الشيخ الداعية محمد عبد الحميد أحمد (أبو الجامعيين)

(1329 - 1412ه / 1911 - 1992م)

    هو الشيخ الداعية محمد عبد الحميد أحمد من الرعيل الأول في جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ وأحد تلاميذ الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى.

مولده، ونشأته:

     وُلد في محافظة البحيرة مركز شبراخيت يوم 23/9/1911م، ونشأ في أسرة دينية فوالده وجدّه من الأزهريين وقد حصل والده على شهادة العالمية واشتغل بالمحاماة الشرعية.

الدراسة، والتكوين:

  بدأ دراسته في كتّاب القرية، فحفظ بعض سور القرآن الكريم، ثم انتقل مع والده إلى القاهرة، والتحق بمدرسة الجمعية الإِسلامية، وحصل على الشهادة الابتدائية، ثم التحق بمدرسة الإِبراهيمية الثانوية، وحصل على الشهادة الثانوية القسم الأدبي، ثم التحق بالجامعة المصرية بكلية الآداب، وتخرّج في الكلية - قسم اللغة العربية - سنة 1938م، ثم عُين في مدرسة (الإخوان المسلمون) بالإسماعيلية، وكان يعمل سكرتيرًا لتحرير (مجلة النذير) التي يرأس تحريرها الأستاذ صالح عشماوي.

صلته بالإخوان المسلمين:

    تعرّف على الإِخوان المسلمين؛ وهو طالب في الجامعة 1933م بإرشاد من الشيخ طنطاوي جوهري، حين عرض عليه هو وإخوانه الطلاب تشكيل جمعية إسلامية، فأشار عليهم بالانضمام إلى الإِخوان المسلمين، تلك التي تعتمد على الإِسلام دينًا ودولة وعبادة وقيادة، وتعتمد على التربية لا على الكتب والنظريات وحدها، بل التربية العملية بالرحلات والكتائب والدعوات الفردية والجماعية في المساجد والأندية، وأثنى على مؤسس الحركة الإِمام الشهيد حسن البنا الذي زكّاه شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي لتولي مجلة (المنار) بعد وفاة مؤسسها الشيخ السيد محمد رشيد رضا، فما كان من الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد وإخوانه الطلاب الستة إلا الاستجابة لنصيحة الشيخ طنطاوي جوهري والانضمام إلى الإخوان المسلمين، وقد اجتمعوا مع الإمام البنا في منزل الشيخ جوهري فكانت البداية، واختير محمد عبد الحميد أحمد نقيبًا للطلاب.

ثناء المستشار عبد الله العقيل عليه:

   يقول المستشار الداعية عبد الله العقيل : عرفتُ الأستاذ الكبير الداعية المسلم محمد عبد الحميد أحمد من خلال ما كان يكتبه في مجلة (الإِخوان المسلمون) الأسبوعية أواخر الأربعينيات الميلادية من القرن العشرين، ثم التقيتُ به في مصر، وكان له نشاط بارز في محيط الطلاب بحكم خبرته الطويلة في العمل الطلابي وكان من أوائل الطلبة الذين التحقوا بالحركة الإسلامية يوم كان يدرس بكلية الآداب جامعة القاهرة (فؤاد الأول سابقًا) ولذلك لُقب ب(أبو الجامعيين) من الإِخوان المسلمين.

أعماله، ونشاطه:

   عقب تخرّجه عمل في حقل التدريس في مصر والعراق والأردن، فقد انتدب سنة 1941م للعمل بالعراق بالمدارس الثانوية، ثم انضم إليه الدكتور حسين كمال الدِّين مدرّسًا في كلية الهندسة ببغداد فتعاون الاثنان على نشر الدعوة الإسلامية في العراق، وكانا نواة العمل الإِخواني هناك، ثم لحق بهما الأستاذ محمود يوسف من إخوان مصر، ثم تبعه كامل النحاس... وغيرهم من الإخوان.

   وكان الأستاذ الصواف يدرس في الأزهر وبعد تخرّجه نشط معهما في الدعوة إلى الله في العراق.

   وفي 1946م غادر العراق بعد انتهاء مدة انتدابه وعاد إلى مصر ليباشر عمله كمحاضر ومدرس، كما شارك في الكتابة في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية التي صدرت في العام نفسه.

   ثم انتُدب للعمل بالتدريس في الكلية العلمية الإسلامية بالأردن عام 1947/1948م، بناء على طلب الحاج عبد اللطيف أبو قورة المراقب العام للإخوان المسلمين آنذاك، ثم عاد إلى مصر حيث واجه الإخوان المسلمون المحنة بحلّ الجماعة في 8/12/1948م واعتقل أعضاؤها وزجّ بهم في السجون والمعتقلات، كما اعتقل سنة 1954م وسنة 1960م وسنة 1965م. وبعد خروجه من السجن ذهب إلى الحج ثم استقر في السعودية وعمل موجهًا للتربية في رئاسة تعليم البنات بمكة المكرمة. وبعد عامين نقلت خدماته إلى وزارة المعارف وعين مديرًا لمدارس منارات جدة ومدرسًا فيها لمدة عامين، ثم نقلت خدمته إلى وزارة الحج وعمل في تحرير مجلة التضامن الإسلامي التي تصدرها الوزارة.

   ثم عمل في جامعة الملك عبد العزيز مدرّسًا بقسم الدعوة الذي كان يرأسه الشيخ محمد الغزالي بكلية الشريعة، وزار بلاد الشام والخليج، وكان آخر أعماله التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة مدة سبع سنوات لنهاية 1985م.

آثاره، وجهوده:

   وقد تربى على يديه جيل من الشباب في العراق ومصر والأردن والسعودية هم طليعة الصحوة الإسلامية المباركة في تلك الأقطار، وهم الأمل المرتجى الذين تعلّق عليهم الآمال لإنهاض الأمة من كبوتها وعودتها إلى الإسلام منهجًا ونظام حياة.

   إن الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد علم من أعلام الإسلام المعاصرين، وداعية من دعاته الذين كرّسوا حياتهم لحمل رسالة الدعوة إلى الله، فقد كان شعلة من النشاط والحيوية والحركة المستمرة التي لا تهدأ رغم تقدّم السن ووطأة المرض والشيخوخة، فكان همّه إبلاغ الدعوة إلى الناس جميعًا وبخاصة الشباب والطلبة المثقفين، ولقد آتتْ هذه الجهود المباركة ثمارها الطيبة وحمل أمانة الدعوة جيل ضخم من الشباب الذين آمنوا بالإسلام عقيدة وعبادة ونظامًا وتشريعًا وسياسة وحكمًا وعملوا به ودعوا الناس إليه وصبروا على البلاء فيه وقاوموا الطغاة واستعلوا بإيمانهم على زخارف الدنيا، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23).

   لقد كانت له دروسه ومحاضراته وندواته وحواراته التي سعدنا بها فترة الدراسة الجامعية بمصر من سنة (1370ه - 1950م) إلى (1374ه - 1954م)، وكنا نحرص على هذه الدروس التي كانت الزاد لأمثالنا من الشباب في ذلك الوقت أمام هذا الرُّكام من الأفكار الوافدة والمذاهب الدخيلة التي كانت تجتاح العالم العربي والإسلامي عقب الحرب العالمية الثانية، والتي كان يحمل لواءها المستغربون وأعوان الاستعمار وأذنابه الذين انسلخوا من دينهم وعروبتهم، وساروا في ركب المستعمر يقلدونه في كل شيء بالحق وبالباطل، بالنافع وبالضار على حد سواء، فمثلهم كمثل الإمّعات التي لا رأي لها وإنما تسير مع التيار حيث سار وتتبع الأهواء والشهوات ولو أوردتها المهالك.

   ويعتبر الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد من التلامذة النجباء للإمام الشهيد حسن البنا فقد تتلمذ على يديه وأخذ عنه الكثير من أساليب الدعوة ومنهج السلوك وكان له التأثير العظيم في حياته الفكرية والروحية، لأن الإمام البنا كان مدرسة قائمة بذاتها من حيث الفقه الشامل للإسلام والتربية العملية للأفراد والاهتمام بكل المسلمين في كل مكان وترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين وطرح الإسلام كحل بديل لكل الأنظمة المستوردة والقوانين الوضعية، فكانت حركة الإمام البنا من الحركات الإصلاحية الراشدة التي واكبتها أو سبقتها كالحركة السلفية على يد المجتهد الإمام محمد بن عبد الوهاب، والحركة السنوسية في ليبيا، وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر وغيرها.

   إن الدعاة الصادقين هم الذين يتحركون بالإسلام الحق الذي جاء بكتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فلا يخضعون لنزغات الشياطين ولا لشهوات السلاطين بل يمضون في الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى مرضاة الله.

   يقول الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد الرابع للإخوان المسلمين:

   «المؤمنون بالله تعالى كثيرون، ولكن من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، ومن هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أخي الكريم المربي الرائد محمد عبد الحميد أحمد وما أحسبه إلا كذلك ولا أزكي على الله أحدًا.

    إن الأخ الكريم هو أحد رجال جماعة الإِخوان المسلمين ومن الرعيل الأول، إذ كان أول من حمل فكرة الإخوان المسلمين واقتحم بها الجامعة المصرية وغزا بها قلوب الشباب وجمعهم على كلمة التوحيد فاعتزوا به واعتز بهم ومن ثم انتشرت الدعوة الإسلامية في جميع دور العلم، وقاموا بنشرها في حماس وفهم واستقامة على أمر الله.

   إن هذا الأخ الكريم الذي حمل هذه الرسالة قد بذل في سبيل نشرها كل غالٍ وثمين واستطاع في قوته وشبابه أن يلج كل المجتمعات حاملاً هذه الراية دون كللٍ أو ملل، بل إنه قد تعرّض لكثير من المتاعب والمشقات، وقامت في سبيله كثير من العقبات، لكنه استطاع بفضل من الله ومنّة، أن يزيل العقبات وأن يجمع الصفوف، وأن يجعل كلمة الله هي العليا في وقت كانت فيه الأفكار المحاربة للإسلام هي السائدة والمزودة بكثير من الإمكانات. ولكن الرجل صبر وصابر وعمل في دأبٍ حتى لقي الله صابرًا محتسبًا، لم يغيّر ولم يبدّل حتى استطاع أن يورث ذلك الجيل من الشباب الذي تعتز به الدعوة الإسلامية، والذي حملها بدوره إلى الأجيال التي تعاقبت.

     كما أن الأخ الكريم كان من أوائل من نشروا دعوة الإخوان المسلمين في العراق حين عمل مدرسًا هناك فبذر البذرة ونمت الشجرة وامتدت فروعها» انتهى.

منهاجه؛ ومواقفه:

يحدّثنا الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد عن نشاطهم بالجامعة؛ فيقول:

  «كنا في الجامعات نتوسم الطلاب الصالحين منهم فندعوهم إلى حضور المحاضرات الإسلامية بدار الأستاذ الإمام حسن البنا (رحمه الله).

    ومما يساعدنا على التعرف على هؤلاء الطلاب الصالحين، حرصنا على إقامة مصلى لكل كلية من كليات الجامعة وأداء صلاة الظهر والعصر أحيانًا فيقبل على الصلاة الشباب المؤمن فندعوه إلى الإخوان فيستجيب لنا أكثرهم بحمد الله؛ وكان معي الزميل عبد المحسن الحسيني، وعبد الحكيم عابدين، ثم إبراهيم العزبي، ومحمد محمود السيد غالي، وعبد المحسن شربي، ومحمود عبد الحليم، وغيرهم ولمَّا زاد عدد شباب الإخوان من الطلاب رأينا الاجتماع بدار المركز العام للإخوان المسلمين في ميدان العتبة الخضراء حيث نستمع إلى محاضرة الإمام الشهيد حسن البنا.

   وقد وفقنا لاختيار غرفة مناسبة بالكلية لتكون مصلى ومركزًا للدعوة، كان أساتذة قسم اللغة الإنجليزية يستعملونها لحفظ أروابهم الجامعية واستأذنا عميد الكلية الدكتور منصور فهمي فأذن لنا بذلك.

    وقد فوجئت الكلية بأذان الظهر في هذه الكلية التي يسيطر عليها الإنجليز؛ ولم يكن فيها سوى مدرس مصري واحد.

   وكان الإنجليز يغرون الطلاب بالمكافآت السخية والسفر على حساب القسم إلى إنجلترا وكان من أبرز الطلاب المتأثرين بالغزو الفكري الطالب لويس عوض» انتهى.

    يقول الإمام الشهيد حسن البنا في خطبته في طلاب الإخوان المسلمين من شباب الجامعة المصرية سنة 1931م:

    «... ولا يفوتني في مفتتح هذه الكلمة أن أحيي تلك الساعة المباركة التي جلست فيها إلى ستة من إخوانكم منذ أربعة أعوام نتذاكر فيها واجب شباب الجامعة نحو الإسلام... وفي نهاية العام الثاني جمع هذا الحفل أربعين من إخوانكم، وفي نهاية العام الثالث كان عددهم ثلاثمائة وهاأنتم الآن في عامكم الرابع تزيدون ولا تنقصون {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}» انتهى.

  يروي الأستاذ أحمد أبو شادي في كتابه (رحلتي مع الجماعة الصامدة):

  «شاء الله أن أكون قريبًا من الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد في محنة سنة 1965م فأفدت من صحبته كثيرًا وتعلمت منه بالقدوة والمعاشرة أكثر مما تعلمت بالدرس والمطالعة.. كان بحرًا من العلم لا شاطئ له، فهو يحدث عن الدعوة التي اعتنقها في فجر شبابه، ويحدثنا عن الأدب في شعر إقبال، وقد كان حفيًّا به يحفظ أكثره ويزجيه لنا غضا طريًا فننفعل به كما انفعل هو به، ثم هو يعيش بنا مع حِكَمِ ابن عطاء الله السكندري، وكثيرًا ما كان يترنّم بهذه الحكم التي تثبّت قلوب المستضعفين إذا ادلهمت الخطوب وكشّرت المحنة عن أنيابها ويئس الجميع من الظفر بالحرية.. من هذه الحكم التي حفظناها منه:

- لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك؛ فإن الله قد ضمن لك الإجابة فيما يختاره هو لك لا فيما تختاره أنت لنفسك، في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد.. لأنه؛ فعّالٌ لما يريد.

- إذا كان الله معك فمن عليك؟.. وإذا كان عليك فمن معك؟» انتهى.

مؤلفاته:

وللأستاذ محمد عبد الحميد بعض المؤلفات والكتب، منها:

١- كلمات وآراء.

٢- في وجه الطوفان.

٣- العقيدة وحياة رجل العقيدة.

٤- ذكرياتي.

٥- الاهتمام ودوافع القراءة (بحث).

٦- المنظور الاجتماعي في دراسة وسائل الإعلام (بحث).

    فضلاً عن الرسائل والمقالات التي كان ينشرها في مجلات النذير والإخوان المسلمون، والدعوة، والمباحث القضائية، وغيرها.

   وقد بدأ الأستاذ محمد عبد الحميد الكتابة، وهو طالب في المرحلة الجامعية في كلية الآداب، فقد خصص الإمام البنا في مجلته الأولى مجلة (الإخوان المسلمين) الأسبوعية بابًا باسم (باب الطلبة) كان أبرز كتابه الأستاذ محمد عبد الحميد وذلك عام 1933م.

   يقول الأستاذ محمد عبد الحميد عن أستاذه الإمام الشهيد حسن البنا:

   «... ذكرياتي مع الشهيد الإمام حسن البنا (رحمه الله) ذكريات عطرة، فقد كان (رحمه الله) آية من آيات الله، كان اسمًا على مسمى «حسن البنا»، لقد بنى فأحسن البناء، وربى فأحكم التربية، كان سمته سمت الحكماء، وروحه روح الأولياء، وفراسته فراسة الأصفياء، كلماته إيحاء، وتوجيهاته نور وشفاء، عرفته فعرفت الرجولة في رجل، والقيادة في قائد، والإسلام في مسلم، وبايعته على العمل للإسلام داعيًا إلى الله ورسوله وإلى كتاب الله وسنة محمد (صلى الله عليه وسلم)، في مصر، والعراق، والأردن، والسعودية، وأحمد الله الذي وفقني لهذه الدعوة التي هي خير من الدنيا وما فيها، وأسأله أن يعصمني من الفتن ويثبتني على الدعوة حتى ألقى الله راضيًا مرضيًا» انتهى.

يقول الشيخ محمد الغزالي:

   «من الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة في هذا القرن الذليل، لقد سبقه في المشرق العربي، والمغرب العربي، وأعماق الهند وأندونيسيا وغيرهم، رجال اشتبكوا مع الأعداء في ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاءً حسنًا في خدمة دينهم وأمتهم.

   وليس يضير هؤلاء أنهم انهزموا آخر الأمر، فقد أدوا واجبهم لله، وأتمّ من بعدهم بقية الشوط الذي هلكوا دونه.

   إن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه، وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين.

   كان مدمنًا لتلاوة القرآن الكريم يتلوه بصوت رخيم، وكان يُحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله مقدرة ملحوظة على فهم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب.

   إن أسلوبه في التربية، وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.

    وقد درس السُّنَّة المطهَّرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند الإِمام أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف.

    ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مُهذّب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبى التورُّط فيما تورط فيه.

  ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع محاورة لبقة للابتعاد عن أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.

     وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة وتعمق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده.

    ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل في مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف قرية من القرى الأربعة آلاف التي تُكوِّن القطر كله.

   وخلال عشرين عامًا تقريبًا صنع الجماعة التي صرعت الاستعمار السياسي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد.

   ثم تحركت أمريكا وإنجلترا وفرنسا، وأرسلت سفراءها إلى حكومة الملك فاروق طالبين حلّ جماعة الإخوان المسلمين.

   وحُلَّت الجماعة وقُتل إمامها الشاب الذي بلغ اثنتين وأربعين سنة من العمر، وحملته أكف النساء مع والده الشيخ الثاكل إلى مثواه الأخير، فإن الشرطة كانت تطاردنا - نحن المُشيِّعين - حتى لا نقترب من مسجد (قيسون) الذي بدأت منه الجنازة.

   لقد بدأ حسن البنا عمله من الصفر، وشرع دون ضجيج يُحيي الإسلام المُستكين في القلوب، ويُوجهه للعمل. 

    ويكفي الإمام الشهيد شرفًا أنه صانع الشباب الذين نسفوا معسكرات الإنجليز على ضفاف القناة وما زالوا بهم حتى أغروهم بالرحيل.

   ويكفيه شرفًا أنه صانع الشباب الذين ما اشتبكوا مع اليهود في حرب إلاّ ألحقوا بهم الهزيمة وأجبروهم على الهروب.

   إن ذلك هو ما جعل الاستعمار مُصرًا على معاداة هذه المدرسة وإلحاق الأذى بها حيثما ظهرت.

    أنا لا أعتبر التتار هم مسقطي الخلافة في بغداد، إن الخلافة أسقطتها من قبل قصور مترعة بالإثم متخمة بالملذات الحرام.

    أنا لا أعدّ الصليبيين هم مسقطي دولتنا في الأندلس، إن المُترفين الناعمين هم الذين أنزلوا راية الإسلام عن هذه الربوع الخضرة، إن ملوك الطوائف في الأندلس لم يكونوا أبناء شرعيين لطارق بن زياد، ولا لغيره من الأبطال الذين باعوا لله أنفسهم فأورثهم الأرضين».

  (محمد الغزالي - من كتاب «دستور الوحدة الثقافية ص 6 - 8، 13 طبعة دار القلم بدمشق).

وفاته:

   هذا ولم يغادر الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد مكة المكرمة بعد تقاعده عن التدريس، بل أقام فيها مجاورًا إلى أن وافاه الأجل المحتوم يوم 4/5/1992م بعد مرض عضال استمر شهورًا، وصلي عليه في المسجد الحرام ودفن في مقبرة (المعلاة) بمكة المكرمة. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين.

رابطة أدباء الشام : وسوم: العدد 914

أصداء الرحيل:

محمد عبد الحميد أحمد... عميد طلاب الإخوان المسلمين

   في قرية "محلة فرنوى" التابعة لمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة وُلد الأستاذ محمد عبد الحميد، وكان ميلاده في 23/9/1911 م، وشبَّ الصغير في أسرةٍ دينية، فوالده وجده من الأزهريين، وقد حصل والده على شهادة العالمية وعمل بالمحاماة الشرعية فترةً طويلةً في القاهرة، ثم التحق خطيبًا وإمامًا في وزارة الأوقاف، وظل كذلك حتى أُحيل على المعاش عام 1971م.

الدراسة؛ والتكوين:

   التحق محمد بكُتَّاب القرية؛ وحفظ القرآن وتعلَّم فيه، ثم التحق بمراحل التعليم في القرية حتى انتقل مع والده إلى القاهرة فالتحق بمدرسة الجمعية الإسلامية، والتي حصل على الابتدائية فيها، ثم مدرسة الإبراهيمية الثانوية؛ حيث حصل على الثانوية؛ ثم تخرَّج في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) قسم اللغة العربية والدراسات الشرقية عام 1938م.

   وبعد تخرجه وجد صعوباتٍ في التعيين ولم يرضَ لنفسه أن يطلب المعونة من أحد الكارهين للدعوة مثل الدكتور طه حسين، وظلَّ كذلك حتى عُيِّن مدرسًا بمدارس الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وقضى فيها عامين؛ حيث نهض بالمدرسة، ثم سافر للعمل مدرسًا في العراق عام 1941 م.

   تعرَّض للمحنة في عهد عبد الناصر وأُوذي كثيرًا وظلَّ في السجون فترةً طويلةً حتى خرج فسافر، وكانت آخر وظائفه محاضرًا في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1985 م.

نحو الطريق:

   في 1933 م- وأثناء زيارة الإمام البنا للوجه البحري- قامت مجموعةٌ من طلاب المدارس العليا بزيارة الشيخ طنطاوي جوهري، وكانت تتألف من خمسة طلاب ينتمون إلى الكليات الجامعية المختلفة، وكانوا قد نجحوا في تأليف رابطة أسموها "شباب الإسلام"، وقد ذهبوا إلى الشيخ حامد سعفان والذي حلل لهم الوضع، وكان من مآخذه على الهيئات القائمة شيوع رُوح الحقد والدسائس والمؤامرات داخلها، واستشهد بحزبه الذي بدأ بفكرةٍ وطنيةٍ سليمةٍ ثم انتهى إلى مصالح حزبية ومغانم شخصية، وفوضى خُلقية وسياسية.

   ثم قال لهم: ما أنتم يا بني "ببدعٍ في هذا المجتمع المصري المريض فوصيتي إليكم أن تنضووا تحت لواء جماعةٍ إسلاميةٍ بعيدة عن الأغراض الخاصة والروح الحزبية، فتكونوا بذلك عنصرًا حيًّا تتقوى بجهودكم الجماعة ويعتز الوطن"، ثم قال: سأختصر لكم الطريق وأنصح لكم بالاتصال بالإخوان المسلمين ، تلك الجماعة الناشئة الحيَّة التي لمستُ من مجلتها رُوح الإسلام في حرارته الأولى واستروحتُ من أسلوبها نفحاتِ الإخلاص والصدق والجهاد ، ويكفي أن يعمل في ظل هذه الجماعة شخصية أُجلها وأحترمها فوق علماء العصر؛ وهو الشيخ طنطاوي جوهري رئيس تحرير مجلة الإخوان ، وهو عالم عظيم عرض الإسلام في كتبه وآرائه.

   فذهبوا للشيخ طنطاوي جوهري؛ فاستقبلهم الرجل خيرَ استقبال، ولما عرضوا عليه فكرتهم فرح بهم ثم سأل كلاًّ منهم عن معهده، فلما وجدهم كلهم جامعيين ومن كلياتٍ مختلفة انتفض الشيخ ووثب وثبةَ الواثق ونشوة الظافر وقال: "إذًا فقد بدأ عصر جديد، ولاحت نهضة جديدة، وطلع فجر منشود"، ثم قال: لا تستصغروا أنفسكم يا أبنائي؛ فإنكم قوة لو استقامت لأقامت الدولة وأقعدتها، وإنكم شعلة لو أُضرمت لأحرقت وأنارت، وما دمتم قد عرفتم الإسلام ووُفِّقتم إلى الدعوة إليه والعمل له فقد عرفتم الطريق، وآن لمصر أن تتطور، وآن للشعب أن ينهض، وإن الإخوان حركة جديدة تستلهم روح الإسلام وتترسَّم مناهجه في تربية الأمة وخلق الرجال على نمط الدعوة الإسلامية الأولى.

   ثم قال: إن أهم ما يميز البنا عن غيره أن كل مَن عرفهم من الزعماء أحد رجلين: إما سياسي حظه من الإسلام قليل أو زعيم ديني حظه من السياسة يسير؛ ولهذا لم تنجح الحركات الإصلاحية في مصر، أما الإمام البنا فهو يجمع بين الأمْرَين؛ فهو فقيه ممتاز وسياسي بارع.

   ولم ينتظر الشيخ طنطاوي جوهري حضور الإمام البنا؛ فبعث إليه بخطابٍ زفَّ إليه تلك البشرى وسمَّاها "فتحًا مبينًا"، وكانت بحقِّ فتحًا مبينًا على الدعوة، وأخذ يستحثُّ الإمام البنا أن يعود سريعًا إلى القاهرة، والتقى بهم الإمام البنا في القاهرة وبايعوه على العمل للإسلام، وكان من أولهم وأسبقهم على البيعة إخوة ستة، هم:

1- محمد عبد الحميد أحمد "كلية الآداب".

2- إبراهيم أبو النجار الجزار "كلية الطب".

3- أحمد مصطفى "التجارة العليا".

4- محمد جمال الفندي "كلية العلوم".

5- محمد رشاد الهواري "كلية الحقوق".

6- محمد صبري "الزراعة العليا".

   وقد اختار هؤلاء الإخوة الأخ محمد عبد الحميد مسئولاً عنهم، وسمَّاه الإمام الشهيد نقيب الطلاب، وحدد لهم الإمام الشهيد موعدًا للقائه (كأول لقاءٍ معه) في منزله بحي السروجية عطفة نافع بك، وكان مع الإمام البنا عشرة من الإخوة، منهم الأستاذ عبد الرحمن البنا- شقيق الأستاذ الإمام- والشيخ مصطفي الطير وغيرهم.

   وبعد انتهاء الحفل جلس معهم الأستاذ الإمام جلسةً خاصةً، وأخذ يتحدث معهم عن الدعوات الماضية في العصر الحديث كحركة جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وحركة المهدي بالسودان، وحركة السنوسية بليبيا، وعن القائد الباسل عمر المختار وموقفه من المستعمرين الإيطاليين، وكان يبين عناصر النجاح والفشل وأسبابها في هذه الحركات، ثم حدد لهم الإمام الشهيد موعدًا للقائه أسبوعيًّا بمنزله بعطفة نافع بك حي السروجية مغرب كل خميسٍ ليصلوا المغرب جماعةً وليلتقوا معه بعدها، ولقد أولى الإمام الشهيد عنايةً خاصةً بطلاب الجامعة، وكان يتعامل معهم بصفةٍ مباشرة.

    وقد نوهت مجلة الإخوان المسلمين عن انضمام هذه الكتيبة من الطلاب للدعوة تحت عنوان: "هيئة الإخوان المسلمين بالمدارس العليا": "مبادئ الإخوان المسلمين قويمة سهلة الفهم، ولكنها تتطلب إخلاصًا وعملاً، إنها ترمي إلى شيء واحد هو "تكوين الخلق الإسلامي الصحيح في الأمة تكوينًا صالحًا"، وتعتمد في ذلك على وسيلة واحدة هي "الحب والإخاء والتعارف التي تنتج حسن الأسوة وإصلاح النفس"، والأمة في نهضتها الحديثة أحوج ما تكون إلى مثل هذا المسلك القويم.

في الجامعة:

   بلغت دعوة الإخوان إبَّان رئاسته للقسم شأنًا عظيمًا في أوساط الطلاب؛ لذلك لُقِّب بأبي الجامعيين، كتب في مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية في نهاية الأربعينيات، وألّف كتبًا منها: "في وجه الطوفان"، "كلمات وآراء" و"ذكرياتي"، وكانت له دروسه ومحاضراته لأجيال الطلبة في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات.

    كما اجتهد في توصيل الدعوة لطلاب الجامعة عن طريق حرصه على إقامة الصلوات في مصلى كل كلية، فأقبل على الصلاة عددٌ كبيرٌ من الشباب؛ حتى إنهم طلبوا من عميد الكلية تخصيص غرفة الأساتذة الإنجليز أن تكون مسجدًا فوافق الدكتور منصور فهمي عميد الكلية على ذلك.

    ولم يكتفِ بذلك بل تقدَّم باسم طلاب الإخوان إلى عميد الكلية باعتراضٍ عمَّا جاء من سبابٍ لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الكتب التي تُدرَّس لقسم اللغة الإنجليزية مثل كتب جان دارك وبرنارد شو، ونشرت الصحف المصرية ذلك الأمر فتحرَّكت المظاهرات في جامعة الأزهر وبعض المدارس كالفاروقية بالزقازيق والسعيدية بالجيزة، ونجحت هذه الحركة حتى قرر مجلس الكلية إلغاء هاتين المادتين، كما أنها كانت فتحًا مبينًا داخل الجامعة؛ فقد أقبل الطلبة على دعوة الإخوان .

    ولقد نشط طلبة الجامعة في نشر الدعوة في ربوع البلاد فكانت قوافل الدعوة من الطلبة تذهب إلى البلاد لتوصل لها الدعوة، وكان الناس يعجبون لهؤلاء الطلبة الأفندية الذين يجيدون التحدث في أمور الدين فيقبلون على الدعوة.

     وفي 19 من ذي الحجة 1356هـ، الموافق 20 من فبراير 1938 م عُقد أول مؤتمر لطلبة الإخوان المسلمين برئاسة المرشد العام وسكرتارية الأخ حامد شريت وبحضور كلٍّ من الأخ محمد عبد الحميد أحمد عضو مكتب الإرشاد، والأخ محمد الجنيدي جمعة عضو مكتب الإرشاد.

   وقد افتتح المؤتمر بكلمة للأخ حامد شريت سكرتير المؤتمر ثم تلاه كلمة الإخوان بالأزهر ودار العلوم حول الإسلام والوطنية ألقاها الأخ محمد الجنيدي جمعة، ثم كلمة الأخ محمد عبد الحميد أحمد حول أنسب الأوقات للدعوة الإسلامية، وكان الختام كلمة فضيلة المرشد العامللإخوان المسلمين التي دعا فيها إلى العمل، وحدد فيها معنى السياسة والحزبية، وأن السياسة جزءٌ من الإسلام، وأن التشريع الإسلامي كفل الحقوق الدولية وحماية الأقليات ثم هاجم الحزبية في مصر واعتبر أحزابها أحزابًا مصطنعة، ومما قال:

أيها الإخوان يا شباب الله ورسوله وكتابه

سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

   ففي مثل هذه الذكريات تتجدد آمال، وتحيا مشاعر، وإنَّ من حق هذه الذكريات علينا أن نتحدث فيها بعواطفنا ومشاعرنا وآلامنا وآمالنا، وأن نكون فيها جد صرحاء، ولا يفوتني في مفتتح هذه الكلمة أن أحيي تلك الساعة المباركة التي جلست فيها إلى ستةٍ من إخوانكم منذ أربعة أعوام نتذاكر فيها واجب شباب الجامعة نحو الإسلام ، وقد تخرَّج من هؤلاء الستة اثنان هما موظفان الآن، ولولا أني أعلم كراهيتهم لذكر أسمائهم، ولولا أني سعيد بتشجيع هذا الشعور فيهم لذكرتهم، ولكن حسبهم في جهادهم ثواب الله.

   في نهاية العام الثاني جمع هذا الحفل أربعين من إخوانكم، وفي نهاية العام الثالث كان عددكم ثلاثمائة، وهاأنتم الآن في عامكم الرابع تزيدون ولا تنقصون.. ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ (الأعراف: من الآية 58).

    ومن كلمات الأستاذ محمد عبد الحميد في المؤتمر: "أيها الإخوان: هذه دعوتنا، بل دعوة الله أعلنها عليكم واضحةً صريحةً، وهذه قافلة الله تسير إلى الله بنور الله، وهي لن تضرها القلة والله يقول:﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: من الآية 249)، ولن تزعزعها الدنيا الباطلة لأنها تُدافع بقوةِ الله قبل قوتها، وإنَّ الله ليسخر الدنيا وتخضع الطبيعة للإيمان، فلا يملك الباطل أمام الحق إلا الهزيمة.

   إن الأيام تميز معسكرين يتضحان شيئًا فشيئًا، ومن الخير تمايزهما، فالمعسكر الأول معسكر الإسلام والدعوة إليه، فإن كنت مؤمنًا به فابذل نفسك له، إن كنت مسلمًا تعني ما في الإسلام من معانٍ ومهام، استمسك بهذا اللواء الذي عقده الله لنبيه، وما أنت إلا رسول الله لتبلغ رسالته وتنشر دينه في الآفاق.

    وافن في هذه العقيدة فناءً، ولتكن صلاتك ونسكك ومحياك ومماتك لله رب العالمين لا شريك له، فإن كنتم مؤمنين بهذه الدعوة كلها لا نصفها ولا ثلثها فابذلوا أنفسكم لها وبيعوه إياها ظافرين غانمين.

    والمعسكر الآخر هو معسكر الإلحاد، وقد أوشك الصراع أن يكون بين هذين إن قريبًا وإن بعيدًا، فلا يكن حظك أيها المسلم أن تمتع نظرك بهذا الصراع فهذا ما لا يرضى لنفسه كثير من الدواب، وإني لأربأ بالرجل أن يعيش بغير غاية، وهذه هي رسالة الإسلام فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 24)، والسلام عليكم.

وكانت مقررات المؤتمر:

1- مطالبة الهيئات الإسلامية جميعًا بالاشتراك الفعلي في السياسة العامة للأمة مع العمل على تكوين اتحاد عام لها.

2- المطالبة بحل جميع الأحزاب الحالية السياسية وأن تستبدل بها هيئة موحدة لها منهاج إصلاح إسلامي يتناول كل شئون النهضة.

3- وجوب تجرد كل طالب ينتسب إلى الإخوان المسلمين من كل لونٍ حزبي مع الاصطباغ التام بالفكرة التي تعتمد على سياسة القرآن وتعاليمه ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138).

4- وضع منهاج الإصلاح الذي يوجه النهضة على أساس يؤدي إلى التخلص بالتدريج من الصبغة الغربية وقيود التقليد التي تصبغ الحياة المصرية ويعود بهذه الحياة إلى الأصول القومية في التشريع والعادات والثقافة والاجتماع والاقتصاد.

5- يرى المؤتمرون أن الجو السياسي العالمي الآن ملائم كل الملاءمة لتوثيق الروابط بأوسع ما يمكن بين مصر والأقطار الإسلامية العربية تحقيقًا للأخوة المنشودة وتمهيدًا لاسترجاع الخلافة.

6- ينتهز المؤتمرون هذه الفرصة للاحتجاج على حوادث فلسطين الدامية وحوادث المغرب الأقصى.

    ولقد اختير محمد عبد الحميد عضوًا في مكتب إرشاد الإخوان، وجدد اختياره في عضوية عام 1945م، وكان تشكيل مكتب الإرشاد كما يلي:

1- الأستاذ/ حسن البنا

2- لأستاذ/ أحمد السكري

3- الأستاذ/ عبد الحكيم عابدين

4- الأستاذ/ عبد الرحمن الساعاتي

5- الدكتور/ محمد أحمد سليمان

6- الأستاذ/ محمود محمد أحمد البراوي

7- الأستاذ/ حسين مصطفى بدر

8- الأستاذ/ طاهر عبد المحسن

9- الأستاذ/ محمد أحمد الحلوجي

10- الأستاذ/ عبده أحمد السيد قاسم

11- الأستاذ/ أحمد محمد عطية

12- الأستاذ/ عبد المنعم فرج الصدة

13- الأستاذ/ سالم غيث

14- الأستاذ/ صلاح الدين محمد عبد الحافظ

15- الأستاذ/ عبد الحفيظ سالم الصيفي

16- الأستاذ/ صالح مصطفى عشماوي

17- الأستاذ/ محمد عبد المنعم أبو الفضل

18- الأستاذ/ حسين كمال الدين

19- الأستاذ/ محمد خضري محمد

20- الأستاذ/ محمد محمود شريف

21- الأستاذ/ أمين إسماعيل حسن

22- الدكتور/ إبراهيم حسن

23- الأستاذ/ حلمي نور الدين

24- الأستاذ/ محمد عبد الحميد أحمد

   كتب الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد واصفًا الإمام البنا بقوله: "رجل كأنما أفلت من الرعيل المحمدي الأول، جيل الوحي والمعجزات، جيل البطولة والأبطال ليعيش في جيلنا الحاضر، جيل الظلم والظلمات، جيل الرجال وأشباه الرجال، جيل الغاب المتحضر، والمخالب المكسوة بالقطيفة المخضبة بالدم الأحمر.

   رجلٌ لا يُقاس بمقاييس زعماء العصر الحديث، بل يرتفع إلى عصر الدعاة الضخام كعمر بن عبد العزيز وابن تيمية.. لقد كان "حسن البنا" "عنصر خلود" عجيب بين مقومات المادة ومعالم الفناء، كان "شحنة إلهية" فذة سرت في أعصابها أقباس النبوة، وأنوار الدعوة، وروح محمد- صلى الله عليه وسلم- كان "شعلة حياة" عالية الجذوة تتوهج في ظلمات الناس فتفيض عليهم بأمواج النور والحرارة والسناء كان "عنصرًا" أصيلاً من عناصر الطبيعة يعمل للإصلاح بفطرته.

  ولقد وصف الإمام البنا حالة الشباب بقوله:

  أيها الشباب: إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفَّر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها، وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة من: الإيمان، والإخلاص، والحماسة، والعمل من خصائص الشباب؛ لأن أساس الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب.

   ومن هنا كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً﴾ (الكهف: من الآية 13).

  ومن هنا كثُرت واجباتكم، ومن هنا عظمت تبعاتكم، ومن هنا تضاعفت حقوق أمتكم عليكم، ومن هنا ثقلت الأمانة في أعناقكم، ومن هنا وجب عليكم أن تُفكِّروا طويلاً، وأن تعملوا كثيرًا، وأن تحددوا موقفكم، وأن تتقدموا للإنقاذ، وأن تعطوا الأمة حقها كاملاً من هذا الشباب.

الدعوة في العراق:

   يقول الإمام البنا: أيها الشباب، إن منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل، واضح الخطوات، فنحن نعلم تمامًا ماذا نريد، ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة.

  - نريد أولاً الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرفه.. فهذا هو تكويننا الفردي.

  - ونريد بعد ذلك البيت المسلم في ذلك كله، ونحن لهذا نعني بالمرأة عنايتنا بالرجل، ونعني بالطفولة عنايتنا بالشباب، وهذا هو تكويننا الأسري.

  - ونريد بعد ذلك الشعب المسلم في ذلك كله أيضًا، ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت، وأن يسمع صوتنا في كل مكان، وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل في القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار، لا نألو في ذلك جهدًا، ولا نترك وسيلةً، ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية، وأضاعت وحدته المطامع الأوروبية.

   بهذه المعاني حمل محمد عبد الحميد دعوته وسافر بها إلى العراق، فقد اهتمَّ الإخوان بالعراق وشعبه كاهتمامهم بباقي الدول الإسلامية، فعندما سنحت فرصة لإرسال أحد الإخوان للعمل هناك اختاروا فلذة كبد الحركة الطلابية ورائدها، وهو الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد، وأرسلوه إلى العراق عام 1941 م، بل وأرادت مشيئة الله- تعالى- أن يشاركه في المهمة الدعوية الدكتور حسين كمال الدين، حيث عمل أستاذًا للمساحة في كلية الهندسة ببغداد مدة عامين كاملين، ترك فيهما أعظم الأثر بين طلابه وزملائه.

    وقد كتب عن العراق، فقال: "إن العراقي بحكم بيئته المتقلبة، وجوّه العنيف المضطرب مثال للجد والصرامة، ورمز الخروج على ما لا يرضى من النظم والأوضاع".

  وقد بدأ الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد التحرك بالخطوات التالية:

أولاً: الاندماج مع الطلبة العراقيين إيمانًا منه بأنهم هم مستقبل هذا البلد، وهم الأقدر على حمل أعباء

ثانيا: الاتصال بالجمعيات الإسلامية التي تنهج نهج الإخوان أو قريبة منه:

   يقول الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد: "كما اتصلت بجمعية الهداية الإسلامية، وهي أشبه الجماعات بالإخوان في مبادئها، وتعرفت بسكرتيرها العام الأستاذ كمال الطائي، وكنت أدعو طلابي إلى الحضور إلى هذه الجمعية كل يوم خميس بعد صلاة المغرب، وأتحدث إليهم في شئون الدعوة وأهدافها.

    وقد أتت هذه الدعوة ثمارها، فيقول في هذا الصدد: "وقد حدث أن زارني في مسكني بالعراق خمسة طلاب من المعجبين بكلماتي وتوجيهاتي، وأخذوا يوجهون إليَّ الأسئلة الكثيرة حول الدعوة الإسلامية، وكيف يؤدون رسالتهم نحوها، وما لبثنا أن سمعنا أذان الظهر، فدعوتهم جميعًا إلى صلاة الظهر جماعةً، فاستجابوا لدعوتي، وقد فهمت أن صلاتهم هذه هي أول صلاة لهم، وأنهم لم يتلقوا من آبائهم وأمهاتهم أمرًا بالصلاة، ولا من أساتذتهم؛ وذلك لأنهم لم يجدوا القدوة الصالحة لهم في أداء هذه الفريضة"، وقد أصدروا مجلة باسم "هذا اللواء"، ولم يقتصر نشاط الإخوان في نشر الدعوة على بغداد فقط، بل حرص الأستاذ محمد عبد الحميد والدكتور حسين كمال الدين على نشرها في باقي المدن، فكانا يتنقلان بين المدن كلما سنحت الفرصة لذلك.

نشاطه نحو قضية فلسطين:

  لم يقتصر نشاط الأستاذ محمد عبد الحميد ودفاعه على العراق فحسب بل كتب يدافع عن فلسطين وقضيتها فقد كتب يقول: "يا رئيس وزراء مصر فقط أي شيء أقالك عن رئاسة وزراء فلسطين يوم غضبت لقضيتها في العام الماضي في نفس المكان وعلى مسمع القوم أنفسهم؟ لا أحسب شيئًا أقالك ونحَّاك عن فلسطين إلا الحكم الذي كنت منحى عنه يومئذ، فلو أنصفت لقلت: إنك رئيس منصب الحكومة لا رئيس الحكومة، ولا رئيس آمال الأمة الكريمة.

  يا رئيس وزراء مصر لا فلسطين، أتدري أي سهمٍ أرسلت؟ وأي قلبٍ أصبت؟ وأي شرف طعنت؟ وأي ذنب اقترفت بهذه الكلمة الخطيرة الصغيرة؟.

قالوا عنه:

   يقول عنه الأستاذ محمد حامد أبو النصر (المرشد العام الرابع للإخوان المسلمين):

   إن الأخ الكريم الأستاذ محمد عبد الحميد بذل في سبيل نشر دعوة الإخوان كل غالٍ وثمين واستطاع في قوته وشبابه أن يلج كل المجتمعات حاملاً هذه الراية دون كللٍ أو ملل، بل إنه قد تعرَّض لكثيرٍ من المتاعب والمشقات، وقامت في سبيله كثير من العقبات، لكنه بفضل الله استطاع أن يزيل العقبات وأن يجمع الصفوف، وأن يجعل كلمة الله تعالى هي العليا في وقتٍ كانت فيه الأفكار المحاربة للإسلام هي السائدة والمزودة بكثيرٍ من الإمكانيات، كما أن الأخ من أوائل مَن نشروا دعوة الإخوان المسلمين في العراق الشقيق؛ حيث عمل مدرسًا هناك فبذر البذرة ونمت الشجرة وامتدت فروعها هناك.

  ويقول الأستاذ عبد الحكيم عابدين (السكرتير العام للإخوان المسلمين):

    إن الله- عزَّ وجلَّ- أدخر لي السعادة والثقة الكبرى بالتحاقي بدعوة الإخوان المسلمين في كلية الآداب المباشر ومَن يدري لو التحقت بكلية الحقوق لم يكن في استطاعتي؛ ذلك لأن داعية الإخوان المسلمين الأول في الجامعة ومثال الفناء في الدعوة فهمًا وعلمًا وتضحيةً وصبرًا ومجالدةً كان أحد طلبة كلية الآداب كنا نسميه دائمًا أبا الطلبة الإخوانيين، وهو أخي وأستاذي محمد عبد الحميد أحمد.

   ويقول الأستاذ محمد عبد المنعم (أحد قادة الإخوان في الإسكندرية ومن الرعيل الأول):

    "إن دعوة الإخوان كانت موجهة للشباب، بصفة خاصة شباب طلاب الثانوي والشباب في القطاعات المختلفة، وكان من أوائل الناس الذين كان لهم البذرة الطيبة في الجامعة الأخ محمد عبد الحميد أحمد رحمه الله، والذي عاصرته في الفترة من 1954 ، 1965 وهو مُرِبٍّ فاضل، وكان طالبًا في كلية الآداب، وكان أول مَن أنشأ قسم الطلاب، وكان يُسميه الأستاذ البنا الطالب الأول".

رحيله:

   بعد أن خرج الأستاذ محمد عبد الحميد للعمل كمحاضر في جامعة أم القرى بمكة أقام بقية حياته بها حتى تُوفي بعد مرضٍ عضال قاساه شهورًا طويلة في 4/5/1992 م، وصُليَّ عليه بالحرم المكي ودُفِنَ بمكةَ المكرمة.

المراجع:

1- محمد عبدالحميد: ذكرياتي، دار البشير، 1993 م.

2- جمعة أمين عبدالعزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الثاني، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2002 م.

3- عباس السيسي: في قافلة الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.

4_ الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين في سورية.

5_ إخوان أونلاين.

6_ من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة: العقيل.

7_ رابطة أدباء الشام.

8_ مواقع إلكترونية أخرى.

وسوم: العدد 1073