د. راشد المبارك: بلاط العلماء والأدباء

عبد الرحمن الشبيلي

عبد الرحمن الشبيلي

في عرف الصالونات الأدبية - التي تميزت بها الثقافة العربية وازدهرت في العصور الأموية والعباسية وفي الأندلس وربما قبلها، ثم استمرت في بغداد والشام ومصر والمغرب وفي الحجاز، ونقلت كتب التراث العربي مثل كتاب «الأغاني» للأصفهاني و«الإمتاع والمؤانسة» للتوحيدي أخبارها وما كان يدور فيها - تقف أحَدِية الدكتور راشد عبد العزيز المبارك الأسبوعية في الرياض منذ عام 1981، شامخة بين منابر الحركة العلمية والثقافية الأهلية يشار إليها بوصفها نموذجا حيا عامرا بالمطارحات الفكرية، ومن ورائها إنسان رضع الثقافة في أسرة أحسائية عريقة في العلوم والآداب والتاريخ والفقه والرواية والحفظ والتراث، فلا تكاد تجد فردا فيها إلا وله باع في ميدان أو أكثر من هذه الميادين، ومن بينهم والده الشيخ عبد العزيز حمد المبارك الذي نشأ في الهفوف (الأحساء) وجاب إمارات الخليج ودرس في الكويت وتوفي سنة 1940.

أبو بسام - المولود في الأحساء قبل وفاة والده بخمس سنوات - كرس حياته لإحياء هذا الصالون الشهير، ولعله المتفرد بين أعلام أسرة المبارك بالجمع بين العلوم (الفيزياء والكيمياء) والأدب وفروعه (النقد والرواية وقرض الشعر) لدرجة أن تعمقه والتصاقه بالأدب صارا يطغيان على شهاداته الجامعية والعليا في العلوم البحتة (جامعة جنوب ويلز، كارديف 1974 م) وكان في جمعه بين تخصص العلوم وهواية الأدب نموذجا يذكر بالكثير من العلماء والحكماء العرب والمسلمين القدامى والمعاصرين الذين اشتهروا بهذه الناحية (كابن رشد الحفيد وابن سيناء والخوارزمي ومصطفى محمود والمهدي بن عبود) وقد أصبح صالونه ملتقى فكريا جادا يستقطب كبار الأدباء والعلماء حيث يعد ومجلس الشيخ حمد الجاسر أبرز الملتقيات الثقافية المنزلية في العاصمة الرياض، يشارك في ترتيب موسمهما السنوي متخصصون في مجالاتهما العلمية المتنوعة، وكان ممن حضر أحدية المبارك وحاضر فيها الأديب السوري المعروف سليمان العيسى (وهو صديق الدكتور المبارك، توفي في دمشق سنة 2013) حيث قال في الندوة قصيدة مطلعها:

ضمي إليك بقايا بلبل غرد... يا عذبة الملتقى يا ندوة الأحد

بلغ من انصراف الدكتور راشد عن تخصصه الأساس واهتمامه بهواية الأدب والشعر وروايته ونقده، أن بقيت علاقته بجامعة الملك سعود التي كان أحد أساتذتها، علاقة سطحية، واشتهر عنه أنه لم يتقدم بأبحاث علمية في مجال تخصصه بهدف الترقية كما هو المعتاد من كل أقرانه أعضاء هيئة التدريس، وكان أن طلب التقاعد المبكر وهو لا يزال في أول السلم الوظيفي الأكاديمي، لكنه مع ذلك أنصف تخصصه في مؤلفاته، وكان كثير الاستشهاد في سياق أحاديثه وتعليقاته بالنظريات العلمية المرتبطة بالكيمياء والفيزياء، وبلغ من احترامه للغة العربية أن طبق على نفسه وعلى أسرته قانون التحدث بها في المنزل، ونافح عنها في المحافل المحلية والخارجية، فضلا عن كونه بالطبع ضليعا بها وبقواعدها، وراوية للمئات من قصائد تراثها الشعري.

أما إذا عد رموز الفكر والثقافة التنويريون في الوطن العربي، فإنه من المبرزين بينهم والأكثر فيهم زهدا بالأضواء، وهو صاحب رأي وموقف، لا تنقصه الصراحة إذا كتب أو تحدث، ولا العبارة إذا علق، وهو لا يبالغ إذا امتدح، ولا يجامل إذا استشير أو أشار، سخر ماله ووقف إمكاناته وجهده للمنافحة عن قضايا الأمة وبخاصة مسألة فلسطين، واتخذ من بعض أمسيات الأحدية ندوات صريحة لمناقشتها ولاستضافة رموزها، واجتهد مخلصا في أثناء الحرب العراقية الإيرانية مع عدد من المخلصين للقيام بمحاولة عملية في الوساطة بين الجارتين المسلمتين.

المعروف من كتبه: «هذا الكون ماذا نعرف عنه»، و«كيمياء ألكم»، و«قراءة في دفاتر مهجورة»، و«شموخ الفلسفة» و«تهافت الفلاسفة»، و«فلسفة الكراهية»، و«شعر نزار بين احتباسين»، و«التطرف خبر عالمي»، و«ديوان رسالة إلى ولادة»، وقد تعرض للهجوم نتيجة انتقاده في أبحاثه لشعر المتنبي وشعر نزار، وقد زاملته في المجلس الأعلى للإعلام بضع سنوات، قدم فيها آراء رصينة ومواقف منصفة حازمة، وأفكارا تنويرية جريئة.

قال صديقه المفكر السعودي د. أحمد التويجري وهو يرثيه اليوم «كان نبيلا من نبلاء العرب، أديبا وشاعرا ومفكرا من طراز رفيع، جمع بين الثقافة الواسعة والذاكرة القوية، وإن مختاراته الشعرية التي طالما طالبته بنشرها تفوق كل ما اطلعت عليه سواء في قديمه أو حديثه، وكان كريما مضيافا صاحب نخوة وشهامة، وطنيا حرا مطالبا بالإصلاح في السر والعلن».

وكانت «الشرق الأوسط» نشرت مقالا ضافيا عنه لمحررها الثقافي ميرزا خويلدي بعنوان: «راشد المبارك: المثقف الوسيط «العدد 10922 عام 2008» وأصدر صديقه الدكتور عبد الله القفاري كتابا عن سيرته بعد تكريمه في الأحساء عام 2008، بعنوان «راشد المبارك؛ ريادة في الفكر والثقافة 2009» وكتبت عنه قبل سبعة عشر عاما مقالا بعنوان: راشد المبارك أو ابن رشد الصغير «جريدة الجزيرة 1997».