الأخ العالم المحقق عبد الوهاب طويلة ..

ثلاث محطات على طريق الدعوة

في وداع الراحلين ..

clip_image002_696c4.jpg

رحم الله أخانا الراحل الكريم أبا عبد السلام ، رحم الله الشيخ عبد الوهاب ابن الشيخ عبد السلام طويلة ، العالم الفقيه المحقق الداعية المربي ..وسقى الله أياما على الخير والحب والوداد جمعتنا . خمسة وأربعين عاما كان عمرُ اللقاء . وإنها لأيام قصيرة ، ولكن ما أجدرها بالوفاء . وأجمل شيء يستظل به الإنسان عندما تتصحر به الدروب ، وحين ينتعل أو يحتكر كل إنسان ظله هو عنوان الوفاء .

والوفاء في حق الأحياء أنقى وأبقى ، وأكتب اليوم في حق أخينا الراحل الحبيب وأتساءل : ما ضر أنني كتبت في حياته ما أكتبه بعد وفاته ..؟! ليُعلم بعضنا بعضا حقيقة قول الأول : لا يذهب العرف بين الله والناس ؟!

ما ضر لو كتب الناس في حق الأحياء ما يكتبونه في حقوق الراحلين ، سؤال أسأله مذكرا نفسي بحقائق وعيناها ثم نسيناها ، أو أنسانا إياها تبدل الأحوال ..!! ما ضر لو سمع الأخ الراحل المربي الداعية في حياته ، بعض ما قال اعترافا بفضله ودوره إخوانه وتلامذته ومحبوه، وقد قرأت منه خلال ساعات الكثير ؟!

وأما القول على سبيل الوفاء فيستحق الأخ الداعية العالم الفقيه أبو عبد السلام منه كل خير ، في علمه وبره وحسن تأتيه وتملكه للقلوب ومحبته لإخوانه وبذله النصيحة ، واحتماله للأذى على رهافة شديدة كانت فيه ..!!

وأما القول في الأخ الراحل الداعية كتجربة دعوية متميزة متفردة . تجربة دعوية تشاركية بينه وبين إخوانه فهي التي أود أن أجعلها رثاء ووداعا ومحطة تعليم في وداع أخ كان نشر العلم حتى آخر أيامه أولى أولوياته ..

وكنا في حلب في النصف الثاني من عقد السبعينات . كنا نشكل مجلس إدارة العمل الدعوي في محافظة حل . حين حدثنا أخ منا عن لأخ أبي عبد السلام . عن علمه وفقهه وأدبه ، وأنه وجد منه استجابة ليضع يده بيد إخوانه الذين يحملون العبء ، فيكادون ينوؤون به ..

وكان النظام الأساسي للجماعة - جماعة الإخوان المسلمين - يقتضي أن على كل أخ يريد أن يلتحق بالصف أن يمر عبر مراحل تربوية قد تطول بضعة سنين في مراحل التعليم والتهذيب والتربية ..

ووجد الإخوان ، يوم كانوا يحرصون على الجذب لا النبذ ، وعلى استقطاب الطاقات وتوظيفها لا بعثرتها وتشتيتها ، وجد الإخوان المسلمون يوم كانت مصلحة الدعوة هي الأَولى في حساباتهم ، ويوم كانوا لا تخطر الحسابات الفئوية على بالهم ، ويوم كان النظام الأساسي يطوّع لخدمة الدعوة ، وليس ليقصى حسب بعض نصوصه حاملي العبء ، القادرين عليه ؛ وجدوا أنفسهم أمام رغبة الأخ العالم الأستاذ عبد الوهاب أمام حالة استثنائية ، وهي حالة لم يغفلها نظامهم الداخلي أيضا ، فكان القرار الذي شهدته لأول مرة في تاريخ الجماعة - جماعة الإخوان المسلمين - باستثناء الأخ العالم عبد الوهاب طويلة من مواد مراحل العضوية ..

وكان القرار الاستثناء ...

وأقف اليوم على بعد أكثر من أربعين عاما منه يوم اتخذناه وأكثر من كان شريكا فيه صار إلى ربه ، أتذكره وأتذكر أخي الراحل الحبيب أبا عبد السلام ، وأراقب أوضاع بعض الناس ، الذين أصبح جل أمرهم النبذ والإقصاء فأتساءل :

هل أعتبر القرار الاستثناء معلما مضيئا في صفحات المستني أو في صفحات المستثنى الوضيء الجميل ؟! كنت أعتقد دائما أن الاستثناء وسام على صدر من تقلده حتى تقلبت بي الأيام فصرت أراه منقبة لمن قلده وتقلده على السواء . ورحم الله أخانا أبا عبد السلام يوم انضم إلى مجلس الإدارة فكان زينته ووقاره .. ما زلت أحفظ أننا لم نكن ندير حزبا بل كنا نقوم على أمر دعوة وعلى طريق الدعوة لا يضيق المجلس أبدا بداع .

في محطة ثانية أحب أن أجليها ، في وداع الأخ الحبيب أبا عبد السلام ، أكشف بعض ما لا يجوز أن يكون سرا من أمر جماعة الإخوان المسلمين ..

وبين الرابعة والستين والثمانين من القرن الماضي ، كان نشاط الجماعة ينمو ويمتد وينتشر . وكانت أعداد الأسر " الحلقات التنظيمية " كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ، والذي أريد أن أفضي به ، وماذا كنا نعلم في محاضن هذه الأسر :

كنا نحفظ ونحفّظ القرآن مع التفسير , ونحفظ ونحفّظ الحديث الشريف مع الشرح . ونتناول أبوابا من علم العقيدة وعلم الفقه وأصوله . ثم نعرج على القليل من واقع المسلمين ..وحقيقة ما يراد بهم ، وكيف نتعاون لنتصدى ..

و ووضعنا الازدياد الكبير في عدد الأسر أمام تحد كبير ، إذا كثر عدد الطلاب يجب أن يكثر عدد المدرسين ، وأمام تحدي الكثرة يكون التساهل في المواصفات والمعايير. وهذا هو الذي كنا نخاف ونحذر ، ونقدر سوء العاقبة فيه . وهذا هو التحدي الذي واجهته إدارة الجماعة بالاستجابة المستحقة ، فقررت إعادة كل العلوم التي يمكن أن تدرس في المسجد إلى المسجد . وإسنادها إلى العلماء الأكفاء من أهلها .

 وهنا يبرز مرة أخرى دور الأخ أبي عبد السلام رحمه الله تعالى في درسه المتميز في جامع عكش ..

وكانت تجربة دعوية ثرة وغنية . وأهم ما كان يميزها عنصر الحب والثقة بين الأستاذ وجيل الشباب من التلاميذ . وكنا يومها نتابع التجربة بفرح و بغبطة ، وظللنا حتى اليوم نحفظ أسماء الكثيرين ممن استفادوا منها ، فنقول إذا تذاكرنا وهذا ممن تخرج بالشيخ عبد الوهاب في جامع عكش . لأقول مرة أخرى رحم الله أخانا أبا عبد السلام . عالما وداعيا ومربيا ..

وتجربته في جامع عكش في مدينة حلب بغناها وإتائها ما تزال تستحق دراسة لإدراك عوامل النجاح فيها للتأسيس للعمل الدعوي الجاد الدؤوب ..

ثم كانت الهجرة ..

وإذا كان استبداد الظالم وطغيانه وفجوره لا يجوز أن يكون موضع جدل بيننا ؛ فإن الإقرار بهذا لا يجوز أن يمنعنا عن الحديث عن استعجال المستعجلين . وكما قطع المستعجلون على الإمام البنا طريقه ، فقد فعلوها في سورية ثانية .. كانت الهجرة . فانفرط العقد ، وتشتت الطاقات , وأصبحت حبات العنقود بددا ,,

العامة في بلدنا يقولون : " الحجر في موضعه قنطار " وهكذا صرنا في دار الاغتراب فراطة عنقود .. وقديما قال العقلاء :

وأقتل شيء رؤية العين ظالما ..يسيء ويتلى في المجامع حمده

وصرنا والذين باعونا الحشف يسيموننا سوء الكيلة .. ولا نقدر حتى الساعة على كلام.

أربعون عاما في الاغتراب وتجمعني بالأخ الداعية الأستاذ عبد الوهاب الأقدار ..مرة هنا ومرة هناك .

وتلطف بي أخي عبد اللطيف في زيارتي الأخيرة إلى جدة منذ نحو عقد من الزمان ، فزرت بمعيته أخي الراحل الحبيب عبد الوهاب . وبعد جلسة عامرة بالحب والود وأحاديث الأمس واليوم .. أهداني الأخ الحبيب أبو عبد السلام ثلاثة من مؤلفاته القيمة . عرفت من عناوينها الدالة ، تجسيدا لمعلومات كان يتحفنا بنا ، ويحدثنا عنها ..فتعلمت أن العامل العالم لا يعرف الكلل ولا الملل ولا القعود .. وأن من شأن المعلم أن يظل معلما ، وأن من شأن الداعية أن يظل داعية ، ولو أفرده قومه أو ضيعوه ..!!

رحم الله أخانا أبا عبد السلام ، وتقبله ، وتقبل منه ، وأجزل ثوابه . اللهم ما علمناه إلا محبا لك ، مؤثرا لما عندك ، دالا عليك ، داعيا إليك ، وقد صار اليوم إليك فاجعل قراه منك اليوم خير ما وعدت عبادك الصالحين ..

وخالص العزاء لأسرة أخينا الحبيب ولإخوانه ولتلامذته وأحبابه . ولأسرة العلم والدين في مدينة حلب الشهباء ..

اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ، واغفر لنا وله ..

وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 886