الدكتور زهير العلمي

نعمان فيصل

[email protected]

لا تخلو الأمم من رجال تركوا بصماتهم واضحة جلية على حياة شعوبهم، ونهضة وارتقاء أوطانهم؛ فحفروا في الصخر، وبذلوا الكثير وأنفقوا الأكثر، حتى أصبحوا نواقيس تدق ذاكرة الوطن والمواطن، ومن هؤلاء الرجال الدكتور زهير يوسف العلمي، الذي ما تزال عطاءاته تشهد على نموذج متميز من الرجال.

تبرع الدكتور زهير يوسف العلمي بتكاليف بناء المبنى الجديد لمركز الوفاء لرعاية المسنين، الذي ضم بين ربوعه (منتدى ومركز آل العلمي الثقافي والاجتماعي) في مدينة الزهراء بقطاع غزة، وأقيم حفل كبير بمناسبة افتتاح المبنى الجديد، وذلك يوم الخميس الموافق 28 تشرين ثان/ نوفمبر 2013، حضره العديد من الوزراء وكبار الوجهاء، فضلاً عن عدد كبير من العلماء.

هذا التبرع السخي ليس الأول في سيل التبرعات والهبات، التي يقدمها مع إخوانه، الذين يتمتعون بالحس الخيري، تجاه شعبنا الفلسطيني المرابط في غزة، في ظل ظروف سياسية واقتصادية قاسية. فالدكتور زهير العلمي، وطني مخلص، لم ينس أبداً أصله الفلسطيني، وواجبه الأدبي والسياسي والمالي نحو وطنه أولاً. ترتقي معرفتنا بهذا الرجل الفذ، منذ قرابة خمس سنوات، عندما صممت أن أقدم للمكتبة العربية باكورة أعمالي، وهو كتابي: (أعلام من جيل الرواد من غزة هاشم منذ أواخر العهد العثماني وحتى القرن العشرين)، في محاولة لعرض سيرة الشعب الفلسطيني، من خلال استعراض سير أبنائه النابغين، حيث كان الدكتور زهير العلمي في طليعة هؤلاء الرواد، الذين كان لي شرف الكتابة عنهم والإشادة بدورهم في جميع دروب الحياة.

ومنذ ذلك الوقت توطدت أواصر المودة بيننا، وما زال يهاتفني بصورة دورية، وكان دائماً يحاول عدم الكلام عن إنجازاته الوطنية والخيرية، وأرى أنه قدم للشعب الفلسطيني أكثر بكثير مما قدمه العدد الكبير ممن يحرصون على نشر أخبار أعمالهم في الصحف، وكل وسائل الإعلام المتوافرة لديهم، وخبرت أمثلة عديدة من الخصال التي يتميز بها، فمشاعره هي أوتار حساسة مهيأة دوماً لمشاركة المعوزين معاناتهم وآلامهم؛ فأحببت ما رأيت، وامتلأت منه نفسي.

مول عدداً من المشاريع الحيوية في مدينة غزة؛ لرعاية حاجات مجتمعه وأبناء شعبه مؤسسات وأفراداً، وهي حاجات صحية وتربوية واجتماعية وثقافية ورياضية، تشمل فيما تشمل ضرورة الحفاظ على التراث الفلسطيني مادياً كان أو معنوياً، ومنها: مدرسة زهير العلمي الثانوية، ومسجد النور؛ وكنت أحد الحاضرين حفل افتتاح هذا المسجد يوم الخميس 25 جمادي الآخرة 1430هـ/ 18 يونيه 2009م، وقد أعجبت بعمارة المسجد، وتجهيزه على طراز معماري إسلامي متميز، وأثناء الحفل أشاد وزير الأوقاف والشئون الدينية الدكتور طالب أبو شعر، في حكومة غزة وقتئذ، بجهود الدكتور زهير الخيرة والطيبة، وألقى الشاعر عبد الخالق محمد العف، قصيدة أشاد فيها بدور العلمي كان أولها:

الزيت أشرق من زيتونة العلمي

 

 

يا مسجد النور بدد حالك الظلم

 

هذا زهير يضئ اليوم قنديلاً

 

 

بالخير يسرب والبذل والكرم

 

إلى أن قال:

وذمة فيك لم يشبه تفضلها

 

 

إلا وفاؤك للأوطان بالنعم

 

يا رب فاقبل عطاء خالصاً حسناً

 

 

من الجواد زهير يوسف العلمي

 

كما تولى الدكتور زهير مع إخوانه تمويل العديد من المشاريع الأخرى، التي بلغت ملايين من الدولارات، ومنها: (تأهيل مسجد السيد هاشم بغزة، ومركز المعاقين في حي الدرج، ومركز الحروق في مستشفى دار الشفاء، ومدرسة سامي العلمي، ومدرسة عدنان العلمي).

وكان آخر تجسيد لدعمهم تمويل بناء المبنى الجديد لمركز الوفاء لرعاية المسنين، على قدر من الأهمية، بتكلفة بلغت 1.7 مليون دولار، تكريماً وتخليداً لذكرى شقيقتهم المرحومة سعاد يوسف العلمي، التي فقدوها وحزنوا عليها أشد الحزن، جامعين بذلك بين الوفاء والمحبة لشقيقتهم ولمجتمعهم.

أنشئ هذا المركز، الذي يضم بين جنباته (منتدى ومركز آل العلمي الثقافي والاجتماعي) في مدينة الزهراء على مساحة إجمالية قدرها 4250 متراً مربعاً، من أرض مستأجرة من سلطة الأراضي بغزة، وبلغت مساحة الأبنية 1200 متراً مربعاً، وباقي المساحة حدائق وخدمات متعددة الأهداف، ويعمل ليخدم شريحة هامة في المجتمع الغزي من كبار السن (المسنين).

وكنت أحد الحاضرين للحفل الكبير، الذي أُقيم بمناسبة افتتاح المبنى الجديد لمركز المسنين، وقد انبهرت بعمارته؛ إذ بُني على طراز معماري فريد، وطُبع في ذهني وكأن المركز تحفة معمارية في ارتقاءه وشموخه، تحيط به حدائق فسيحة، تخترقها نافورة عالية في غاية الجمال والدقة، وتشتبك بزهورها المتفتحة التي كانت بمثابة الومضات اللامعة التي لفتت أنظار الحاضرين نحو هذا الصرح العملاق.. وأثناء الحفل ألقى الدكتور مفيد المخللاتي وزير الصحة، نيابة عن رئيس وزراء حكومة غزة ذكر فيها بنخوة العربي الأصيل وشهامته، فضل الرجل الذي يؤدي واجبه على أكمل وجه ما يستطيع لوجه الله والوطن، كما أشاد بما يقوم به من أعمال جليلة.

بهذا الذي ذكرت، وبكثير مما غاب عني، غدا الرجل لي، ولكل مَن عرفه مثلاً يحتذى، وقدوة حسنة. ولن تغيب عن بالي تلك المواقف المشرفة والنبيلة التي شاهدتها وسمعتها من الدكتور زهير العلمي وإخوانه فكانوا دائمي التأهب للمساعدة والخدمة ترفدهم في ذلك قيم العروبة والإسلام وبعضها الآخر من التراث المجتمعي الذي يشترك فيه كل الناس من عادات عربية أصيلة، ولا يسعني إلا أن أذكر ذلك بكل إعجاب وتقدير مهنئاً له ولإخوانه ما حققوا وما قدموا.

ولعل من المفيد أن أقدم للقارئ الكريم غيضاً من فيض من حياة الدكتور يوسف العلمي حيث ولد المهندس زهير العلمي في مدينة غزة في 18 يونيو (حزيران) 1935، فهو من أنبل من أنجبت مدينة غزة وطنية وخلقاً، (كان والده المرحوم يوسف محمد العلمي "1895، 1939" أحد أبرز رموز الحركة الوطنية في فلسطين مطلع القرن العشرين). وتلقى المهندس زهير علومه الأولية في مدينته، وأنهى الثقافة العامة عام 1951 وشهادة التوجيهي عام 1952 من مدرسة الإمام الشافعي بغزة، وأحرز قصب السبق بين زملائه، إذ حاز على المرتبة الأولى في قطاع غزة، وكان من نشطاء الحركة الكشفية والرياضية.

    سافر إلى مصر عام 1952 والتحق (بجامعة فؤاد الأول/ القاهرة الآن)، ودرس الهندسة المدنية، وحاز على شهادتها عام 1957 بتقدير جيد جداً، وبرز خلال دراسته الجامعية في رابطة الطلبة الفلسطينيين (اتحاد طلبة فلسطين) في القاهرة، وانتخب عضواً في لجنتها التنفيذية عام 1955.

    أثناء العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة عام 1956 سافر مع وفد برئاسة صلاح خلف لجمع التبرعات؛ لمساعدة الطلبة الغزيين الذين انقطعت عنهم الموارد المالية؛ بسبب العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة عام 1956، وفي نفس العام مثَّل رابطة طلبة فلسطين مع ياسر عرفات وصلاح خلف في مؤتمر الطلاب العالمي في براغ بتشيكوسلوفاكيا، ونظراً للنجاح الذي حققه الوفد الفلسطيني في هذا المؤتمر، فقد دعيت الرابطة للاشتراك في مهرجان الشباب العالمي الذي أُقيم في موسكو صيف عام 1957 فشكل وفداً من عشرين عضواً برئاسة صلاح خلف، وكان زهير العلمي عضواً فيه.

في عام 1957 التحق بجامعة تكساس في أوستن، وحصل على الماجستير في الهندسة المدنية عام 1959، وتابع دراسته في نفس الجامعة ونال الدكتوراة في تخصصه في يونيو 1962، وساهم خلال دراسته في أمريكا في أنشطة جمعية الطلبة العرب، وكان رئيساً لفرع الجمعية بجامعة تكساس في عام 1959، وعضواً في لجنتها التنفيذية عام 1960، ثم نائباً لرئيسها عام 1961.

عاد إلى لبنان، وعمل أستاذاً بكلية الهندسة في الجامعة الأمريكية في بيروت في أكتوبر 1962، واستمر في التدريس حتى عام 1976، وكان أيضاً أستاذاً زائراً في كلية الهندسة بجامعة بيروت العربية في الفترة (1965– 1975)، تعرف على الأستاذ منير الخطيب خلال عمله في الجامعة الأمريكية، الذي كان يعمل أيضاً بنفس الكلية، واشترك معه في تأسيس شركة هندسية استشارية، عُرفت باسم شركة الاتحاد الهندسي (خطيب وعلمي)، والتي بدأت عملها في لبنان عام 1964، وانطلقت في نشاطها في المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة عام 1969. وتوسعت أعمال الشركة منذ 1972، وأصبح لها فروع من المحيط إلى الخليج، مما اضطر كلا الشريكين المؤسسين لترك التدريس، والتفرغ لأعمال الشركة التي أصبحت بجهودهما من أهم الشركات العربية والاستشارية في الوطن العربي، ويعمل بها ثلاثة آلاف موظف من جنسيات مختلفة.

كان زهير العلمي عضواً فاعلاً في المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس عام 1964 في عهد (أحمد الشقيري) مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية، وساهم في تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وأصبح عضواً في مجلسها الثوري، وكان رئيساً للمؤتمر العام الثالث للحركة الذي عقد في دمشق عام 1970، وانتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيساً لمجلس إدارة الصندوق القومي الفلسطيني في نفس العام، وشارك في إجراء كثير من الاتصالات بين حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وبعض الدول العربية، وكان عضواً في عدة وفود لبلدان عربية برئاسة الرئيس ياسر عرفات، وأبو يوسف النجار، وخالد الحسن لحشد الدعم للقضية الفلسطينية ومنها: وفد اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الرئيس ياسر عرفات إلى المملكة العربية السعودية حيث التقوا الملك فيصل بن عبد العزيز. كما سافر في آذار 1970 ضمن وفد فلسطين برئاسة خليل الوزير إلى الصين والتقوا رئيس وزرائها شوان لاي، في أكتوبر 1970. حج الدكتور زهير العلمي إلى بيت الله الحرام عام 2000، ومازال يتمتع بالصحة والعافية، وأكثر الله من أمثاله ليكون قدوة صالحة للأجيال الطالعة.