عبد المحسن السعدون

رجل ناء بحمل الأمانة

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

الرجال أمانات

في يوم من الأيام، من تاريخ العراق الحديث، كان هناك رئيس وزراء يعرفه جميع العراقيون إذ أقاموا له في قلب بغداد تمثالاً، وأجمعوا (وهو ليس بالأمر السهل)على احترامه ، هو سليل أسرة شريفة، كان ضابطاً في شبابه، ويوم أصبح رئيساً للوزراء، كان الإنكليز ينشبون مخالبهم في العراق الحديث العهد على الاستقلال وممارسة السياسة، فصار بين نارين، نار المطالب الوطنية، ونار الرفض الإنكليزي، وكلا الجمرتان تستعران: الوطنية عنفواناً وغيرة، والأجنبية تدعو للرضوخ والتنازل والمناورة والمداورة، بين الكرامة الوطنية، وبين انتزاع الحقوق من مستعمر يدير نصف العالم يومذاك ...!

وليس السعدون من يجهل أين الحق ...... فمحله واضح وضوح البينة الساطعة، ولكن أغلب الناس لا يعلمون، ولا يرحمون، فأساؤا به الظن، ويا للهول، هو لم يحتملها فرية، تهمة باطله، لم يحتملها قلبه الشريف، وأختار الموت، ليكسب الحياة والشرف الأبدي، وحب في قلوب شعبه الحبيب لا يزول، وذكرى في قلب عاصمة بلاده .

فماذا فعل العراقي الشريف عبد المحسن السعدون. كتب على ورقة صغيرة عبارة سيخلدها التاريخ :

ولدي وقرة عيني علي: الأمة تريد الخدمة والإنكليز لا يوافقون

وجد السعدون أن الحمل ثقيل، أطلق عبد المحسن السعدون رصاصة على رأسه الملتهب وطنية ... لكي لا يلوث أصبعه بتوقيع يأنفه. يستحي منه حاشاه، كان في الأربعين من عمره، فترك وراءه أطفالاً، ولكنه أصبح أباً لكل العراقيين، يتلقى كل يوم التحية من الملايين التي تمر من أمام تمثاله.

لا أعتقد أن الأمر اليوم صعب بتلك الدرجة التي كان عليها العراق عام  1929. ولكن لا يوجد عبد المحسن السعدون.

********************

   

ولد عبد المحسن السعدون في مدينة الناصرية عام 1879 في عشيرة عربية وكان قد  أخذ قسطه من التعليم المعتاد على تلك الأيام ليصبح مؤهلا للدخول في المدارس الرشدية وليغادر بعدها إلى الآستانة ليتلقى تعليمه في المدرسة الحربية شأنه شأن رجال تلك المرحلة:  ياسين الهاشمي ونوري السعيد وجميل المدفعي وعلى جودت وطه الهاشمي وجعفر العسكري ومولود مخلص. حيث تخرج منها برتبة ملازم ثم تدرج في السلك العسكري، أنتخب بعدها في مجلس المبعوثان ليصبح نائبا فيه .

ويرجع نسب أسرة السعدون للأشراف من سلالة أمراء المدينة المنورة (أعرجية حسينية النسب) وهم حكام إمارة المنتفق تاريخيا والتي كانت تضم معظم مناطق وقبائل وعشائر جنوب ووسط العراق، وفي نفس الوقت فان أسرته شيوخ قبائل اتحاد المنتفق (أكبر اتحاد للقبائل والعشائر مختلفة الأصول شهده العراق)، وكان أبوه حاكما على اللواء وأميرا لعشائره. وتعلم في مدرسة العشائر بالآستانة ثم في المدرسة الحربية ، وتخرج ضابطا في الجيش العثماني وكان ضابطا رفيع المستوى وجعله السلطان عبد الحميد، مع أخ له اسمه عبد الكريم، مرافقين له. وظل عبدالمحسن في الآستانة بعد خلع السلطان عبد الحميد، فانتخب نائبا عن (المنتفق) في مجلس النواب العثماني. وعاد إلى العراق في خلال الحرب العالمية الأولى.

ولما وضعت الحرب أوزارها وعاد العراقيون إلى بلادهم، برز السعدون كإحدى الشخصيات البارزة في القيادة السياسية والحكم في عهد الملك فيصل الأول ( 1833 ـ1933) ، إذ أصبح وزيرا للعدل لأول مرة عام 1922 ثم وزيرا للداخلية ثم تقلد منصب رئاسة الوزراء في 17 تشرين الثاني من السنة ذاتها، وهو ثاني رئيس وزراء في العهد الملكي في العراق بعد نقيب أشراف بغداد السيد عبد الرحمن الكيلاني النقيب، ثم تقلد رئاسة الوزراء أربع مرات، حتى وفاته.

وفي تلك الظروف الصعبة عمل جاهدا على قيام نظام برلماني يستند على قاعدة أن الأكثرية الحزبية هي التي تشكل الحكومة، ففي 16 تموز من عام 1925 حينما افتتح البرلمان لأول مرة، كان حزب التقدم الذي يرأسه السعدون يمثل الأكثرية، و نشأت المعارضة القوية التي كان يتزعمها ياسين الهاشمي، وكانت معظم الصراعات السياسية تدار من دار المندوب السامي هنري دوبس ومساعديه كورنواليس، وبرودلين في بث الفرقة بين العراقيين لتبقى كلمة الاحتلال هي العليا، عن طريق المندوب السامي.

وعندما كان عضواً في مجلس النواب العثماني ممثلا مع شخصيات أخرى للولايات العراقية، وانتمى للجمعيات السرية التي تدعوا لاستقلال العراق، وخلال الحرب العالمية الأولى ساهم في المعارك ضد الإنكليز، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، كان من الشخصيات العراقية البارزة في مرحلة تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وطرح أسمه في المداولات بتأسيس العراق، فتولى وزارة العدل 1922، ثم ليخلف عبد الرحمن الكيلاني النقيب. وفي عام 1922 تولى منصب رئاسة الوزراء أربع مرات في الأعوام 1922 و1925 و1928 و1929.

وكانت مساعي السعدون تتركز خلال فترة الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى بالتوفيق ولو بالحدود الدنيا بين الإرادة الوطنية وبين إرادة سلطات الاحتلال. فحاول أن يجعل من العراق دولة ذات قرار مستقل تسير نحو الاستقلال، وتستفيد من قوة المحتل، من خلال مبدأ التعاون مع حليف قوي لا من مبدأ المقهور، في المحافظة على سلامة أراضيه ووحدة بلده واستقلال وطنه.  

فسعى السعدون لتكوين أجهزة دستورية برلمانية قوية تساعد العراقيين على الوصول إلى غايتهم، وحرصه على إبقاء " الموصل " جزءا لا يتجزأ من العراق، على الرغم من مطالبة تركيا بها، وعالج مسألة الأكراد بكل حكمة وموضوعية، كما عمل جاهداً على إلغاء بعض المعاهدات والأمتيازات الأجنبية التي فرضتها تبعية العراق للدولة العثمانية  وعالج بكل كفاءة مسألة الديون العثمانية وأمتيازات النفط، محاولا تخليص العراق من ثقل الأعباء المالية، ثم التدرج في وضع اليد على مرافقه الاقتصادية مثل سكة الحديد وميناء البصرة.

هذا كله وهو يحاول التوفيق بين إرادة دولة عظمى محتلة ومجاراتها، وبين استخلاص ما يمكن استخلاصه من أمتيازات شعبه ووطنه، وتهيئة العراق للأخذ بزمام أموره في المجال العسكري والاقتصادي والسياسي، وذلك حينما أصر وبقوة على استقلال العراق ودخوله عصبة الأمم، خاصة بعدما ضمن قضية الموصل بعقد المعاهدة الإنكليزية التركية العراقية، في 5 حزيران 1926.

 لكنه عندما علم أن الإنكليز أخذوا يتنصلون كعادتهم من التزاماتهم، وأدرك أنه لا سبيل إلى التوفيق، وأنه وصل إلى نهاية الطريق المسدود، وأنه لا يمكن أن يخون مبدأه وشعبه، قرر حينها أن يكون رمزاً كأول سياسي عراقي أدرك عمق التناقض في التوفيق بين قوة الاحتلال وإرادة الاستقلال، فكانت حياته ثمناً لإدراكه هذه الحقيقة.

**************************

ومن أهم المشاكل التي تصدى لها السعدون خلال هذه الفترة من حكمه هي التي يمكن إيجازها بما بأتي :

 1 . معاهدة 1926 وتوابعها وملاحقها ومحاولة القوى الوطنية تسوية الطريق نحو إنهاء الانتداب والدخول في عصبة الأمم .

2 . حل البرلمان والمجيء ببرلمان أكثر توحدا واستقرارا لإنجاز مهمة إنهاء الانتداب والتوجه نجو الاستقلال الناجز .

3 . محاولة الابتعاد عن هيمنة الملك فيصل، وجعل الوزارة هي المسؤولة دستوريا عن إدارة الدولة أمام البرلمان .

4 . إبعاد بعض كبار رجال الدين الشيعة المعارضين لسياسة الحكم ونفيهم إلى إيران .

 5 . الوقوف بحزم ضد السياسة المالية والعسكرية التي تفرضها وزارة المستعمرات البريطانية على العراق.

6 . دعم التجنيد الإجباري وإيجاد جيش عراقي متين له استقلالية في اتخاذ القرار والتنفيذ وتجهيزه بالمعدات والسلاح .  

7 . الصراع المكشوف بين السعدون وبعض الشخصيات البارزة كياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني ونوري السعيد وجعفر أبو التمن وجعفر العسكري وحكمت سليمان وناجي السويدي ورستم حيدر... الخ

8 . التصدي لمواقف الأحزاب المهمة المناوئة له ولحزبه التقدم، كأحزاب الشعب و الاستقلال والوطني والعهد....

9 . النزاعات الطائفية والعشائرية المفتعلة والموعز بها أو المفروضة من قبل دوائر(الاحتلال ــ والانتداب) والتي أدت إلى كثير من الصعوبات والحوادث المؤسفة التي حالت دون تنفيذ السعدون لبرنامجه الإصلاحي. والتي كان من أبرزها خروج رؤساء القبائل وبعض الشخصيات المتنفذة من حزب التقدم بسبب عدم حصولهم وأتباعهم على المناصب والامتيازات أو الفوائد المادية التي انظموا من اجلها إلى حزب التقدم ، حزب السلطة.

هذه وغيرها من التعقيدات والصراعات هي التي أدت إلى تلك النهاية المأساوية التي ختم السعدون حياتها فيها بالانتحار في 13 تشرين الثاني عام 1929 .

**************************

انتحار عبد المحسن السعدون في عام 1929

 (مذكرات السيد عبد العزيز القصاب)

في عام 1928 بدأت وزارة عبد المحسن السعدون تسعى لتعديل الاتفاقيات المتصلة بالمالية والعسكرية من المعاهدة العراقية البريطانية المعقودة عام 1927 فلم تتمكن من إقناع دار الاعتماد بهذا التعديل، فاضطرت إلى تقديم استقالتها في 20 كانون الثاني 1929 فوافق الملك على قبولها وطلب منها أن تدير الأمور وكالة حتى يتعين خلف لها.

وبعد ثلاثة أشهر تقريباً كلف السيد توفيق السويدي بتشكيل الوزارة

وبعد انقضاء الدورة سافر السعدون إلى مصيف برمانا (لبنان) للاستجمام، وبعد مرور شهرين على غيابه طلبه الملك فيصل واستدعاه الى بغداد.

وفي تاريخ 17 آب من السنة المذكورة عاد السعدون إلى بغداد وانتشرت الأخبار عن تأليف وزارة جديدة برئاسته على اثر تصريح بريطانيا بقبول العراق في عصبة الأمم عام 1932. وفي يوم 19 أيلول عام 1929 شكل السعدون وزارته من السادة المحترمين: ناجي السويدي للداخلية، وياسين الهاشمي للمالية ومحمد أمين زكي للأشغال والمواصلات، ونوري السعيد للدفاع، وعبد العزيز القصاب للري والزراعة، وناجي شوكت للعدلية، وعبد الحسين الجلبي للمعارف. واجتمع الوزراء المذكورون في دار الرئيس وتذاكروا في منهاج الوزارة وقرروا أهدافه ومبادئه.

وحينما علم الإنكليز بمنهاج الوزارة اخذوا يعارضون بكل شيء ويطلبون من الوزارة تنفيذ المستحيلات كتمديد عقود الإنكليز أو تجديدها وترفيع بعضهم وتبديل وتغيير بعض الموظفين العراقيين ومدراء الإدارة أو مأموري المالية.

وبدأوا بإثارة الاعتراضات على الإدارة، بكل شيء والوزارة تقابل اعتراضاتهم بصبر وحكمة وصارت أمور الدولة المهمة بين المد والجزر.. فدار الاعتماد من جهة، والوزارة من جهة أخرى، والملك بينهما يعاني الصعوبات ومقابل ذلك كله الشعب الذي يطلب المزيد من الاستقلال، وفعلاً سارت الوزارة في تنفيذ خطتها بدون تردد.

أما الوزارة فلم تعلن منهاجها في الصحف عند تشكلها حسب العادة بل أشار رئيس الوزارة إلى بعض نقاطه في المجلس النيابي عند مناقشة خطاب العرش في جلسة مجلس النواب الثالثة المنعقدة في 11 تشرين الثاني عام 1929 فاخذ النواب كمحمد زكي المحامي وجعفر أبو التمن ورشيد عالي الكيلاني يستوضحون ويستفسرون من الرئيس وهو يجيبهم باللين والهدوء حتى قام النائب معروف جاويك وقال له بالنظر لهذا المنهاج يظهر بأنكم تقصدون إحداث الثورة في البلاد.

ويكتب أحد وزراء السعدون (عبد العزيز القصاب) في مذكراته : أن السعدون تأثر من هذا الاتهام وأراد أن يرد عليه بشدة وقال لمن كان في جانبه من الزملاء: يجب أن أرد هذا الجاسوس الإنكليزي.. فمسكه ياسين الهاشمي الذي كان جالسا بجانبه وأنا كنت بجانب ياسين فشاركته في التهدئة ومنعناه من أن يجيبه بهذه الصراحة فهدأ واستمر يجيب المعارضين بالحكمة والحسنى وان انتقادات النواب وأجوبة الرئيس عليها نشرت في محضر جلسة مجلس النواب المذكورة أعلاه.

في يوم 12 تشرين الثاني عام 1929 كان الملك فيصل قد أولم وليمة على شرف مستشار الداخلية السيد كنهان كورنواليس بمناسبة ختام إجازته وعودته من لندن. وكنت مدعواً لهذه الحفلة ولكن أصابني زكام شديد منعني من الدوام الرسمي ومن الحضور في هذه الحفلة. وفي اليوم الثاني أي يوم 13 تشرين الثاني جاءني المرحوم عبد المحسن إلى داري قبل غروب الشمس وسألني عن أسباب غيابي عن حفلة الملك ولما رآني مزكوماً عذرني واخذ يحدثني بما جرى له مع كورنواليس في حفلة الملك حيث انتحى به في ركن من أركان الصالون وكلمه عن السياسة العراقية البريطانية واخبره بأنه عندما عاد للعراق شاهد تبدلاً كبيراً في سلوك الحكومة وسياستها وانه مستغرب هذا وان عبد المحسن أجابه بأنه قد تعب جداً من الركض وراء وعود الإنكليز وعهودهم التي لم تلمس البلاد منها فائدة ترضي الشعب العراقي وان الإنكليز حريصون على تنفيذ مطالبهم وتحقيق مصالحهم، أما مصالح الآخرين فلا يعيرونها أدنى اهتمام.

 وقد طال البحث والجدل بينه وبين كورنواليس تقريبا ساعة. وفي الأخير صرح كورنواليس بان السياسة الإنكليزية لم تتبدل ولا يوجد في الوزارة الإنكليزية أية نية لتغيير سياستها في العراق الآن.. وقال السيد عبد المحسن السعدون وبعد هذه التصريحات التي سمعتها من كورنواليس فارقته ولم أرد عليه وعند خروجي من الصالون مررت على الملك فسلمت عليه وأخبرته بما دار بيني وبين كورنواليس من الأبحاث وما صرح لي به وأظهرت له انزعاجي ما سمعته وقلت له (أن كل ما نرجوه من الإنكليز هو خيال وليس له ظل من الحقيقة).. ولم يبق لي أمل في تغيير سياستهم في العراق وخرجت من البلاط وأنا متأكد أن الإنكليز يخادعوننا ولا يعطون مجالاً للخدمة الصحيحة.

ولقد لاحظته عندما كان يتكلم متأثراً جداً وعلى وجهه علامات الاضطراب والكآبة والانفعال.. فأخذت أسليه بأننا إنما نعمل واجبنا في خدمة بلادنا على قدر طاقتنا وإننا عندما نلاقي العراقيل والمخالفات والأكاذيب من الإنكليز نترك الحكم لهم وللمك يتصرفون به كيفما يشاؤون ويجنون العواقب الوخيمة بيدهم ثم نهض وعليه آثار الانزعاج والتألم فقلت له لا يستعجل بالخروج لكي نستمر في الموضوع فرفض وقال انه يريد الذهاب إلى النادي، فطلبت منه أن يشرب القهوة التي وصلت إلى باب الغرفة فلم يتوقف وكان مطأطئ الرأس لا يلتفت يمنة ولا يسرة.. فلحقت به إلى باب الدار فلم يتكلم بشيء وإنما رفع كلتا يديه للسلام بدون كلام وقال لي حامل القهوة الذي صادفه في الباب وجهاً لوجه بأنه رأى عينيه مغرورقتين بالدموع.

بعد خروج عبد المحسن من داري ذهب إلى النادي العراقي في محلة السنك وبقي هناك ساعة أو أكثر ثم رجع إلى البيت وفي الساعة التاسعة من تلك الليلة جاءني الطباخ مبروك مرتعداً وهو يقول أن الحارس اخبره بمقتل السعدون.. فقمت مسرعاً إلى داره في البتاويين التي كانت بالقرب من داري فرأيت الشرطي العريف في الباب وهو يبكي وأشار إلي بأن الحادثة وقعت في الطابق الثاني فصعدت مهرولاً فوجدت زوجته وبنته عائدة ينوحان وأشارا إليه فإذا به ملقى على فراشه جثة هامدة فتقربت منه وشاهدت صدره مثقوباً من جهة قلبه بطلقة مسدس..فسألت مدهوشاً فأجابتني عائدة بأنه هو الذي ضرب نفسه وهذا هو مسدسه.

ولما أيقنت بمفارقته الحياة تألمت ألماً شديداً ونزلت إلى غرفته (المكتبة) وجلست على كرسي أمام طاولة الكتابة وأنا متأثر جداً وتلفنت إلى رئيس الصحة والأطباء وأخبرت الوزراء، عن الحادث.. ثم نظرت إلى الطاولة فوجدت عليها كثيراً من الأوراق الرسمية، وقد لفت نظري كتاب مفتوح موضوع فوق الأوراق فأخذته وقرأته وإذا به كتاب وصيته الخالدة.. (الأمة تطلب الخدمة والإنكليز لا يوافقون) وبعد أن أجهشت في البكاء طويته ووضعته في جيبي ثم أخذ الوزراء والنواب ورجال البلد يتواردون على الدار ويتساءلون فيما بينهم عن أسباب الانتحار وكان ياسين الهاشمي والسويدي وأنا مجتمعين في غرفة من البيت واخذ الهاشمي والسويدي فيما بسنهما يتساءلان عن أسباب الانتحار ويستعرضان وينتحلان بعض الأسباب الخارجة عن الموضوع تماماً..

فحين ذلك قلت لهم صبراً عندي أسباب الانتحار الحقيقية، وأخرجت لهما ورقة الوصية من جيبي فأخذ كل واحد منهما يقرأها ويبكي. وقلت إن سبب تأخير عرضها عليكما هو رغبتي في حضور اكبر عدد من الزملاء والأصدقاء خشية ضياعها.. وعندها شكروني وقرروا نشرها حالاً فامتنعت عن إعطائها لأحد وأخيرا تقدم صاحب جريدة العالم العربي سليم حسون وتعهد بنشرها ثم حفظها من الضياع وإعادتها لي في الليلة عينها. فطلبت من الوزراء الذين كانوا حاضرين أن يوقعوا على نفس الورقة فوقعوا عليها جميعاً فسلمتها إلى سليم حسون مقابل تعهد خطي على أن يعيدها لي حالاً .. وبعد أن نشرها أعادها لي وسلمتها بيدي لزوجته وأوصيتها أن تحتفظ بها للتاريخ.. وإتماما للفائدة انشر في ختام هذا الباب نص الوصية.

وبعد هذه الفاجعة بيومين طلبني الملك فيصل الأول وأطلعني على كتاب من دار الاعتماد البريطاني شديد اللهجة كاحتجاج على نشر وصية عبد المحسن السعدون ويتطرق إلى وصف الهياج العام الذي حصل بنتيجة النشر وإخلاله بالهدوء والطمأنينة، وفي ختام الكتاب يطالبون الملك بمعاقبة المسببين للنشر.

فبعد أن أتممت قراءة الكتاب قلت للملك إني أنا الذي عثرت على هذه الوصية، وأنا الذي أعطيتها للنشر ولا يوجد مسؤول عنها وعن نتائجها سواي.. فقال لو تريثت قليلا إلى أن نطلع على الوضعية لكان أحسن للمصلحة ولحفظ الأمن والاستقرار.

وبعد ثلاثة أيام كلف المرحوم ناجي السويدي بإعادة تأليف الوزارة بعينها فتألفت من أعضائها السابقين بزيادة السيد خالد سليمان لوزارة الري والزراعة وتبدل طفيف في المناصب.. وسارت تلك الوزارة على المنهاج الذي كانت وزارة المرحوم عبد المحسن السعدون سائرة عليه. وبعد أربعة اشهر حدثت قضية الاستغناء عن قسم من المفتشين الإداريين فاصطدمت مع الإنكليز واستقالت وكلف نوري السعيد بتأليفها كما هو معروف في تاريخ الوزارات.

**************************

وصية رئيس وزراء الحكومة العراقية المرحوم عبد المحسن السعدون

ولدي وعيني ومستندي علي

اعف عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذة وذوقاً مشرفاً. الأمة تنتظر الخدمة، والإنكليز لا يوافقون، ليس لي ظهير... العراقيون طلاب استقلال ضعفاء عاجزون وبعيدون كثيرا عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير نصائح أرباب الناموس أمثالي.. يظنون أني خائن للوطن، وعبد للإنكليز، ما أعظم هذه المصيبة أنا الفدائي الأشد أخلاصا لوطني .. قد كابدت أنواع الاحتقارات وتحملت المذلات في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها أبائي وأجدادي مرفهين.

ونصيحتي الأخيرة لك هي:

(1) أن ترحم إخوانك الصغار الذين سيبقون يتامى وتحترم والدتك وتخلص لوطنك.

 (2) أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصا مطلقاً.

اعف عني يا ولدي علي.

التوقيع

عبد المحسن السعدون

****************************

عندما سمع الملك فيصل خبر انتحار رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون ذهب مسرعا إلى بيت السعدون ووقفه إمام جثمانه وهو يبكي قال: والله لقد خسرتك وخسرك العراق ... والأمة التي تلد مثلك يا عبد المحسن لن تموت .

رحم الله أبا علي، مات وليس لعائلته دار تسكنها، فقررت الحكومة بعد موته تخصيص (50 ألف روبية) لشراء مسكن لعائلته .ويرحمه الله، فقد مات وليس له في البنوك رصيد تعيش منه عائلته من بعده، فقررت الحكومة تخصيص راتب شهري مقداره (1200 روبية) لعائلته.

رحل السعدون ولم يسم شارع باسمه، فقررت الحكومة تسمية (شارع البتاوين) باسم شارع السعدون تخليداً لذكراه.

رحل السعدون عن عيون أهل العراق ولقي في قلوبهم حباً فكلما ضاقت بهم الدنيا تذكروا عبد المحسن السعدون، وكلما هزتهم العواصف والمحن تذكروه، وكلما سقطت تماثيل الطغاة التفوا حول تمثال عبدالمحسن السعدون، وكلما أهينت كرامة العراق التفتوا نحو نصب عبد المحسن السعدون عله ينتفض فيخلصهم مما هم فيه.

لقد جعل عبد المحسن السعدون من العراق بلد الدستورية والديمقراطية والحرية

*************************

التمثال ينتصب في بغداد

حينما شعر العراقيون بفداحة المصاب تنادى عدد من النواب ورجال الصحافة وعلية القوم إلى تكريم عبد المحسن السعدون، من خلال لجنة عليا تعمل على إقامة تمثال له يليق بسجله الوطني وتضحياته؛ على أن يمول من تبرعات أبناء الشعب إسهاما وتقديرا لدوره في الحياة السياسية والاجتماعية وقد عهدت اللجنة إلى الفنان الإيطالي العالمي بيترو كنونيكا بمهمة تصميم و نحت التمثال، حيث سبق لهذا الفنان الكبيران نحت تماثيل لفيصل الأول، ومصطفى النحاس، وأتاتورك، والجنرال مود..

وفي عام 1933 أنجز كنونيكا التمثال ورفع الستار عنه في ساحة صغيرة خضراء تقع في نهاية شارع الرشيد بالقرب من مدخل أبي نؤاس، حيث كان يقابله آنذاك متحف صغير لمخلفات الملك فيصل الأول البسيطة. والتمثال يصور عبد المحسن السعدون واقفا بملابسه الكاملة معتمرا سدارته، ويحمل بيده اليسرى مجموعة من الأوراق ويشير بيده اليمنى إلى صدره وهو مصنوع من النحاس، أما القاعدة فقد كانت من المرمر الصقيل وقد برزت عليها تماثيل صغيرة لبعض شخصيات تلك الفترة من تاريخ العراق السياسي المعاصر .

 لقد تشعبت الآراء حول دلالات الوقوف والإشارة؛ وحينما سألت الشاعر والقانوني الكبير المرحوم إبراهيم الواعظ والذي أسهم إسهاما أدبيا وماديا في حملة التبرعات الشعبية لإقامة هذا التمثال، عن تلك المغازي أجابني وأنا اجلس إليه في دائرة التفتيش العدلي التي كان يرأسها في الخمسينات من القرن الماضي بالقول :

 (أما الوقوف، فهو دليل على الشموخ والاعتداد بالنفس؛ و أما الأوراق التي يحملها فهي دليل على صفحة أعماله وخطاباته؛ وما اليد اليمنى التي تمتد لتلامس صدره إلا إشارة إلى ما أكده في رسالته الأخيرة لأبنه علي.. (أنا الفدائي لوطني)، وإذا ما تملينا تماثيل القاعدة وجدناها ترمز إلى أعضاء مجلس النواب والوزراء وكأنهم يستمعون إليه خطيبا)...

 لقد تنقل التمثال من موقعه الأصلي إلى حيث مدخل جسر الجمهورية ليقابل مدرسة الراهبات؛ ثم إلى بداية ساحة التحرير، ولما كان التصميم والإنشاء اعترضا مكانه في الحالتين فقد نقل إلى موقعه الأخير في ساحة النصر منذ عام 1962 حتى لحظة الإجهاز عليه يوم 6 تموز2003؛ أي بعد ثلاثة اشهر من الاحتلال الغاشم؛ حينما اقتلعته زمرة بمعاولها بينما كانت القوات الأمريكية تجوب شارع السعدون. لقد كان الجمهور المحتشد يستغيث برعاة الدبابات في حين كانت المعاول تهوي على النحاس والحجر، ولا من مغيث حيث اقتلع التمثال من أساسه ونقل على عربة خشبية يسحبها حمار إلى جهة معروفة المظهر، معلومة المخبر.

بادر  أبناء الشعب الغيارى وأبناء عشيرة السعدون وأقاربه وعارفي فضله إلى صب التمثال مجددا بمادة(الفايبر كلاس) لكي يقف مجددا كرمز من رموز العراق وشخصية وطنية لا تنســى.