بنِ العلاء البَصْري ـ مع أنه من التابعين ـ: "ما نحن فيمن كان قَبْلنا إلا كبَقْلٍ في أصول نَخْل طِوال" والتي سمعتُها من الشيخ رحمه الله أكثر من مرة في سياق المقارنة بين العلماء في العصور المتأخرة وبين علماء السلف الصالح. وأنا أحقّ بها وأجدر في مقامي من سيدي الشيخ تغمّده الله برضوانه وأنزل عليه شآبيب رحمته.

أولاً أكتب بعضَ ما أعرفه عن شيخنا رحمه الله وفي النفس حَسْرةٌ جامحة على جسامة الخسارة التي ألمّت بالعِلم وبالعالم الإسلامي وليس ذلك من باب التوقّف في قبول قضاء الله تعالى، معاذَ الله، ولكنه أولاً للشعور الطبيعي عند فَقْد الأعزّاء وثانياً لأن خسارته ليست خسارة شخصية ولكنها خسارة عامة سرعانَ ما يحتاج الخاطرَ بحلولها ظلالُ نبوءات الرسول صلى الله عليه وسلّم: "... حتى إذا لم يبقَ عالمٌ اتخذ الناسُ رؤساءَ جُهّالاً فسُئلوا فأفتَوْا بغير علم فضلّوا وأضلّوا"، و"بين يدي الساعة سنون خَدّاعة ... يتكلّم فيها الرُّوْيَبِضة: التافه يتكلَّم في أمر العامّة".

إنني أستطيع أن أقول من خلال صلتي المباشرة بالشيخ والتلمذة عليه ومرافقتي له وصحبتي لشخصه الكريم طيلة ثلاث سنوات أثناء دراستي في كلية أصول الدين ـ قسم السُّنة وعلومها، بالرياض، فضلاً عن صلة المراسلة والتعلّق بكتبه منذ ما يزيد عن (15) سنة، أستطيع أن أقول: لئن كان الشيخ رحمه الله يشاركه غيره من أهل العلم والدعاة في بعض الخصال بل ربما تميَّز عنه بعضهم ببعض الجوانب العلمية أو الدعوية أو القيادية أو السياسية إلا أن سيدي الشيخ في تقديري قلّ نظيره في تعلُّقه بالعلم واحتراقه في تحصيله والحرص على إتقان تحقيقه وفي حرصه على الأوقات بل اللحظات لئلا تضيع في غير العلم، كما أنه رحمه الله قلّ نظيره في أدبه حتى إن المعاشر له ليتعلم من أدبه تماماً كما يتعلّم من علمه. وفي هذين الجانبين سأحصر كلامي عنه رحمةُ الله عليه مع الحاجة الملحّة إلى ترجمة شاملة لحياته، واستعراض عام لمراحل سيرته، ودراسة تقويمية معمّقة للجوانب الأخرى من نشاطه في المجالات الدعوية والاجتماعية والسياسية، مما يتطلّب تضافر جهود عدد من عارفيه وإخوانه وأقاربه وتلامذته. وسيظل هذا الجهد أمانةً ثقيلة في أعناقهم لا يُعفيهم منها إلا أداؤها.

شواهد تفوّقه في العلم:

ومما يشهد لقوّة تعلّقه بالعلم وتفوّقه في تحصيله كثرةُ شيوخه الذين تلقى عنهم فقد بلغوا (180) شيخ على ما أحصاه الأخ الشيد محمد الرشيد النَّجْدي ـ أحد خواصّ تلاميذ الشيخ ـ في كتابه "إمداد الفَتّاح بأسانيد ومرويّات الشيخ عبد الفتاح"، علماً أنهم يتوزعون على مساحة جغرافية مترامية الأطراف من بلاد الشام إلى مصر إلى الحجاز واليمن والهند وباكستان والمغرب، وهذا نادر جداً في عصرنا.

كما أنه يشهد لذلك كثرة الكتب التي خلّفها ـ ما بين تحقيق وتأليف ـ فقد بلغت حوالَيْ 70 كتاباً من العلم المصفّى المحقَّق الموثّق وليست مجرد كتب إنشاء، وحتى في رسائله الصغيرة مثل "السنّة النبوية وبيان مدلولها الشرعي" أو "منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلّم ما يقع وما لا يقع" أو في مقدماته لكتب غيره مثل مقدمته الحافلة لكتاب "التعليق الممجَّد" أو مقدمته لكتاب "شرح القواعد الفقهية" لا يأتي إلا بالممتع النافع مع التحقيق والتدقيق والإتقان. ولا يخفى على المتتبع لكتبه أنه خصّ عدداً غير قليل منها في موضوعات العلم وتراجم العلماء مما يترجم أصدق ترجمة أحساسيسَه نحو العلم وشدة تعلّقه به وحُرقته على تحصيله، وهي: 1 ـ "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل"، 2 ـ و"العلماء العُزّاب الذين آثروا العلم على الزواج"، 3 ـ و"قيمة الزمن عند العلماء" والذي ذكر في مقدمته أنه حصيلة (20) سنة من المطالعة والتجميع والانتخاب وأصله كلمة لمدة عشر دقائق ضمن محاضرة مشتركة دعت إليها كلية الشريعة بالرياض!!، 4 ـ و"منهج السلف في السؤال عن العلم"، 5 ـ و"الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلّم وأساليبه في التعليم"، 6 ـ و"تراجم ستّةٍ من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري".

ويلمس كلُّ من يعاشر الشيخ أن له حرقةً نادرة قلما نجدها عند كثير من العلماء فضلاً عن طلبة العلم على اقتناء الكتب مما جعله أحد المراجع الهامة في العالم الإسلامي في معرفة الكتب مخطوطِها ومطبوعها، ولقد رافقته في بعض الزيارات إلى بعض المعارض وعاينتُ بنفسي نَهَمَه على اقتناء الكتب حتى ولو كانت عنده إذا اختلفت طبعاتها. والجدير ذكره أنه يحرص على اقتناء الكتب في مختلف فروع الثقافة الإسلامية والعامة، ومن يقرأ في مقدمة كتابه "صفحات من صبر العلماء" كلامَه عن عجائب المخلوقات والكتب المؤلفة في ذلك والأخبار التي التقطها من مصادر شتى يدهش لهذا التنوّع والغزارة والتتبُّع عنده رحمه الله ونفع بعلمه. كما أن له قصة من أطراف القصص وأغربها وأدلّها على ولعه بكتب العلم مع كتاب "فتح باب العناية" سَجَّلها في مقدمة تحقيقه للجزء الأول منه كما سَجَّلها الدكتور السباعي رحمه الله في الجزء الثاني من كتابه "القلائد من فرائد الفوائد" جديرٌ بكل طالب علم أن يقرأ خبرها لعلها تكون مِهْمازاً له.

وبهذه الحرقة وهذه النَّهْمة تكوّنت للشيخ مكتبة ضخمة قلّ أن يملك مثلَها أفرادٌ، وقد ذكر أحد أعرف تلاميذه به فضيلة شيخنا الأستاذ محمد عوّامة ـ فيما كتبه عن الجانب العلمي في حياة الشيخ رحمه الله وأرسله إليّ مشكوراً ـ أن إذاعة الرياض أجرت معه رحمه الله قبل نحو عشرين سنة مقابلة، سئل فيها عن مكتبته فصرّح بعد إلحاحٍ أنها تضمّ عشرين ألف مجلد!!. هذا في ذلك الوقت فكم يُقَدِّر حجمُها الآن؟!

ومما يتصل بحب الشيخ للعلم وتفوُّقه في تحصيله حرصُه على تحقيق مسائله وإتقان البحث فيها والتدقيق في تجليتها وضبطها مما يُهمله كثير من العلماء في عصرنا ـ للأسف الشديد ـ ثم لا تقف ظاهرة الإهمال هذه عند حدّ التهاون في ضبط الكلمة وتحقيق معناها بل تتعدّاها إلى التهاون في الفتاوى وتحقيق الحكم الشرعي فيقع الناس في الخبط وتكثر الفوضى في العلم. أما سيدي الشيخ رحمه الله فيكتب صفحات طويلة مثلاً ـ وهي عندي بخط يده الجميل المنسَّق المرتَّب ـ في الفرق بين الوَهْم والوَهَم، وكذلك كتب صفحات طويلة في كتابه "الإسناد من الدين" من ص 51 إلى ص 74 من أجل تتبُّع التحريف الذي وقع في كلمة واحدة فقط من عبارة للإمام عبد الله بن المبارك في فضل الإسناد، ونجد هذا النَّفَس في الاستقصاء والتتبُّع فيما كتبه ابتداءً في تعليقةٍ ثم أخرجه في رسالة حول مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل.

ولقد شهدت هذه الحادثة الدالّة على علوّ همّته وتحسّسه لأمانة العلم وهي أنه رحمه الله أثناء حضورنا عليه قراءة كتاب "شرح ألفية العراقي" غاب مرتين متتاليتين بسبب السفر ثم حضر في المرة الثالثة فأخبرنا رحمه الله ـ وهو من هو في علم المصطلح!! ـ أنّه حضّر الدرس قبل مجيئه إلينا للمرة الثالثة!! وما كان للشيخ رحمه الله تعالى ـ في ظني ـ لِيَتَأتّى له ذلك كلُّه لولا توفيقُ الله الذي هو مفتاح الخير كلِّه ثم حرصُه البالغ على استثمار الوقت، وهو ما يفسِّر نبوغَه وتفوُّقَه وكثرةَ إنتاجه، مع الأخذ بالاعتبار مشاغل الشيخ الدعوية ومسؤولياته التنظيمية في العمل الإسلامي مما لا نجده عند السّواد الأعظم من المشتغلين بالعلم حيث يعتزلون العمل الدعوي ويتخفِّفون من حمل هموم المسلمين للأسف الشديد، بل لقد كان رحمه الله صارماً في استثمار وقته صرامة وصيّة الشاعر:

كن صارماً كالوقت فالمقتُ في (عسى)     وإياك (علاّ) فهي أخطر علّة

وحياته رحمه الله ترجمة صادقة لما كتبه في كتابه النافع الماتع: "قيمة الزمن عنده العلماء" الذي يجدر بكل عالم وطالب علم أن ينكبّ على قراءته والتمعُّن فيه مرة بعد مرة، كما يجدر بكل مسلم اقتناؤه وقراءتُه ليتعرّف على سرّ عظمة الحضارة الإسلامية وليفهم لُغْز تفوّق علماء السلف وفضلهم على الخلف. والشيخ في مجال استفادته من وقته في الانكباب على العلم نادرٌ عُجَاب، فما دخلت عليه مرة إلا كان موضوعَ الجلسة (العلم) قراءةً أو مناقشةً أو مذاكرة، وكثيراً ما كنت أدخل إلى غرفته والكتب التي يشتغل بها مفتوحة مفروشة مملوءة بها الغرفة، ولقد حدثني الأخ المحامي الطبيب الدكتور فؤاد العريس أنه قبل سنوات وكان لا يزال يتخصص في الطب في باريس جاء الشيخ رحمه الله إليها للمعالجة في عيونه وكان معه أستاذه العلاّمة الفقيه الشيخ مصطفى الزرقاء، فكان الأخ يرافق الشيخ أحياناً إلى المركز الطبي وفي السيارة يُخرج الشيخ كتاباً ويسلّمه إياه ويطلب منه أن يقرأ له بسبب ضعف بصره، بل أعجب من ذلك أنه أثناء معاينته للجهاز الذي كان يبحث عنه لاقتنائه ـ وكان من مزاياه أنه تُدخَل فيه الورقة فيُكبِّر حروف كلماتها أضعافاً مضاعفة ـ كان رحمه الله ينتهز الفرصة كلما واتت فيُخرج الكتاب ويُدخله في الجهاز ويستفيد ولو من لحظات للقراءة فيه.

ولا يسعني أن أدع الكلام عن عِلم هذا العَلَم رحمه الله للكلام عن أدبه وهو طويل الذيل واسع الأطراف مما لا تتحمله صفحات هذا العدد من المجلة مما سيضطرّني إلى إرجائه إلى العدد القادم، لا يسعني ذلك إلا بعد وقفة مع مزايا علم الشيخ رحمه الله تعالى.

مزايا علمه:

المزية الأولى: سَعَته وتنوّعه ولقد جاء في ثنايا كلامي ما يدل عليها.

المزية الثانية: حرصه على التحقيق والإتقان فيه ولقد ذكرت العديد من الأمثلة على ذلك.

المزية الثالثة: تفوّقه في علم مصطلح الحديث وتجديده، فلقد كان للشيخ رحمه الله اهتمامٌ خاص بهذا العلم ذلّل صعابه وخاض في عويص مسائله وحلّ معضلاته، وما تهيَّب من تحقيق أصعب المسائل فيه. ولقد عشت حوالَيْ شهر مع آخر كتاب حققه الشيخ رحمه الله في هذا العلم ونشره العام الماضي وهو من أوسع كتب المصطلح وهو كتاب "ظفر الأماني" للإمام اللَّكْنَوِي وقبله كتاب العلاّمة طاهر الجزائري "توجيه النظر إلى أصول الأثر" حيث كلفني الشيخ بقراءتهما قبل دفعهما للطباعة فأتى الشيخ فيهما بكل ظريف طريف وضمّنهما تحقيقات ماتعة رائعة مُدهشة تشهد لرسوخه في هذا العلم وإتقانه له. ومما يدل على ذلك أيضاً أنه حقق (12) كتاباً من كتب هذا العلم و(12) رسالة، كما ألّف هو في بعض مباحثه كتاب "لمحات من تاريخ السُّنّة وعلوم الحديث" بالإضافة إلى أربع رسائل متنوّعة في علوم الحديث.

المزية الرابعة: إنصافه واستفادته من الجميع، فهو غير متعصِّب إلا لما يراه صواباً ويحرص على أن يدور مع الحق والدليل حسبما يرى، ولذلك أخذ من شيوخ متعدِّدي المشارب العلمية. ولكنه مع إنصافه لإيجابي في دين الله ولكنْ بأدب جمّ وتواضع مع شيوخه وإخوانه وكالأسد الهصور مع أعداء الدين. فنجده يخالف شيخه العلاّمة مصطفى الزرقاء في بعض الفتاوى مع أنه شديد الاعتداد به والإعجاب بعقليته، ونجده يخالف شيخه العلاّمة محمد زاهد الكوثري في جفوته لابن تيمية وابن القيّم ويحقّق رسالتين للأول وكتاباً للثاني بإعجابٍ بهما وثناء وترحُّم عليهما مع أنه يخالفهما في عدد من المسائل في الأصول والفروع، ولا تخفى منزلة الكوثري رحمه الله عنده وأثره فيه، وحدثني مراراً عن تساهلات القرضاوي في فتاويه وأنه في أحد المؤتمرات ردّ عليه علناً في مسألة مصافحة المرأة حيث يُجيزها ـ مخطئاً ـ القرضاوي مع أنهما من مدرسة فكرية وحركية واحدة. كما نجد أنه في سياق إشادته بشيخه العلاّمة المحدّث أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه لكتاب "تصحيح الكتب وصنع الفهارس" يبيِّن في التعليقة أن شيخه مجانب للصواب في كتابه "نظام الطلاق في الإسلام".

وفي المقابل يكتب بلغة صارمة ضد مفسدي الدين وأعدائه فيتحدث ـ مثلاً ـ في كتابه "لمحات" عن المتملِّقين للحكام بالباطل في كل عصر ومِصْر وأنهم مرض وخيم في جسم الأمة وبلاء عظيم في حياتها وقال فيهم: فاقدو الذمة، في دينهم رِقّةٌ وضَعْف، يحبون دنياهم ويؤثرونها على دينهم... ويقدمون لهم ـ بحسب ذمتهم ـ من النصوص الشرعية ما يؤيدهم فيما هم عليه من ظلم أو لهو أو بطالة أو فساد.

وفي ثنايا ترجمته الحافلة الواسعة لعبقريّ الزمان والمدافع عن الإسلام في وجه الكمالية العلمانية: سعيد النُّوْرْسي، وذلك في كتابه "العلماء العُزّاب" رمى رحمه الله سهامَه الحادّة صوب صدر الطّاغوت آتاتورك ـ كما وصفه ـ والكماليين والعلمانيين. فجزاه الله عن أدبه وإنصافه خيراً وعوّضه عن غَيْرته وكفاحه من ثواب المجاهدين ذُخراً.

وبعد الكلام عن علم شيخنا ـ رحمه الله وأثابه رضاه ـ في العدد السابق أتحدّث في هذا العدد عن أدبه الجمّ الذي يستذكر به جليسُه سِيَرَ وأخلاقَ الصالحين من السلف الكرام رضي الله تعالى عنهم. وأنا لا أتحدث عن مستوىً من الأدب الذي لا بد أن يتوفّر في العلماء والدعاة،

وإنما أتحدث عن مستوى متفوِّقٍ فريدٍ قلّ نظيره بين علماء عصرنا ـ فيما أعلم ولا أزكي على الله أحداً ـ إلى الحدّ الذي يأسر به الشيخ رحمة الله عليه جليسَه ويأخذ بمجامع إعجابه فيِنتقل إلى عالَمٍ آخرَ لا نعهده حتى في مجالس كثير من العلماء فضلاً عن مجالس مشايخ السوء الذين لا همّ لهم إلا النفاق والتزلُّف ولا حديث لهم إلا في المناصب والمكاسب.

وينطبق على سيدي الشيخ رحمه الله ما كتبه هو في إحدى تعليقاته الحافلة المغذِّية المحفِّزة على "رسالة المسترشدين" للإمام المحاسبي ـ ص 102 من الطبعة الثامنة ـ حيث يقول: "ورؤية الرجل الصالح القدوة إنما تذكِّر بالله، لما يُرى عليه من النور والإشراق، والأُنس والطمأنينة، والمحبة والسكينة، في سَمْته وهيئته وخَشْعته، في نُطقه وصمته وإطراقه وحركته وسكونه وكل شؤونه، فلا ينظره ناظر إلا كان نظرُهُ إليه مذكِّراً له بالله وكانت صورته موجِّهة له للإقبال على الله، أولئك الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله".

وكل من رأى الشيخ رحمه الله عليه يعرف أنه مَهيبُ الطلعة، ناهضُ القامة، منوَّر الوجه، كساه الشَّيْب إشراقاً ووقاراً، وانعكس اشتغاله بذكر الله وإجلاله وتعظيمه على وجهه صفاءً واستبشاراً، ولا أبالغ إذا قلت: إنه رحمه الله تُذكِّر بالله رؤيتُه ويَنْهض بجليسه حالُه ومقالُه.

اعتناؤه التامّ بالأدب تعليماً وتطبيقاً:

ولقد تأتّى للشيخ رحمه الله ذلك من اعتنائه التامّ بالأدب حتى لكأنّ (الأدب) يتقاطر منه، وليس هذا الكلام من قبيل المبالغات والمجازفات فلست ـ بفضل الله تعالى ـ ممن يحبّ المبالغات في حق الشيوخ ولا ممن يقدِّسونهم بل أذكر ذلك وأرى أنّ هذه النظرة من قِبَل بعض طلاب العلم وتلاميذ الشيوخ انحراف عن سَنن التربية الإسلامية، ومؤشِّر للتخلُّف وللجمود والانهزامية، يستغلّها تجارُ المَشْيَخة أبشع استغلال في تعظيم ذواتهم أو الانحراف بتلاميذهم في الولاء للباطل وتمجيد الطواغيت.

واعتناؤه التامّ بالأدب يظهر فيما بثّه في كتبه العديدة من الإشادة بأدب السلف وسرد حكايات أدبهم، ومن يلحظ هذا الجانب من اهتمام الشيخ رحمه الله يشهد لبراعته ومهارته في انتقاء روائع أخبار أدب العلماء والصالحين.

فالشيخ رحمه الله كتب رسالةً ماتعة ممتعة بعنوان (من أدب الإسلام) ضمّنها جملة من الآداب، وقال في أوائلها: "وهذه الآداب المذكورة هنا من لُباب الشريعة ومقاصدها، فليس معنى تسميتها (آداباً) أنها على طَرَف الحياة والسلوك يُخَيَّر الإنسانُ في فعلها وتركها،أو الأَوْلى فعلُها. قال الإمام القَرَافي في كتابه "الفروق" وهو يتحدث عن موقع الأدب من العمل وبيان أنه مقدَّم في الرتبة عليه: واعلم أن قليل الأدب خير من كثير من العمل، ولذلك قال رُوَيْم ـ العالمُ الصالحُ ـ لابنه: يا بُنَيَ اجعلْ عملَك مِلْحاً وأدبكَ دقيقاً. أي استكثر من الأدب حتى تكونَ نسبته في الكثرة نسبةَ الدقيق إلى الملح في العجين".

فأين هذا مما عليه أهل الأهواء المنافقون الذين ينسُبُون أنفسهم إلى العلم ويتظاهرون بالحرص على نشر العلم الضروري (!!) وهم محرومون من بهاء العبادة وبركة الالتزام بالسُّنّة وفقه (الولاء والبَرَاء) ولا أدب عندهم مع العلماء، بل دأبهم التطاول عليهم وتكفير أهل السابقة منهم في مَيْدان الجهاد وقول الحق وجرأة المناداة بتحكيم الشريعة الإسلامية؟!!

وكذلك له ـ رحمه الله ـ كنوز منثورة من حكايات الأدب الرفيع والخُلُق النبيل عن الصالحين والعلماء الربانيين تطفح بها تعليقاته على "رسالة المسترشدين" للإمام المربِّي الحارث المحاسبي، بالإضافة إلى اعتنائه بنشر قصيدة (عنوان الحِكَم) لأبي الفتح البُسْتي وهي من غُرَر القصائد في الآداب والأخلاق والنصائح الحكيمة الغالية. هذا كله من حيث الاعتناء بالتعليم، أما التطبيق فيظهر في شخصية الشيخ في مختلف جوانبها:

1 ـ أدبه مع الله تعالى:

في كثرة ذكره له سبحانه وتعالى، حتى إنني أتذكر الآن أثناء كتابتي هذه السطور تلك الأوقات المباركة التي كنتُ أقضيها معه أثناء اصطحابه رحمه الله تعالى في بعض الأحيان بسيّارتي من (الدُّخنة) إلى مكان الدرس في (العُلَيّا) في الرياض أثناء حضوري عليه قراءة: (ترجمة الإمام مسلم) من سِيَر أعلام النُّبَلاء للإمام الذهبي، ثم (مقدمة صحيح مسلم)، ثم (مقدمة ابن الصلاح)، ثم (شرح ألفية العراقي)، فكان ـ رحمه الله وأغدق عليه رضوانه ـ إذا لم نتباحث بالعلم يلهج لسانُه بالأذكار ولا يَفْتُر عن الثناء على الله وتعظيمه. وتعبيراً عن حرصه على الأدب عند ذكر الله تعالى كتب تعليقة طويلة على "رسالة المسترشدين" ـ ابتداءً من الصفحة 112 من الطبعة الثامنة ـ حول أدب ذكر الله والتحذير من بِدَع الذكر والتي منها بدعة أولئك الذين "يذكرون اسم الله سبحانه، في أوّلِ دَوَرانِ حلقاتهم بلفظٍ هادىء مفهوم ثم يُسرعون بالذكر والخَلْع والوثب حتى لا يُفْهَم عنهم ما يقولون! فما هي إلا أصوات تنخفض وترتفع، وأنفاس مبهورة تشتدّ وتندفع، وترتفع، وأنفاس مبهورة تشتدّ وتندفع، وهمهمة تتردَّد، وحركات تتجدّد، ويَعُدّون ذلك ذكراً لله! فإنا لله ـ من قلة الأدب مع الله ـ وإن إليه راجعون" كما قال بالحرف رحمه الله.

بالإضافة إلى بكائه إذا ذُكِّر بالله أو غَيْرة على حرمات الله أو إذا سمع كلماتِ مدح وثناء. والذي يعرف الشيخ رحمه الله تعالى لا يستغرب وصفى له بأنه (بكّاء سريع الدَّمعة)، وفي ذاكرتي العديد من الذكريات ولكن أقتصر هنا على قصتين:

الأولى: عندما حضرت شريط فيديو تكريمه الذي حصل في (اثنينية) السَّرِي السعودي عبد المقصود خوجة بتاريخ 14/11/1414 في جُدّة استمعت إلى قصيدة لشاعر المدينة المنوّرة ـ لحلبيّ الأصل ـ محمد ضياء الدين الصّابوني يُعدِّد فيها مزايا الشيخ ويُثني عليه وعلى مقامه العلمي الرفيع حتى شبّهه بالإمام أبي حنيفة فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن انفعل وغضب وأبدى بعد إلقاء القصيدة عدم رضاه عن هذا التشبيه وأنه دون ذلك بكثير واغرورقت عيناه بالدمع ـ لا مسَّتْهما النار إن شاء الله، اللهم آمين ـ.

والثانية: ما قرأته في الحوار الذي أجرته مجلة المجتمع معه قبل وفاته ـ طيّب الله ثراه وجعل الجنة متقلَّبَهُ ومَثْواه ـ، ثم نَشَرَتْه في 25 شوال/1417 هـ، العدد 1240، حيث نقل محاوِرُه كلامَه رحمه الله عن أحد الحُكّام الصالحين وهو الملك نور الدين الذي كان يُدني العلماء من مجلسه كلَّ يوم ويُقْرَأ الحديث فيه، ولمّا حُوصرت مدينة (دِمْياط) من قِبَل الفرنج وكان في مجلسه صديقُه العالم المحدّث عمر بن بدر المَوْصلي رحمه الله، فقرأ عليه الحديث المسلسل بالتبسُّم ـ أي كل من رواه من الرواة تبسَّم فصار مُسَلْسَلاً بالتبسُّم ـ وطلب هذا العالم من الملك أن يبتسم حتى يستمرّ تسلسلُ التبسُّم في الحديث قال له الملك: لا أتبسّم! فسأله: لماذا؟ قال: كيف أتبسّم و(دمياط) مُحاصَرَة من الفرنج؟!

هنا قال محاوِرُه الصحفي: تأثّر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله بموقف الرواية وسال دمعه!! فسبحان الله! ما أندر هؤلاء العلماء الصالحين الغياري على دين الله! وما أفدح خسارتهم! أما مَوْتى القلوب وعبيد المناصب الذين لا ينبض منكم عِرْق غَيْرةً على دين الله فما أحراكم بالاستيقاظ من غفلتكم وأما أنت يا سيدي الشيخ فطِبْ مُقاماً في مثواك المبارك قريرَ العين.

ومن شواهد أدبه مع الله تحرِّيه الشديد في العبادات التي تُقال في جَنْب الله عزّ وعلا، حتى كتب مقالةً مشهورةً منشورةً في مجلّة الأمّة القطرية بعنوان (تعبيرات خاطئة في جنب الله) تتبّع فيها بعض الأخطاء الشائعة في كتابات بعض العلماء والكُتّاب مما لا يليق بالله تعالى، كما أنّ له فتوى مشهورة ـ ألحقها بكتاب رسالة المسترشدين ـ في عدم مشروعية قول الذاكر: "الحمد لله حمداً يُوافي نِعَمَه ويُكافىء مزيده" لأنه لم يثبت نقلاً ولا يصح معنىً إذ ليس أحد من الناس يكون حَمْدُه بالغاً نِعَم الله عليه ولا مكافئاً لمزيد فضله إليه. وبالمناسبة ونصيحة للقراء والقارئات أنبِّه إلى أنه لا يجوز قول: العصمة لله، وإنما نقول: الكمال لله، أما العصمة فهي للأنبياء، ولا يجوز قول: عدد كمال لله، كما أفتى بذلك عدد من كبار محقّقي العلماء، وكذلك لا يجوز قول: أعشق الله أو رسول الله، علماً أن (العشق) لم يَرِد في القرآن ولا في كتب الحديث الستة ولا في مسند الإمام أحمد إلا في موضع واحد فيه في حقّ العابد الذي عشق امرأة.

2 ـ أدبه مع العلماء:

والشيخ مؤدَّب غاية الأدب مع العلماء وعلى رأسهم سيِّدُ العلماء سيِّدُنا محمد صلى الله عليه وسلّم ثم أصحابه السادة العلماء ثم علماء السلف رضي الله عنهم، وما أروع ما كتبه وقرّره في رِفْعة مقام النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم وشَرَف منزلته وعدالة صحابته وتأثرهم بتربيته في تعليقه على "رسالة المسترشدين" ـ ص 18 و19 ـ وأسهب فيه في كتابه "لمحات من تاريخ السّنة وعلوم الحديث" ـ من ص 33 إلى ص 55 من طبعة دار البشائر الإسلامية الرابعة الجديدة ـ، فليُقْرَأ فإنه من العلم النافع والتحقيق النادر. ويقول رحمه الله في تعليله اكتساب الصحابة الكرام الصلاح والأدب والتقوى من جرّاء صحبة النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم: "إذا رأى أحدُنا في هذه الأزمنة المتأخّرة عالماً صالحاً تقياً صارت رؤيتُه له ـ ولو لحظةً أو دقائقَ معدودةً ـ غِذاءً يتطعّمُهُ يتمطَّق بطعمه طول حياته، ويدفَعُه إلى الخير والطاعة كلما ذكره، فكيف برؤية سيّد الخلق والأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلّم فِداه أبي وأمّي. وإنما أطلتُ بعضَ الشيء في بيان فضل (الصُّحبة الشريفة) لأن هذا الموضوع ـ بتكدُّر العقول والقلوب بالأفكار الضالّة ـ صار ضامراً في أذهان بعض الناس اليوم فاقتضى مني الإطالة" انتهى كلامه رحمه الله. وكتابه الطّريف "الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلّم وأساليبه في التعليم" مرآة صافية لأدبه العالي الرفيع مع جناب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

ومن شواهد أدبه مع السلف الصالح وغَيْرته عليهم أنه لمّا خشي أن يظن القارىء مما أورده من أخبار العلماء الفحول في سَعَة علمهم وكثرة مؤلَّفاتهم في كتابه "قيمة الزمن عند العلماء" أنهم أعلم من السلف، كتبَ أكثر من صفحتين ـ ابتداءً من ص 90 من الطبعة الخامسة ـ في بيان أفضلية السلف وأعلميتّهم. أما أدبه مع شيوخه فعَجبٌ عُجاب، إذ لا يذكرهم إلا مع الترحُّم عليهم والدعاء لهم مطبِّقاً وصية الإمام الفقيه العابد العلاّمة أبي محمد رِزق الله التميمي الحنبلي المتوفَّى عام 488 هـ حيث يقول: (يَقْبُحُ بكم أن تستفيدوا منا ثم تذكرونا ولا تترحّموا علينا).

فمثلاً من دقائق أدبه مع شيوخه ما حدثني به الأخ الأثير، الداعية الطبيب، الدكتور فؤاد العريس من أن الشيخ رحمه الله عندما جاء إلى باريس طلباً للعلاج ـ كما في القصة التي نقلتُها عنه حفظه الله في العدد السابق ـ كان بصحبة شيخه العلاّمة فقيه العصر مصطفى الزَّرقاء، وكانا ينزلان في أحد فناق باريس، فكان يزورهما الأخ في غرفتهما فيرى من أدب الشيخ رحمه الله ولُطفه مع شيخه وخدمته له ما يُدهش!! ومن ذلك أنه كان يسابق شيخه للإتيان بنعليه وصَفِّهما قرب سريره مع أنه كان في سنّ يقارب الخامسة والسبعين.

ولا يُسْرِعَنّ إلى ذهن القارىء أن الشيخ الزرقاء من أولئك مُمْتَهِني المشيخة الذين يستذلّون تلاميذهم في خدمتهم أو مدّ يدهم لتقبيلها ولو قبل قدوم أحدهم بُعْد أمتار أو مدّ رجلَيْهم لخلع الحذاء أو إلباس الجَوْرَبَيْن... ولا سيِّدي الشيخ من أولئك السُّذّج المخدَّرين... كل ما هنالك: أدب من التلميذ بمبادرةٍ منه للإكرام والوفاء بالجميل مع تحفُّظ العالِم وامتناعه وخَجَله. بل أقول: إن شيخنا ـ يَشْهَدُ اللهُ ـ كان إذا ما أقدم أحِدُنا بعد غياب طويل عنه ليقبّل يده ـ علماً أنه بالنسبة لنا كالجَدّ ـ جذبها ممتنعاً بشدّة.

ومن شواهد أدبه أيضاً أنه كان يُقْبل بلهفة لتقبيل يد من يعرف فيهم العلم والفضل والصلاح كما رأيت بعينَيَّ في إحدى المرات ـ على ما أذكر ـ في مشهد من أروع مشاهد الأدب والتواضع إقبالَه بشَغَف عندما قابل في أحد ممرات كلية أصول الدين شيخنا العلامة الصالح المنوّر عضو جماعة كبار العلماء في مصر الشيخ محمد عبد الوهاب البُحَيْري ليقبّل يده، رحمة الله عليهما ونوّر مرقَدَيْهما. ولشدة اهتمام الشيخ رحمه الله بضرورة الاعتناء بالأدب مع الشيوخ كتب صفحات طويلةً في تقدمته الثانية لرسالة المسترشدين، فيها غُرَر من الفوائد وروائعُ من الحكايات والفوائد، فلْتُقْرَأ فإنها من الغنائم. ولكن أذكر من هذه الروائع واحدةً مما انتقاه الشيخ رحمه الله تعالى وهي قصة الإمام الجليل إمام أهل السنة أحمد بنِ حنبل عندما كان متّكئاً من مرضٍ ولما ذُكر عنده إبراهيم بن طَهْمان ـ أحد العلماء الصُّلَحاء ـ استوى جالساً وقال: (لا ينبغي أن يُذكر الصالحون ونحن متّكئون).

3 ـ متفرّقات من أدبه المُدْهش:

وبما أن صفحات أدب الشيخ رحمه الله هي سِجِلُّ حياته كلِّها لا يتّسع المقام لسردها جميعها، فضلاً عن أنّ ما أعرفه نقطة من بحر ما يعرفه عنه عارفوه ممن أطالوا صحبته وعلى رأسهم تلميذه الأجلّ شيخنا العلاّمة محمد عوّامة الذي تمتّد صلتُه به واستفادته منه حوالَيْ أربعين سنة وأخي الغالي الأثير العالِم الداعية الشيخ مجد مكي والأخ الشيخ محمد الرشيد، بالإضافة إلى سائر عارفيه وخاصة أهله، مما يستحقُّ أن يُجمع لإحياء خُلُق (الأدب) المفقود في حياة أكثر المسلمين اليوم. فما أكثر العقوقَ حتى مع الآباء والأمهات! وما أبشعَ الخياناتِ حتى مع الأصدقاء والأقرباء! وما أوسعَ انتشارَ الكذب حتى في صفوف المتصدِّرين للدعوة! وما أسهلَ على كثير من المتديِّنين وأصحاب العمائم التفريطَ حتى بأمانة الكلمة وأمانة الموعد وأمانة المال فضلاً عن أمانة نشر العلم وإقامة الدين والدعوة إلى الله! فإلى الله المشتكي وأعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، ومن الخيانة بعد الاستقامة، ومن الخذلان بعد السداد.

وإذا كان ما لا يُدرك كله لا يُترك كله فإنني أختم الكلام عن أدبه الجمّ بهذه الأخبار المُدْهشات:

القصة الثالثة التي حَدّثنيها الأخ الطبيب فؤاد العريس، وهي أنه أثناء صحبته للشيخ رحمه الله في باريس طلب شيخنا معرفةَ مكان إقامة الدكتور العلاّمة محمد حميد الله الهندي الذي يَعرف عنه أنه مقيم في باريس وبعد لأي ومشقّة وطول سؤال اهتدَى الشيخ رحمه ومن معه من الشباب إلى منزل هذا العالِم الهندي الذي يُؤثر العُزْلة ويُقيم مع كتبه للبحث العلمي في منزلٍ متواضع جداً على سطح مبنى قديم رقم 6 في شارع لوكسمور في باريس، فصعِدوا إليه فإذا به يعيش حياةً زُهدٍ وتَقَشُّف يشغل وقته في العلم والعبادة، ولوحظ أن الدكتور حميد الله سَمْعَه ضعيفٌ جداً ومن جهته الشيخ رحمه الله يعاني من ضعف بصره فصارا يتخاطبان بصعوبة ويستعين الشيخ بالإشارات وإذا بالأخ يُدرك أن الشيخ رحمه الله ما تكبّد هذه المشقات وألحّ على السؤال عن مكان إقامة هذا العالم الهندي إلا ليشكره على خدمةٍ أسداها إليه قبل أكثر من عشر سنوات تتعلّق بإحدى المخطوطات. ولما لم يكن الأخ الدكتور ضابطاً لتفاصيل الموضوع إذ مضى على الحادثة أكثر من ستّ سنوات وأنا عالق في ذهني أن الشيخ رحمه الله سَجّل هذه الخدمة في أحد كتبه رجعتُ إلى عددٍ منها أقلِّب صفحاتها حتى عثرتُ على الخبر في مقدمته لكتاب "الموقظة" للإمام الذهبي رحمه الله حيث يقول عن نسخة الكتاب الموجودة في المكتبة الوطنية بباريس ما يلي: (وكنتُ رجوتُ من الصديق المفضال العلاّمة الدكتور محمد حميد الله، المقيم في باريس حفظه الله تعالى ورعاه، أن يتكرّم فيصوِّرها لي، فوجد أمر التصوير يتأخّر قليلاً، فتفضّل بنسخها لي بقلمه وخطّه ثم قابلها بالأصل، وأثبتَ عليها ما على حواشي الأصل من تعليقات وبعث بها إليّ مشكوراً متكرّماً في 18 ذي الحجّة 1399، فله أجزل الشكر والثناء والتقدير على هذه المساعدة العلمية الكريمة). هذا ما كتبه في مقدمة الكتاب مؤرَّخاً في 23 من شوال 1404 هـ. ومشتملاً على الشكر، ومع ذلك وبعد حوالَيْ اثنَتَيْ عَشْرة سنة ينتهز فرصة وجوده في باريس ويُلح على مقابلة الدكتور حميد الله ولو تكبّد المشاق وعلى كِبَر سنّه وانشغاله بالعلاج، فقط ليُسدي له الشكر. الله أكبر ما أندر هذا الوفاء! وما أعزّ هذه الأخلاق! وما أقسى قلوب كثير منا بطغيان حب الدنيا والجاه وغلَبَة الحسد عليها حتى من أناس نعيش معهم سنوات طويلة ونظنّهم من المقرَّبين ومن أخصّ المحبِّين فإذا بالحقيقة تتكشف ويفتضح فيهم خُلُق التعامل بوجهين وتكشف الأيام عن انطواء قلوبهم على داء الحسد المقيت فلا يراعون ليس فقط وُدّ لحظة ـ كما يَفترض الإمام الشافعي في أخلاق الأحرار ـ بل وُدّ سنوات ورفقة عمر في العلم أو في طريق الدعوة. فإلى الله المشتكى.

قصة أخرى تدلّ على تواضعه وهضم نفسه. فقد دعوتُه مرة إلى الطعام في منزلي في الرياض في السكن الجامعي للمتزوِّجين في (الدخنة)، وهو الحيّ الذي كان يسكن هو فيه أيضاً، فدق الباب بمنتهى اللطف وسألَتْ أهلي: من؟ فإذا صوت الشيخ الرقيق: عبد الفتّاح. هكذا وحسب، من دون ألقاب ولا فخفخات. فأسرعتُ إلى الباب وفتحتُه فدُهشت أنه وحده لا خادم ولا مرافق وهو مَن هو في علمه ومكانته القيادية في العمل الإسلامي!!

ومقابل هذا الأدب الجمّ والتواضع الرائع كم يستاء أحدنا عندما يشاهد في أوساط طلاب العلم المتبدئين وبعض المعمَّمين الذين هم في العلم لا في العِير ولا في النَّفير كما يُقال: إسراعَهم في لُبْس زِيّ المشيخة الرسمي (الجُبّة والطربوش الأحمر تلفّه العِمامة) ثم إذا عرّفك أحدهم عن نفسه على الهاتف أو فيما يكتب إليك فلا بد من أن يذكر (الشيخ) فلان!! بل أحياناً (فضيلة الشيخ) فلان، وإنني لتتملَكني الدهشة من أدب الشيخ رحمه الله وتواضعه أنه طوال سنوات تعرُّفي عليه وفي كل رسائله إليّ ومكالماتِهِ الهاتفية لم أسمع منه ولم يكتب إليّ ولا مرة (الشيخ عبد الفتاح).

بل لما كتب إليه شيخه العلاّمة العالم الصالح أحد أئمة العصر مفتي مصر سابقاً ـ أيام كان يتولى منصب الإفتاء فيها الأئمة العلماء الصالحون!! ـ فضيلة الشيخ حَسَنَيْن مخلوف تقريظاً لخدمته رسالة المسترشدين وافتتحه بقوله: (إلى أخي وصديقي الأستاذ العلاّمة المحقق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة أدام الله توفيقه)، فإذا بسيدي الشيخ رحمه الله يعلّق أسفل الصفحة: (قال عبد الفتّاح: هذا من تواضع شيخنا وسُمُوِّ أخلاقه العالية الرفيعة فإني منه بمنزلة الوليد من الجَدّ المجيد...) فرَحَمات الله عليه ما أروع أدبَه!!

وبعد، فهذا غيض من فيضِ أدب الشيخ، ولا أدري إن كنتُ نجحتُ في التعريف بنزرٍ من أدبه الرفيع وفي تمكين القراء والقارئات الذين لم يتشرفوا بصحبة الشيخ رحمه الله من تخيُّل طَيْفٍ من هذه الشخصية العظيمة في جانبها العلمي وجانبها الأدبي، وإن كان لا يزال عندي كلام كثير ـ لا تتّسع له الصفحات المخصَّصة من هذه المجلة ـ في جانب مهم من أدب الشيخ رحمه الله وهو ذوقه الرفيع وحسُّه الرقيق الرفيق في النظافة والضيافة، وفي الترتيب واختيار الألوان وتناسق الأشياء، وفي عنايته الفنية والجمالية بكتبه، وفي اهتمامه بالكتاب وأدبه معه مما لا أعرفه إلا عند شيخٍ آخر من شيوخي رحمهم الله: شيخ القُراء في لبنان العلاّمة حسن دمشقية، وفي مَلْبسه وأناقته من دون اختيال ولا بطر، وفي مخاطباته ورسائله، مما لا يَسَع العارف بذلك كلِّه إلا أن يعترف أنه فضل الله وتوفيقه وآية من آيات عظمة دينه الذي يطبع الصادق المخلص فيه بهذا الطابَع النموذجي الفريد الذي يرفع الرأس ويُظهر عظمة الإسلام ويكشف سرَّ دخول الناس في تاريخنا المجيد أفواجاً في دين الله.

فاللهم أعظِمْ لشيخنا ثوابَه، ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعدَه، وأخلُفْنا مثلَه، إنك وليُّ ذلك والقادرُ عليه، اللهم آمين.

فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:

وكتب الشيخ ضياء الدين الصابوني (شاعر طيبة) هذه القصيدة الشعرية التالية - مشاركةً منه في الاحتفاء بالدكتور أبي غدة  في الاثنينية- فقال:

إن أردت العلم فاقصد حلبا            فالنجوم الزهر فاقوا الشهبا

إن شيخي طيب من طيب                ينفحُ الطيِّب دوماً طيبا

هذا (أبو غدةٍ) في علمه علَم           فإنَّه مَنْهَلٌ للظامئ السَّغب

هذا (أبو زاهدٍ) إن كنتَ تجهلُه     فما أتى مثلُه في سالف الحِقَب

مَنْ مثلُ (شيخي) في فهمٍ ومعرفةٍ مَنْ مثلُه في فنونِ العلمِ والأدب؟

فيا رعى اللهُ أيَّاماً بصحبتِه   مـرتْ بنـا كوميضِ البرقِ فـي السحب!

عرفتُه فعرفتُ الفضلَ شيمتَه     علاَّمةُ (الشـام) شيـخُ العلـمِ والكتـب

(أبو حنيفةَ) في رأي وفي جدلٍ            يسمو بهمتِه لأرفع الرُّتَب

يأتيكَ بالرأي جَزْلاً دونما حصَر  ورأيه الصدق ما في ذاكَ من رِيَب

تسمو البلادُ بأبناءٍ جَهَابِذَةٍ       وإنما العلمُ والآدابُ في (حلب)

مدينةُ العلم كمْ باهى الزمانُ بها     مدينة الشعر والفرسان والطرب!

فأين مني (سيف الدين) قائدُها    مَنْ قاومَ الرومَ لم يَضْرَب ولم يُعَب

(ستين) معركةً قدْ خاضها وقضى على القياصر أهلِ الجوْر والصُّلُب

هذا (عليٌّ) وما أحلى مجالسَه!        وتلكَ دولتُه تزهو على الشُّهب

وذاكَ (أحمدُ) رَبُّ الشعر، نافَسَهُ      (أبو فراس) أميرُ الشعر والحرَب

يشدو فمُ الدهر ألحاناً موقّعةً     (ملاحماً) خطَّها في الساحِ لا الكتب

كَمْ أنجبتْ مـن رجـالٍ كالنجـوم عُـلا      وكم سَمتْ برجالٍ قادة نُجُبْ!

قومٌ إذا غَضِبُوا ضجَّتْ لغضبتهم  جحافلُ الكفـرِ بيـن القَصْـفِ واللَّهـب

شُمُّ العرانين، أبطالٌ جحاجحة     بيضُ الوجـوه كِـرامُ الأصـل والنَّسـب

وتلك (قَلْعتُها) الشَّماءُ ناطقةٌ   شابَ الزمانُ فلـم تَضْعُـفْ ولـم تَشِـب

يفنى الزمانُ ولا تفنى مآثرُها           وليس في أرضِها رِجْلٌ لمغتَصِب

يا أيها (المحتفِي) بالشيخ تكرمةً       هذا الفخارُ، وهذا غايةُ الأرب

كرمتمُ العلمَ والإخلاصَ في رجل          سما بهمته العلياء للشُهُب

العالِمُ العاملُ المحمود سيرتُهُ           ربُّ البيانِ، إمامُ الفقهِ والأدب

يجزيكَ ربُّك في تكريم (عالِمنا)        فأنتَ للعلما كالوالِد الحدِب

كرمتَ كلَّ أبيٍّ مخلص عَلَمٍ مثل  (الدواليبي) و(الزرقـا) ذوي النسـب

ثلاثةٌ في سَما (الشهباء) لامعةٌ     مثلَ النجوم تراءتْ دونما حُجُب

قد طاولوا النجمَ لم تَفْتُر عزائمهم  وزاحموا الناسَ في التحصيلِ بالرُّكب

فإن طلبتَ من العلياء منزلةً        فالمجدُ بالعلمِ، ليس المجدُ بالنشب

العلمُ نورٌ وكمْ من أمةٍ نهضتْ         بعالِم فسمتْ فيه إلى الشُّهُب

إذا رأيتَ عناءاً في مسالِكِه        فسوف تجنِي ثمارَ الجُهْدِ والنَّصَب

الله يَشْهَدُ أني لا أجامِلُه           هي الحقيقةُ، ما في ذاكَ من رِيَب

يقضي الليالي في بحثٍ وفي طلب        محافظاً وقته يأتيكَ بالعجب

الوقتُ أَنفَسُ شيءٍ أنت ذاخِرُه أغلـى مـن الذهـب  الإبريز والنَّشَـب

أجهدتَ نفسَك في العلياء تخطبها كالشمس ساطعةً في برجها الذهبي

مَحَبَّةٌ (لرسولِ الله) صادقةٌ                إن المحبَّ لخيرِ الخلْقِ لم يَخِب

قد قال (شاعرُنا)  ويا لحكمَتِه      بنتُ التجارب والتفكير والدأَبِ

(بَصُرت بالراحةِ الكبرى فلم ترها     تُنالُ إلاَّ على جِسْرٍ من التعب)

والله أسألُ عزَّ المسلمينَ به                 فإنَّه أملُ الإِسلام والعَرب

صلى الإلهُ على الهادي وعترتِه  مـا غَنَّتِ الـوُرقُ في رَوْضٍ علـى عَذَب

من سلسة في سجل الخالدين:

وكتب الشاعر (شريف قاسم) قصيدة يرثي فيها فضيلة الشيخ المجاهد الفقيه المحقق عبد الفتاح أبو غده  يرحمه الله يقول فيها:

هــــو شــجــوُ الـقـلـوبِ يـا شـهـباءُ     ...       فــــاضَ دمــعًــا فـعـيـنُـنا ســحَّــاءُ

وبــصــدري مــــن الــرزيَّــةِ جــمـرٌ     ...            أوقـــدَتْـــهُ بــبــوحِـهـا الـــورقــاءُ

ووجــــومٌ ألــقـتْ عـلـيـه الـمـنـايا     ...       ثـكـلَ قــومٍ فــي حـيـن عـزَّ الـلقاءُ

كــانَ يــومُ الـفـراقِ مـوقفَ صِـدقٍ     ...      لـــيــس فـــيــه لِــمُـوجَـعٍ إخــفــاءُ

يـا دلـيلَ الأخـيارِ إذ دلـهمَ الـخطبُ     ...    وهـــــاجــــتْ بـــريــحِــهــا الأرزاءُ

لــم تـجـدْ ثـلـمةً وتـسـمو سـجاياك     ...      سُــــمُــــوًّا عــيــونُــهـا الأعـــــــداءُ

طـبْـتَ حـيًّـا وطـبْتَ مـيتًا ومَـدَّتْ     ...     لــــكَ رضــوانَـهـا الــعـلـى الــغــرَّاءُ

يـاأميرَ الأفـذاذِ فـي مـوكبِ الـحقِّ     ...    وتــنــأى عــــن فــضـلِـك الأهـــواءُ

عـشـتَ صـنـوَ الـتُّـقى وربُّـك أدرى     ...    أيــــن مــنـك الـمـديـحُ والإطـــراءُ

ورضـــا اللهِ وحـــده هـــو مـنـحى     ...     مـــا تـمـنَّتْ فــي عـيـشِها الأتـقـياءُ

أَوَتَـــنْــأى وفــــي الــجـوانـحِ روحٌ     ...       سـابَـقَـتْـهـا الــمـسـيـرةُ الـحـسـنـاءُ

أيُّــهـا الـعـالِـمُ الـجـلـيلُ اسـتـنارتْ     ...     بــفــيـوضـاتِ عــلــمِــكَ الــعـلـمـاءُ

عـشْـتَـهـا ربَّــانــيَّ قــلــبٍ  مَــداهـا     ...     فـــــي جــهــادٍ وســيــرةٍ لا تُــســاءُ

*                   *                  *     ...     *                   *                 

أيُّــهــا الــراحـلُ الـحـبـيبُ وداعًـــا     ...     لـــــكَ مـــنَّــا وفـــاؤُنــا والــدعــاءُ

فـعـلى الــدربِ لـمحُ هِـمَّتِكَ الـيومَ     ...     سـيـبـقـى عــلــى ســنــاهُ الــعَــزاءُ

ويـمـوتُ الأحـيـاءُ مـن غـير مـوتٍ     ...    إنـــمــا الــعـيـشُ أهــلُــه الـفـقـهـاءُ

لــحـيـاةِ الــشـعـوبِ أنــتــم مــنــارٌ     ...          وبــأيــديــكُـمُ يـــــــرفُ الــــلـــواءُ

ذهــبــوا ويــحـنـا لـمـنـزلِ صـــدقٍ     ...       عـــنـــدِ ربٍّ ســكــانُــه الأنــبــيــاءُ

حـــســنُ الــبــنـا سِــفــرُه بـيـديـنـا     ...       والـسِّـبـاعي والـصَّـفـوةُ الـشـهـداءُ

وأبــــو الأعــلـى والـفـرائـدُ تُـنْـمَـى     ...     لـعـلاهُـم، ولــيـس تـخـفـى ذُكــاءُ

جلَّ ربِّي ، وكيف تُحصى المجراتُ     ...     وهــــاهـــم أقــمــارُهــا والــبــهــاءُ

ورثـــوا الـعـلـمَ عــن نَـبِـيٍّ حـبـيبٍ     ...          فـــبـــآفــاقِ زهــــوِهـــا الـــــــلألاءُ

عــلــمــاءٌ وفــضــلُـهُـم يــتـسـامـى     ...      لـيـت شـعري ولـيس يـوفي الـثَّناءُ

بـذلـوا الـعـمرَ دونَ أغـلـى الـمثاني     ...     والأحـــاديـــثِ إنَّـــهـــم أوفـــيــاءُ

لـم يـبالوا بـسطوةِ الـظلمِ ، والـكفرُ     ...    فَـــحَـــدِّثْ عــجــاجــةٌ هـــوجـــاءُ

قـــامَ فـــي وجــهِـه  الـفـقـيدُ أبـيًّـا     ...        والــشـيـوخُ الأفــاضــلُ الأولــيــاءُ

جــــدَّدوا دعــــوةَ الــنـبـيِّ بـعـصـرٍ     ...        إذ عــلــيــهـا تــكــالــبَ الأعــــــداءُ

إنَّ مَــن لــم يـجـاهدِ الـكـفرَ أو لــم     ...   يــدفــعِ الـظـلـمَ مـابـكـتْهُ الـسـمـاءُ

فــســنــامُ الإســـــلامِ مـــاكــان إلا     ...       فــــي جــهــادٍ، وأهــلُـه الـسُّـعـداءُ

لـــم يـهـابـوا بـــه مـقـارعةَ الـظـلمِ     ...         فــصــالــوا ، ولــلــجـهـادِ مـــضــاءُ

بَـسَـمُـوا والـنُّـطـوعُ تـجـري دمــاء     ...       إنــــه الــفـخـرُ بــالـفـدا و الــــولاءُ

مـاتـنـاسى الـتـاريخُ سـيِّـدَ قـطـبٍ     ...     أو تــنـاسـتْ فـرسـانَـهـا الـهـيـجـاءُ

حـيثُ شـاءَ الـطاغوتُ مـاشاءَ لكنْ      لـيـس لـلـكفرِ فــي الـهدى مـا يشاءُ

*                   *                  *     ...     *                   *                 

أَوَ تُـجـدي الـشـآمُ واحـسرةَ الـقلبِ     ...  الــشَّـكـاوى والأدمــــعُ الــخـرسـاءُ

قــد تـلـوَّتْ عـلـى الـمصابِ تـعاني     ...   وتــبــاكــتْ أحــداقُــهــا الــدكــنـاءُ

جــمـرُ  آهٍ  وزفـــرةٌ فـــي الـمـغاني     ...          والــــرَّزِيَّـــةُ الــثـقـيـلـةُ الـــرَّبـــداءُ

فــرشَـتْ أربُـــعَ الــعـزاءِ وأخـــوت     ...       تــخــنـقُ الـــزَّهــوَ فــوقَـهـا الأرزاءُ

مــاتَ ! مَــن مــاتَ ؟ عـالِمٌ تـتجلَّى     ...     فـــــي مُــحَــيَّـاهُ هـــالــةٌ زهـــــراءُ

هـــو عـبـدُالـفتاحِ قــطـبُ رحــاهـا     ...    ثــوبُـه الـطُّـهـرُ والــنَّـدى  والـنَّـقـاءُ

يـــتــهــادى ولــلـجـبـيـنِ ضـــيـــاءٌ     ...         زادُه الــعــلــمُ  رفـــعــةً و الإبـــــاءُ

رَجُــــلُ الـعـلـمِ والـجـهـادِ فَـدَعْـهـا     ...   تـتـحـدَّثْ عـــن  فـضـلِـه الأصــداءُ

طـافَ فـي الأرضِ داعيًا فاشرأبَّتْ     ...   لــــنـــداءاتِ نـــهــجِــه الــعــقــلاءُ

يـحـمـلُ الآيَ بــيـنَ جـنـبيْهِ روحًــا     ...  ولـــه مـــن نَــسْـجِ الـحـديـثِ رداءُ

عـاشَ جـذمورَ صحوةٍ هزَّتِ البغيَ     ...      تَــــوَلَّـــتْـــهُ مـــــلَّــــةٌ جـــــوفــــاءُ

هـي نـورٌ يُـضيءُ في عتمةِ الكربِ     ...  فَــيُـطْـوَى عــلــى ســنــاهُ افــتـراءُ

وهـــو الـشـيـخُ مـاتـوانـى فـأبـلـى     ...       والــثـمـانـيـنُ عــــــزَّةٌ و ارتـــقـــاءُ

*                   *                  *     ...     *                   *                 

فــاضَ دمـعـي وكـيـفَ لـم تـتأججْ     ...     لــــفــــراقِ الأحــــبـــةِ الأحــــنـــاءُ

كـــان فـيـنـا الـمـعـلمَ الـبَـلـجَ ردَّادًا     ...     ولــــم يُــلـوَ فـــي الـبـيـانِ الــنِّـداءُ

فَـقَـدَتْـهُ  الـشـهباءُ وجـهًـا سـمـوحًا     ...    وكـــمــيًّــا مــــاضـــرَّه الــسُّــفـهـاءُ

وبــكـتْـه الــبــلادُ شــرقًــا وغــربًــا     ...          وَنَـــعَـــتْــهُ  لــــلأمَّــــةِ الــعــلــيـاءُ

بـــردى والـفـراتُ مـاجـا وضـجَّـتْ     ...    بــالـتـهـالـيـلِ جـــلَّـــقُ الــفــيـحـاءُ

وأكـــبَّــتْ يــــومَ الــــوداعِ عــلـيـه     ...     واسـتُـثـيـرَتْ  لـشـجـوِها الـــلأواءُ

وبـــنــوهُ الأبــــرارُ خــيــرُ رجــــالٍ     ...        ولـــهــم مـــــن أبــيــهـمُ ســيــمـاءُ

حـمـلـوا الــدعـوةَ الـكـريمةَ جـنـدًا     ...     لــلــمـثـانـي فــنــعــمـت الأبـــنـــاءُ

يــذهــلُ الــمــرءُ غــيــرَ أنَّ قـلـوبًـا     ...    قـــد حـبـاهـا مـــن دلـــوِه الـسَّـقَّاءُ

ســيــدرُ الــربـيـعُ مـنـهـا وتـسـقـي     ...     مـــــن يــنـابـيـعِ بِـــــرِّه الأحـــيــاءُ

ونــجـاواهُ فـــي الـمـجـامعِ طـيـفٌ     ..لـيـس يُـطـوَى فـلـلحضورِ انـجـلاءُ

إيـــهِ يـاشـيـخَنا الـجـلـيلَ ونـرجـو     ... عــنـد مـــولاكَ أن يـطـيـبَ الـلـقـاءُ

ولـــكَ الـخـلـدُ فـــي مُـبَـوَّأ صــدقٍ     ...فـــي جِــنـانٍ سـكـانُـها الأصـفـيـاءُ

ولــعـلَّ الـمـولـى يُـعَـوِّضُـنا الــيـومَ     ...       فـــــإنَّـــــا يـــا ربَّـــنـــا ضـــعـــفـــاءُ

ســيـعـودُ الإســــلام ديــنـا لـدنـيـا     ...   وتــعـودُ الـمـنـى، ويـنـأى الـشَّـقاءُ

لــبــلادِ الــشــآمِ الــعـزيـزةِ مــجـدٌ      ...       يــتــثـنَّـى  ولــلـمـثـانـي الــــــرُّواءُ

*                   *                  *     ...     *                   *                 

ردِّدَي لــلأنــامِ وابـتـهـجي الــدهـرَ     ...   فــمــجــدٌ ذكـــراهُـــمُ واحــتــفــاءُ

ردِّدِيــهـا قـــد صـاغـهـا ذاتَ يـــومٍ     ...   شــاهِــدَاهــا والــلــيـلـةُ الــقــمـراءُ

ســيــرةٌ عَــذْبــةُ الـمـراحـلِ تـهـفـو     ...     لِــمُــحَـيَّـا افــتــرارِهــا الــشــعــراءُ

زيَّـنَـتْ خـطـوَها الـجـميلَ الـمثاني     ... والأحـــاديــثُ زهـــوُهــا والــثَّـنـاءُ

إنَّ مَـــن عـــاشَ لـلـشـريعةِ تــدنـو     ...    مــــن مــراقــي نـبـوغِـه الــجـوزاءُ

مـــا عـــنــاهُ تَـــلَـــفُّــتٌ لــلــدنــايــا     ...          أو تـــولَّـــتْـــهُ فـــتـــنــةٌ بـــلـــهــاءُ

رَكَـــلَ الـزيـفَ فـانـثنى ، وتـلاشـى     ...   بــيــنَ عَــيْـنَـيْ إيــمـانِـه الإغــــراءُ

فـرفـيفُ الآيـاتِ فـي ظـلمةِ الـليلِ     ...    غــــــــذاءٌ لــــروحِــــه وشِــــفـــاءُ

ورحــيـقُ الأذكــارِ يــروي الـحـنايا     ...  مــــن طــيـوبٍ، والـسُّـنَّـةُ الــغـرَّاءُ

تــلـك مـــن ربَّـانـيَّـةِ الـقـلبِ تُـلـفَى     .. فـــي مـحـاريـبِ أهـلِـهـا الأصــداءُ

فَــهُـمُ الـصَّـالحون تـغـشى ربـاهـم     ...      رَحَـــــــمَــــــاتٌ وهــــــالــــــةٌ لألاءُ

لــم يُـلـينُوا يـومًـا مـناكبَهم لـلظلمِ     ...     حــــاشــــا أو تُــثْــنِــهِـمْ بــــأســـاءُ

قــارعُــوا صــولـةَ الـطـغـاةِ و ردُّوا     ...     مــاتَـمَـنَّـتْـهُ الــحِــقـبـةُ الـــســوداءُ

والأعــادي إلــى الـجحيمِ فـبِئسَتْ     ... حـــقــبٌ فـــــي ربــوعِـنـا ربــــداءُ

فَـضَـحَـتْهَا ألــبـابُ جـمـهرةِِ الـحـقِّ     ...فــطــاشــتْ أوراقُـــهـــا الــعـمـيـاءُ

والــمــلــمـاتُ لــلــرجــالِ ولـــكـــنْ     ...     أوهَــنَــتْــهَـا رجـــالُــنــا الأكـــفـــاءُ

مَــــن رأى اللهَ قــــادرًا و بــصـيـرًا     ...     مـــــا أخــافَــتْـهُ هــجـمـةٌ رعــنــاءُ

والـطـواغـيتُ عــنـدَ ربِّـــك هـانـوا     ...    ولــهــم مــوعــدٌ وفــيــه الـقـضـاءُ

أَنَـسِـيْتَ الـفـرعونَ بــاتَ مُـسَـجَّى     ... ثــوبُـه الــويـلُ والـلـظى والـشَّـقاءُ

أم نَـسِيْتَ الـنمرودَ ويـحك تـغشى     .. جــلــدَه الــيــومَ نــارُهـا الـحـمـراءُ

لا يَـــغُـــرَّنَّــكَ الـــعــتــاةُ إذا مـــــــا     ...      حَـمَـلَـتْـهُـمْ إلـــــى الأذى كــبــريـاءُ

يـــوزعُ الـظـالـمون  صــفًّـا فَـصَـفًّا     ...    لـيُـسـاقوا، ولـــن يـطـيـبَ الـلـقـاءُ

زخــرفُ الـعـيشِ والـمـباهجُ ولَّــتْ     ...   كـــســرابٍ ولــــن يــكــونَ هــنــاءُ

سُــنَّـةُ اللهِ فــي الـخـلائقِ فـاصـبرْ     ...     إنَّ دلـــــوَ الأثــيــمِ مــافـيـه مــــاءُ

هـــكــذا يُـــذكــرُ الــجُــنـاةُ فَــتَـبًّـا     ...       لــلــجـنـاةِ اجْــتَـالَـتْـهُـمُ الأهـــــواءُ

وتــهــادى بــالـفـوزِ ركــــبٌ كــريـمٌ     ...     أهـــلُــه الــصِّـدِّيـقـون والأتــقــيـاءُ

فَــهُـمُ الـخـيـرةُ الـحـفـيَّةُ بـالـخـيرِ     ...     فــهـل فـــي الــورى لـهـم نـظـراءُ !

الأجـــــــلاءُ والـــمــآثــرُ تُـــــــروَى     ...         فـــــي الــبــرايـا كــأنَّــهـم أحــيــاءُ

ولــهــم يُــذعـنُ الـعـنـيدُ انـكـسـارًا     ...      إن تـــنـــادَوا فــلـلـعـنـادِ انـــــزواءُ

عِـشْـتَ يـا شـيخُ شـامخًا بـالسَّجايا     ...    والــمُــحَـيَّـا تـــواضُـــعٌ وحَـــيـــاءُ

وَسُـــمُـــوٌّ بــالــنـفـسِ لا تــتــدانـى     ...       مــــن مــتــاعٍ تـشـتـاقُه الـحـوبـاءُ

وإبــــاءٌ فــــي وجــــهِ كـــلِّ أثــيـمٍ     ...       لـــم تُــرَوِّضْـهُ الـشِّـرعـةُ الـسَّـمحاءُ

هـــو وجـــهُ الـجـهـادِ يــومَ تَـغَـنَّتْ     ...      بــالــمــزايـا لأهـــلِــهــا الــهــيـجـاءُ

فـــزْتَ يـاشـيـخُ فـالـمـحامدُ كُــثْـرٌ     ...    والــمـآتـي ومـــن يــديْـكَ الـحِـبـاءُ

عـشْـتَـهـا لــلـهِ الـعـظـيمِ فـعـاشَـتْ     ...    نــفـسُـكَ الــمـجـدَ مــالــه إخــفــاءُ

لــم تــزلْ بـالـصِّدقِ الأثـيرِ شـغوفًا     ...       فــلــيـالـيـكَ رِفـــعـــةٌ وارتـــقـــاءُ

ولـــــكَ الــعــلـمُ بـالـشَّـريـعـةِ روَّى     ...     حــيــثُ طــلابُـك الــكـرامُ ظِــمـاءُ

وبــنـورِ الإيــمـانِ عــاشـت قـلـوبٌ     ...   أهــلُــهـا بــالـهـدى هــــم الــعـقـلاءُ

أنـــتَ أوقـــدْتَ جــذوةً فـأضـاءتْ     ...    وعــلــى نــورِهـا مــشـى الـنُّـجـباءُ

هــيـضَ مـنـها جـنـاحُ أعـدائِـهم إذ     ... خــضـدَ الـصَّـبـرُ بـأسَـهم والـرجـاءُ

وبـها الـخيرُ فاضَ في كنفِ الأبرارِ     ...  فــاخــضَــرَّتْ حـــولـــه الأرجـــــاءُ

بــوركــتْ فــــي رحــابِــه عــلـمـاءٌ     ...      لــيـس تُـحـصـى لِـعَـدِّهـم أســمـاءُ

فـلـهُـم قـربُـهـم مــن اللهِ يـخـتصُّ     ...        بــــه مــــن عــبــادِه مَــــن يــشــاءُ

أَلِــــفَ الــنـاسُ وجـهَـهُـم وأحــبُّـوا     ...   مـالـديهم مــن الـهـدى مــا شــاؤوا

وَجَـفَـوْا وجــهَ كــلِّ مَـن قـد تَـرَدَّى     ...     يــــوم أغــوَتْــهُ نــفـسُـه الـخـرقـاءُ

فـتـعـامى ولــم يــزلْ فــي خـنـوعٍ     ...        مُـــسْــتَــذَلا يــبــيـعُـه الــسُّــفـهـاءُ

كَـــبُــرَ الإثـــــمُ إنْ تَــمَـلَّـقَ شــيــخٌ     ...      لــطــغــاةٍ ، فــلـلـطـغـاةِ انــقــضـاءُ

بــئــسَ مَــــن ذلَّ لــلأثـيـمِ نـفـاقًـا     ...          مُـــسْــتَــفَــزًّا كــــأنَّــــه حِــــربــــاءُ

أَوَلــــــم يــعــلـمِ الــمـنـافـقُ لـــمَّــا     ...     عــاشَ خِـبًّا مـاذا يـكون الـجزاءُ ؟!

مصادر الترجمة:

1-رابطة أدباء الشام - وسوم: العدد 850 .

2-ترجمة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة – الشيخ مجد مكي، رابطة العلماء السوريين.

3- مقالة الشيخ حسن قاطرجي، رابطة العلماء السوريين.

4- رابطة أدباء الشام.

5- رثاء الشيخ رسالة من الشاعر شريف قاسم حفظه الله.

6- قصيدة الصابوني في موقع الاثنينية التي يشرف عليه عبد المقصود خوجة.

7-موقع الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

8- مقدمة كتاب صفحات من صبر العلماء – بقلم الشيخ سلمان أبو غدة.

وسوم: العدد 866