رضِيَ الله عن (الشَّــاعر) الذي أحرقتُ قصائده!

محمد عبد الشافي القوصي

رضِيَ الله عن (الشَّــاعر)

الذي أحرقتُ قصائده!

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

  لقد أتى عليَّ حينٌ من الدهر؛ لم يكن يطيب لي سوى قراءة روائع هذا الشَّاعر الكبير!

فلمْ تخلُ حقيبتي المدرسية يوماً من قصائده .. وكنتُ أردد أشعاره في صحوي ونومي!

 بلْ كنتُ أقلِّب الصحف كلها؛ لعلِّي أجد له قصيدةً جديدة! وكنتُ أسهر مع أثير الاذاعة لعلِّي أحظى بسماع شِعره، أوْ سماع من يتحدث عن قصائده العذبة!

وكنتُ أقول: يا إلهي! متى أرى هذا الشَّاعر؟ وكيف السبيل إليه؟!

وعندما سمعتُ عن مشاركته في ندوة أدبية ... لمْ أتمالك نفسي من شدة الفرح!

 في اليوم المحدد؛ توجهتُ إلى هناك ... مشتاقاً لرؤيته؛ كاشتياق الصائم لصوت المؤذن!

وكنتُ أسأل الناس بلهفة: أين الشَّاعر؟ متى يأتي الشَّاعر الكبير؟!

  عندما أقبل المساء بسكينته ... فإذا بمن يناديني: هذا هو الشَّاعر الذي تسأل عنه!

فانطلقتُ نحوه كالسهم، ومددتُ يدي لأصافحه .. وأفصح له عن إعجابي بأدبه، ومدى تعلُّقي بفنه، وحفظي لديوانه عن ظهر قلب ... إلخ.

  فإذا به يتجهمني، ويتجاهلني، ويذمّ شفتيْه ... ثمَّ رقَّ قلبه، وسلَّمَ عليَّ بأطراف أصابعه فقط، بعد استغفار تلو استغفار .. ثمَّ أدار ظهره، ومضى سريعاً، وكأنه ندمَ على مصافحتي! 

*   *   *

  عندئذٍ؛ تحسَّرتُ على شبابي .. وانطلقتُ نحو منزلي؛ لأحرق جميع قصائده!

 بعد أيام؛ التقيتُ الأديب الكبير الدكتور/ أحمد هيكل- وسألني: ما لي أراك قلقاً مهموماً؟

قلتُ له بغيظ: أنا كرهتُ الأدب وأهله، وأحرقتُ كل دواوين الشعراء، الأحياء منهم والأموات!

فجذبني بقوة، وقال: ماذا تقول؟ ماذا حدث لك ....؟

فقصصتُ عليه ما جرى ... فهزَّ رأسه، ثمَّ قال بصوتٍ حزين: آهــــــ ..لا بأس عليك!

 ليست المشكلة عندك، بلْ عند هؤلاء المجانين .. قاتلهم الله!

  ثمَّ قال لي بصوتٍ خفيُض: اعلم –يا ولدي- أنَّ الشعراء مرضى .. وعزَّ دواؤهم!

  يا ولدي؛ الشاعر إنسان غريب غريب، لا يستطيع التصالح مع الحياة، ولا يتكيَّف مع نفسه!

ثمَّ وضع يده الحانية على كتفي، وقال: أوصيكَ وأبناء جيلك: ألاَّ تتوقفوا عن قراءة الشِّعر، والمداومة على مدارسته وحفظه ... لكن؛ لا تلتقوا بالشعراء أنفسهم، فهؤلاء كالنحل ..!

*   *   *

 بعد مرور سنوات على هذه الحادثة؛ وبينما كنتُ أعمل في مجلة "رسالة الإسلام"؛ فوجئتُ بأنَّ الشَّاعر –الذي أحرقتُ قصائده- اختير رئيساً للتحرير ... ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!

وقد كلَّفني في -أول لقاء- بإجراء حوار مع الشيخ/ محمد الغزالـــــــــي-بمناسبة حصوله على جائزة فيصل العالمية ..  وقال لي: اذهب إليه فوراً، واسأله عن كذا، وكذا ... إلخ! 

 في اليوم التالي؛ شكرني، وقرر صرف مكافأة كبيرة على ذلك الحوار الرائع!

  الأعجب من ذلك؛ أنه ظلَّ يبدي إعجابه بأسلوبي .. حتى اختارني نائباً له! 

  توثقتْ علاقتنا بعد ذلك، إلى الحد الذي كان لا يحتمل أنْ يمر يوم دون أنْ يراني!

وقد حدث أنْ مرضتُ؛ فسأل عن عنواني ... وزارني عند منتصف الليل!

بمجرد أنْ فتحتُ الباب؛ فإذا به يصيح: لماذا غِبتَ عني هذه الأيام .. ولماذا تعذّبني كل هذا العذاب ... ثمَّ أهداني سلَّة مملوءة بالطعام والفاكهة .. وقال: أنا خادمٌ لك يا قُوصِـــي!!

*   *   *

  ذات مرة؛ عرضتُ عليه قصيدة، كتجربة شِعرية أولى ... فمزقها على الفور، وصرخ قائلاً: لماذا .. لماذا تعذِّب نفسك مثلنا!

 وفي إحدى المرات؛ تأخرتُ عن الموعد بعض الوقت ... بمجرد أنْ رآني؛ نظر في ساعته؛ وقال ساخراً: وتعبدون الله!!

لكن؛ لنْ أنسى عندما دخلتُ عليه مكتبه في الصباح الباكر، فإذا به واجمٌ أشدّ الوجوم ... ألقيتُ عليه السلام مراراً، فلم يجب! اقتربتُ أكثر، وقلتُ: لا أحزنَ الله شاعرنا الكبير!

فزجرني قائلاً: كيف لا أحزن في ظل هذه المصائب ... ثمَّ أعطاني الصحيفة، وقال: اقرأ هذا الخبر: (قائد جيش البوسنة يستنجد بالعالَم الاسلامي)!

  وظلَّ يستغفر ويحوقل .. ثمَّ تحامل عليَّ، وقال: اذهب بي إلى مقهى باب اللوق ... وهناك جلس بعيداً ... ثمَّ أخرج ورقةً، كتب فيها قصيدته النارية: (وا معتصمــــــاه) يقول فيها:

 فضحتنا حين ضاقت بك السبلُ
يا صاحِ! قومك قد فاتوا مضاربهم
إنْ جئتَ تنشدهم يوماً لمكرمةٍ
لا يفرغون لنارٍ في دياركمُ
وليس معتصمٌ في الدار ينجدكم
وإنْ سمعتم صليلاً في مرابعنا
لمْ يبقَ في جهدنا شيءٌ نقدِّمه
لمْ يبقَ إلاَّ احتراق الشعب مثلكم

 

 

 فصِحتَ بالأهل تدعوهم وتبتهلُ
وشُرِّدوا في سواد الليلِ وارتحلوا
فليس في نجدةٍ من دارهم أمل
لأنهم بدواهي نارهم شُغِلوا
لمْ يعد في حِمى أوطاننا بطل
فإننا في رحاب الدار نقتتل!
فما نلاقي لدينا ليس يُحتمل
لأنه معكم في النار يشتعلُ!

 

    إنَّه الشَّاعر الكبير (محمد التهامـــــي) الذي مَن قال: إنه تسلل من طبقات ابن سلام، أوْ شعراء ابن قتيبة، أوْ يتيمة الثعالبي؛ فما تجاوز الحقيقة!

   ولِمَ لا؟ إنه آخر المقاتلين دفاعاً عن الأصالة؛ يتجلَّى ذلك خلال رحلته الشعرية التي امتدتْ قرابة قرنٍ من الزمان، بدأها بدواوين: (أغنيات لعشاق الوطن، وأشواق عربية، وأنا مسلم، مروراً  بدواوين: دماء العروبة على جدران الكويت، ويا إلهي، وقطرات من رحيق العمر، حتى نصل إلى: أغاني العاشقين، قصائد مختارة)!

إنه الشَّاعر الوحيد الذي كان يحفظ شِعره كله؛ لأنه شِعر حقيقي!

وهو الشَّاعر الوحيد الذي تُدرَّس قصائده من الخليج إلى المحيط؛ لأنه شِعر حقيقي!

وهو الشَّاعر الوحيد الذي تُرجِمتْ قصائده إلى مختلف اللغات الإسلامية؛ لأنه شِعر حقيقي!

 وهو الشَّاعر الوحيد الذي كرَّمته الشعوب والحكومات، ونال كثيراً من الجوائز والنياشين والأوسمة، وجنى ثمرة نبوغه وهو على قيد الحياة!

  لقد كان "التهامي" من "الصنف الأول" الذي وصفه الخليل: بأنه يدري، ويدري أنه يدري! فكان يعلم مكانته الأدبية، ومنزلته الشِّعرية، ولا يستجديها من باحث، ولا يتسولها من ناقدٍ مهما كان قدره! حسبنا أنْ نستمع إليه وهو يرثي نفسه في قصيدة بعنوان (رحيل شاعر) إذْ يقول:

أيها الشَّاعِرُ ماذا رَوَّعَكْ
وارتَضَيْتَ البعْدَ عن أنْظارنا
قد تْركْتَ الرَّوْضَ قْفراً مُوحشاً
هَذه أَرواحُنا نَفْدي بها
هَلْ وَهذا الهَولُ في آفاقنا
كنتُ في الأهْوالِ طَوْداً شَامِخاً
جئتَ بِالشِّعرِ ضِياءً ساطِعاً
كيف نَحيا دون شِعرٍ ساحرٍ
أَغْلَقَ الحَقَّ علَى أسْرَارِهِ
أَتُرى أُرْهِقْتَ من آلامِنَا
قُلْ لَنَا بِاللهِ يَا قِنْدِيلَنَا

 

 

فاحْترَقْتَ الصَّمْتَ كَيْلا نَسمَعَكْ؟
فَحمَلْت الصَّبْرَ والسلوى معك
فتمَنّى كُلُّنا أنْ يَتبعك
إنْ يَكُنْ في طوقها أنْ تُرْجِعكْ
أيُّها العِمْلاقُ تُخليِ مَوْقِعَكْ؟
ما رأيْنا أيَّ هَولٍ زَعْزَعَك
فتحَرَّتْ كُلُّ عَيْنٍ مَوْضِعَكْ
صاغَه الرَّحمنُ لَمَّا أبدعَكْ
وعَلَيْها في جَلاءٍ أطْلَعَكْ
وتَمَادى القَهْرُ حَتَّى ضَيَّعَك
كَيْفَ يَحْيَا في الدُّجَى مَنْ شيَّعَكْ؟

 

رضي عن االله عن شاعر الإسلام/ محمد التهامي (1920- 2015م) الذي كان سبباً في صحبتي لنفرٍ من الأعلام؛ كالشيخ/ جاد الحق، وأحمد بهجت، وحسين مؤنس، وعبد الودود شلبي، ومحمد عبد الواحد أحمد، وشوقي ضيف، وغيرهم ممن رضيَ الله عنهم ورضوا عنه!